بين الاستمرارية والتغيير.. كتاب يتناول السياسة الأمنية الفرنسية في أفريقيا
عرض- آية عبد العزيز
استعرض الكتاب المُعنون بـ “السياسة الأمنية الفرنسية المعاصرة في أفريقيا حول الأفكار والحروب”، لـ “بنديكت إرفورث” والصادر في 2019، من سلسلة “Science Po” للعلاقات الدولية والاقتصاد السياسي، ملامح ومرتكزات السياسة الخارجية الفرنسية بشكل عام، وتوجهاتها نحو أفريقيا بشكل خاص، بجانب التدخل الفرنسي في بعض أزمات القارة من خلال الاعتماد على التصورات الشخصية للجهات الفاعلة، مع السعي للإجابة عن سبب استعداد صانعي القرار الفرنسيين لقبول المخاطر والتكاليف الكبيرة التي ينطوي عليها ضمان أو إعادة إرساء أمن الدول الأفريقية.
واعتمد الكتاب على تفسير الأفكار كمتغيرات أساسية، مع تتبع ظهورها وتطورها عبر عملية صنع القرار التي أدت إلى إطلاق عملية “سيرفال” في مالي وعملية “سانغاريس” في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ حيث شهدت السنوات الأخيرة زيادة في النشاط العسكري الفرنسي في أفريقيا. ووفقًا للكاتب على الرغم من الجهود المبذولة لتطبيع علاقاتهم في مرحلة ما بعد الاستعمار والتقليص الكبير لوجودها العسكري الدائم، والوعد المتكرر بأن دور فرنسا كـ “درك أفريقيا” ينتمي إلى الماضي، فقد شاركت القوات الفرنسية في تسع عمليات عسكرية منذ مطلع الألفية.
ركائز التوجه الخارجي للجمهورية الخامسة
أفاد الكاتب أن السياسة الخارجية هي عنصر أساسي في الهوية الوطنية لفرنسا، التي تأسست في أعقاب الحرب الجزائرية؛ حيث رسخ “شارل ديجول” ركائز التوجه الخارجي للدولة الفرنسية الذي تجلى على النحو التالي:
- تعزيز مكانة فرنسا الدولية: كان “ديجول” يحاول إعادة إنشاء أمة ودولة دمرها الانقسام والهزيمة، باحثًا عن مكان ودور لبلاده في النظام الدولي؛ حيث اعتبر أن السياسة الخارجية الاستباقية هي الآلية لإعادة تأسيس مكانة فرنسا، التي لا تزال تمتلك القدرة على أن تكون من بين أعظم القوى في العالم بالرغم من محدودية الموارد والقدرات المادية، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
- الحاجة إلى سياسة عظيمة: أوضح الكاتبأن “ديجول” برر انتهاج السياسة الخارجية الاستباقية لكونها آلية يمكن أن تعوض أوجه القصور في المجالات الأخرى، كما إنها ستجعل فرنسا دولة عظيمة من خلال سياساتها الخارجية ونطاق تأثيرها قائلًا: “بما أننا لم نعد قوة عظمى، فنحن بحاجة إلى سياسة عظيمة. إذا لم يكن لدينا مثل هذه السياسة الرائعة، نظرًا لأننا لم نعد قوة عظمى، فلن نكون أي شيء “.
- ترسيخ سياسة خارجية ثابتة ونخبوية: وفقًا للكاتب اعتبر “ديجول” السياسة الخارجية هي مجال حاسم لابد من أن تكون في يد الرئيس بعيدًا عن الأحزاب والبرلمان، هو ما التزم به خلفاءه من بعضه بالرغم من اختلافاتهم السياسية. لذا فإن هذه المساعي من قبل النخبة السياسية لإعادة تشكيل مكانة القوة العظمى لبلدهم، واستعادة جزء من مجدها السابق ولدت نوعًا محددًا من السياسة الخارجية، عرّفها الباحثين لاحقًا على أنها سياسة خارجية للتنبؤ والتي لا تزال تقدم إطارًا إرشاديًا لصناع القرار الفرنسيين حتى يومنا هذا.
- الاعتماد على التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي في التوجهات الخارجية: أوضح الكاتب أن فكرة إبراز “التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي خارج التراب الوطني”، تكمن في قلب السياسية الخارجية، التي جعلت من فرنسا لاعبًا بارزًا وداعمًا قويًا للديمقراطية وحقوق الإنسان على الصعيد العالمي.
- الإيمان بالريادة والاستقلال: وفقًا لـ “فريديريك تشاريلون” الذي استشهد به الكاتب يمكن وصف السياسة الخارجية بأنها تركيبة من “المكانة والمقاومة وإعادة ابتكار القوة الفرنسية”. ويشير بـ “المقاومة” إلى سعي فرنسا المستمر لتقديم تفسيرات بديلة لنظام الدولي، والذي اعتبره صانعو السياسة الفرنسيون تقليديًا يهيمن عليه الساسة والأيديولوجية الأنجلوساكسون. ويقدم “ريتشارد بالم” أيضًا تعريفًا ثلاثيًا للسياسة الخارجية الفرنسية؛ حيث شدد مثل “تشاريلون” على إنها “البحث عن الريادة في العلاقات الدولية على أساس سياسة الاستقلال الصارم”.
- انتهاج سياسية الكرسي الفارغ: تبنت القيادة الفرنسية في بعض الأحيان “سياسية الكرسي الفارغ” في أوروبا التي تجلت في الانسحاب من هيكل القيادة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي في عام 1966، رفض “جاك شيراك” دعم الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كلها سياساتأوجدت انطباع بأن فرنسا حليف متردد في المعسكر الديمقراطي الليبرالي الغربي.
- الظهور كعضو معادي للولايات المتحدة وذو تأثير عالمي استثنائي: استشهد الكاتب بتلخيص “آلان فراشون” حول نهج الجمهورية بين حلفائها واصفًا فرنسا بأنها “العضو المعادي لأمريكا بشكل استثنائي في المعسكر الغربي الذي يتظاهر – على الرغم من موارده المحدودة – بأن يكون له تأثير عالمي استثنائي”. موضحًا أن هذه النظرة العامة حول معاداة فرنسا لأمريكا فقدت الكثير من صحتها منذ التقارب في ظل إدارة “ساركوزي” نتيجة التعاون الأمني الناشئ فيما بعد بين القوتين لا سيما في مسائل مكافحة الإرهاب. وقد تم تعزيز فهم الدور الاستثنائي لفرنسا من خلال حقيقة أن صانعي القرار الفرنسيين يميلون إلى “الإدراك الذاتي لكونهم مختلفين”.
العلاقات الفرنسية الأفريقية بين التبعية الاستعمارية والنهج متعدد الأطراف
وفقًا للكاتب ارتبطت فرنسا بمستعمراتها في القارة الأفريقية بشكل كبير الأمر الذي ساهم في صعوبة تحليل هذه العلاقات من خلال تطبيق أساليب وأدوات تحليل السياسة الخارجية أو نظريات العلاقات الدولية لفهم هذه العلاقة الخاصة التي كانت تشبه “عالم السياسة الداخلية أكثر من عالم العلاقات الرسمية بين الدول”.
كما أفاد الكاتب أن الاستقلال القانوني للمستعمرات الفرنسية في الستينيات لم يُشكل قطيعة واضحة مع الماضي الاستعماري، بل بالأحرى مثّل إعادة هيكلة العلاقة الإمبراطورية بعد الاستقلال؛ حيث ظلت تبعية المستعمرات السابقة سمة أساسية للعلاقات بين الشمال والجنوب وخلقت “فجوة كبيرة بين سيادتها الرسمية وسيادتها الفعلية”، وذلك من خلال الاعتماد على الروابط الشخصية بين النخب السياسية والتجارية الفرنسية والأفريقية، واتفاقيات الدفاع الثنائية التي تحتوي على بنود سرية للتدخل، والتعاون التقني والثقافي،
بالإضافة إلى الخطابات الأبوية التي تركزت حول الهوية المشتركة والاستعارات العائلية، وعليه فقد استمرت فرنسا ممارسة تأثيرها على السياسة في أجزاء كبيرة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى – بما في ذلك الأراضي الاستعمارية البلجيكية والبرتغالية السابقة – لأكثر من ثلاثة عقود بعد الاستقلال الأفريقي.
وذكر الكاتب بالنسبة لبعض المؤلفين كان قرار فرنسا بتكثيف التزامها بمشروع التكامل الأوروبي منذ نهاية الثمانينيات خطوة حاسمة، ولكنها غالبًا ما تم التنصل منها نحو فك الارتباط التدريجي عن القارة الأفريقية لصالح علاقات أوثق مع الاقتصادات الأوروبية الصناعية والصاعدة في آسيا؛ حيث أصبح الانقسام هو الفكرة المهيمنة لوصف التغييرات في سياسة فرنسا تجاه أفريقيا منذ أوائل التسعينيات التي تمت من خلال تطوير نهج متعدد الأطراف تجاه أفريقيا، ونقل المزيد من المسؤولية إلى البلدان الأفريقية نفسها، من خلال تدشين حوار مع المنظمات الإقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي، وإنشاء برنامج تعزيز قوات حفظ السلام الأفريقية RECAMP في عام 1998، الأمر الذي سمح بدمج التحرك تجاه أفريقيا تدريجيًا في الإطار العام للسياسة الخارجية الفرنسية.
واستكمل الكاتب بالرغم من عدم انسحاب فرنسا بالكامل من القارة الأفريقية، إلا أنها قلصت العناصر الأكثر وضوحًا لوجودها في المنطقة، وخفضت قواتها الدائمة تجنبًا لتدخل العسكري الأحادي في الصراعات الأفريقية؛ حيث أضفى قانون البرمجة العسكرية 1997-2002 الطابع المؤسسي على تقليص القوات الفرنسية المتمركزة في القارة الأفريقية. وفي عام 2008، بدأ الرئيس “نيكولا ساركوزي” في مواجهة معارضة معظم الزعماء الأفارقة الناطقين بالفرنسية والذين اعتزوا بمزايا هذه التأمينات التقليدية على الحياة، ومراجعة عامة لجميع معاهدات الدفاع القائمة. ونتيجة لذلك لم يكن التدخل في مالي ولا عملية حفظ السلام في جمهورية أفريقيا الوسطى مبررًا على أساس أي اتفاقية دفاع ثنائية.
الصراعات في أفريقيا بين عدم التدخل والانخراط الفرنسي شبه الأحادي
ذكر الكاتب أن النهج الخارجي الفرنسي شهد عدد من التطورات تجاه الصراعات القائمة في أفريقيا مع توضيح ذلك من خلال عملية صنع القرار الخاص بالتدخل في صراعات القارة من قبل الدولة الفرنسية؛ حيث استكمل الكاتب أن فترة حكم الرئيس الفرنسي “فرانسوا هولاند” مثًلت فصل جديد في تاريخ التعاون العسكري بين فرنسا والقوى الإفريقية عبر إطلاق عملية عسكرية في مالي، ونشر قوات حفظ سلام في جمهورية أفريقيا الوسطى في غضون عامين من توليه منصبه، بالتزامن مع التحولات التي يشهدها النظام الدولي وسعي كل من أوروبا وأفريقيا لإعادة التموضع في إطار نظام عالمي ناشئ حديثًا.
ففي الحالة المالية كانت نخب السياسة الخارجية منقسمة بين التزامها بحل متعدد الأطراف وأوروبي وإفريقي، والفكرة المتصورة بأن حل الأزمة في مالي مسئولية تتحملها بلدهم. فقد كانت غالبية الجهات الفاعلة، التي كانت تميل أكثر إلى التدخل الأحادي، كانت في البداية في وزارة الدفاع وبين الجيش. في كلا المؤسستين، سرعان ما اقتنع الفاعلون بأن تدهور الوضع في مالي لا يمكن أن يتوقف إلا بمساعدة القوات الفرنسية.
في المقابل، تم تأطير عملية “سيرفال” كتدخل من جانب فرنسا أجريت باسم المجتمع الدولي ولصالح مالي. بعد أربعة أشهر من بدء الحملة العسكرية، واصل هولاند القول “إن الأفارقة هم الذين يحتاجون إلى ضمان دفاعهم، وكذلك فيما يتعلق بالإرهاب. ولكن مع كل ما لن تنسحب فرنسا … نحن بحاجة إلى دعم أمن أفريقيا “. أما الأزمة في جمهورية أفريقيا الوسطى فكانت مثالًا آخر في حين أن التحول من سياسة عدم التدخل إلى التدخل العسكري كان أقل راديكالية وأقل وضوحًا مما كان عليه في حالة مالي، لم تكن القضية نفسها أقل إثارة للجدل. عندما أعلن الرئيس الفرنسي قراره بنشر قوة حفظ سلام في جمهورية أفريقيا الوسطى، تم تأطير التدخل باعتباره الحل الوحيد الممكن. واختتم الكاتب قائلًا: كان فهم الخيارات التي أدت إلى العمليتين العسكريتين الفرنسيتين في أفريقيا هو الهدف الأساسي لهذا الكتاب؛ حيث بدأ البحث بمفارقة الخطاب السياسي الفرنسي الذي روج لفك الارتباط العسكري عن إفريقيا، بينما تدخلت القوات الفرنسية في نفس الوقت في نزاعين في الفناء الخلفي السابق للبلاد، مؤكدًا أن فرنسا لا تزال تواصل دورها كعنصر فاعل أمني قوي ومدافعًا عن السلام في أفريقيا الناطقة بالفرنسية. بصفتها الدولة الغربية الأكثر تورطًا فيها، كما أن الأدوار التقليدية لا تختفي بسهولة، بالرغم من تغير الخطاب السياسي إلا إن المصالح ظلت كما هي. كما كشفت حالتي الدراسة عن مدى تعقيد عملية صنع واتخاذ القرار الفرنسي للتدخل في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى.