مقالات رأي

د. نيڤين مسعد تكتب: قراءة في خطاب تنصيب “بايدن”

أخيراً تم تنصيب چو بايدن ليكون الرئيس الأمريكي السادس والأربعين بعد أن حبس العالم أنفاسه طيلة أسبوعين ، فعلي مدار هذين الأسبوعين كانت هناك مخاوف من إقدام دونالد ترامب علي مغامرة خارجية وتوجيه ضربة عسكرية خاطفة لإيران ، وكانت هناك مخاوف أخري من انفجار العنف الداخلي من جانب أنصار ترامب ، ومع أن عمليات الاعتقال الواسعة لذوي الاتجاهات المتطرفة كانت كفيلة بتوفير حد أدني من الاطمئنان لتأمين مراسم تنصيب بايدن ، إلا أن الساعات الأخيرة فاجأت الجميع بأن الخطر يمكن أن يأتي من العناصر نفسها المكلفة بالتأمين : الحرس الوطني . هذا السياق الخاص جداً لحفل التنصيب مع غياب ترامب عنه وحضور نائبه -سيجعله محفوراً في الذاكرة الأمريكية لفترة طويلة قادمة، وسيظل شاهدًا على ذلك الشرخ الواسع والعميق فيما بين المواطنين الأمريكيين. أما الإدارة الجديدة نفسها فهناك الكثير مما سيُذكّر بها وبخصوصيتها ، فالرئيس بايدن يبدأ عهدته الأولي وهو الرئيس الأمريكي الأكبر سناً ، وهو ثاني رئيس كاثوليكي بعد چون كينيدي وحريص تماماً علي تأكيد هويته الدينية ، ونائبته كامالا هاريس هي أول امرأة تتبوأ هذا المنصب ، وهما معاً -أكثر من أي إدارة سابقة -نموذج لما وصفه مقال الچيروزاليم بوست في يوم التنصيب بالعائلات اليهودية المختلطة blended Jewish families ، فجميع أبنائه تزوجوا من يهود وهو القائل عن نفسه إنه الكاثوليكي الذي تحقق حلمه بزواج ابنته من يهودي ، كما أن زوج نائبته يهودي ، هذا فضلاً عن أن إدارته تعج باليهود .وقد سبق أن رأينا ما فعله جاريد كوشنر صهر ترامب بفلسطين والفلسطينيين .

في التعليق علي خطاب بايدن تبرز ملاحظتان أساسيتان ، الملاحظة الأولي أننا إزاء رئيس دولة مسؤول يتبني خطاباً تصالحياً في مخاطبة المواطنين الأمريكيين كافةً ويدعو لتوحدهم . ومع أنه ركّز علي رفض فكرة تفوق الجنس الأبيض كفكرة تمييزية بامتياز تقسم الأمريكيين وكرر ذلك أكثر من مرة ، إلا أنه رفض أيضاً كل ما من شأنه توظيف الاختلافات بين الأمريكيين وتحويلها إلي مبررات للحرب غير المتحضرة uncivil war ،  من قبيل هذا التوظيف وضع الأحمر ضد الأزرق ( أي الحزب الجمهوري ضد الحزب الديمقراطي ) ، وسكان الريف في مقابل سكان الحضر ، والمحافظين في مواجهة الليبراليين . هذا الهدف الداخلي الكبير جعله بايدن ضرورياً من أجل التغلب علي كل مشكلات المجتمع الأمريكي وبالأساس المشكلة الاقتصادية ومشكلة وباء كورونا ، واستعار بايدن من القديس سانت أوجستين ما يؤكد به أن الشعب هو الذي يرتبط أفراده بمجموعة من المشتركات ، والشعب الأمريكي يشترك في الحرص علي الأمن والكرامة والاحترام والشرف والحقيقة . مثل هذا المدخل الأخلاقي في التعامل مع مشكلة الانقسام الأمريكي يفترض أن هناك اتفاقاً عاماً علي تعريف كل قيمة من القيم التي ذكرها بايدن ، وهذا غير صحيح. فَلَو أخذنا قيمة كقيمة الأمن فسنجد أن ترامب نظر لها بالضبط عكس بايدن ، فالأول اعتبر أن الإرهاب الداخلي هو إرهاب المتظاهرين للشرطة وعلّق بذلك علي احتجاجات سبتمبر الماضي بولاية وويسكنسون بعد إطلاق الشرطة النار علي متظاهر أسود . أما بايدن فعندما تحدث عن الإرهاب المحلي فكان يقصد به إرهاب ذوي الاتجاهات المتطرفة الذين اقتحموا الكونجرس وأردوا تعطيل إرادة الناخبين ، وهكذا يبدو أن أمن فئة من الأمريكيين وكأنه تهديد لفئة أخري . ومثل ذلك ينطبق علي قيمة الحقيقة ، فالحقيقة عند جمهور ترامب تختلف جذرياً عند جمهور بايدن ، وهكذا .أضف إلي ذلك أن دفاع بايدن عن الطبقة المتوسطة التي ينتمي إليها سيجعله يضع يده في عش الدبابير ويدخل به في مواجهة مع كبريات الشركات الأمريكية ومع طبقة رجال الأعمال ، ولا ننسي اتهام ترامب له بالاشتراكية ولا المشنقة التي علقها مهاجمو الكونجرس لكارل ماركس . هناك إذن نوايا حسنة لدي الرئيس الأمريكي ، لكن الطريق أمامه طويلة جداً وصعبة .

الملاحظة الثانية تخص السياسة الخارجية الأمريكية ، فمع أن هذا الشق أخذ مساحة محدودة في خطاب التنصيب لكن ما قيل بشأنه يعد كافياً . لقد تحدث بايدن عن “جعل أمريكا مرة أخري القوة القائدة للخير في العالم “، وأضاف “إننا لن نقود فقط بنموذج قوتنا بل بقوة نموذجنا “، وهذا معناه باختصار إعادة الاعتبار للأدوات الناعمة في تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية ، ومن هنا ما جاء في خطابه عن المثالية الأمريكية و الشراكة الأمريكية الموثوق بها والمرأة الأمريكية التي ناضلت من أجل حقوقها السياسية ، كما جاء كلامه  الكثير عن انتصار الديمقراطية الأمريكية علي من أرادوا تقويضها ، فهذه الديمقراطية هي النموذج الذي تعتزم الولايات المتحدة أن تقود به العالم . بمفهوم المخالفة لن ينتهج بايدن نهج ترامب في استخدام سياسة العقوبات الاقتصادية العنيفة جداً لتطويع سياسات الدول غير الديمقراطية كما فعل مع إيران بشكل أساسي فضلاً عن دول أخري ، وبالتأكيد هو لن ينتهج نهج بوش الإبن في استخدام الأداة العسكرية واحتلال العراق بدعوي تحويله لواحة للديمقراطية في الشرق الأوسط . إن بايدن يطرح مفهوم القيادة بالقدوة كبديل للقيادة بالقوة ، ويعيد انخراط بلاده في الأطر والمؤسسات الدولية بدلاً من تخريبها . الخلاصة إن چو بايدن هو رئيس يمكن التنبؤ بسلوكه ، لن يشعل المزيد من الحرائق في منطقتنا لكنه لن يطفئ الكثير من أسباب اشتعالها ، فالتاريخ يقول إنه لا مستقبل للسلام في غياب العدل .

نقلا عن صحيفة “الأهرام” في عددها الصادر اليوم

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى