
من الأزمة إلى الازدهار.. رحلة القطاع السياحي خلال عقد من الزمان
استطاع القطاع السياحي المصري خلال العقد الماضي أن يحقق العديد من النجاحات، وذلك على الرغم من تعدد الأزمات التي ألمت به في النصف الأول من ذات القرن، ولقد كانت ذروة تلك النجاحات في نهاية العقد خلال 2019م، حيث استضافت البلاد في هذا العام أكثر من 13 مليون سائح، وهو ما يقترب من عدد السائحين الذي تم استقباله في عام 2010م والذي وصل في حينها لأكثر من 14.7 مليون سائح. وحققت البلاد في هذا العام أكبر قدر محقق من الإيرادات السياحية بواقع 13.03 مليار دولار. ويقوم التقرير التالي برصد أهم الأحداث التي عاشها القطاع خلال العقد الماضي، ويبرز أهم ملامح التعافي التي شهدها خلال تلك الفترة.
فترة ما قبل 2011.. السياحة تسير بوتيرة ثابتة
استطاعت مصر خلال العقد الأول من القرن 21 أن تحقق تناميًا سياحيًا متصاعدًا، إذ قفز عدد السياح الوافدين إلى مصر خلال الفترة من 2000 إلى 2010 بأكثر من 60% – انظر الشكل التالي رقم 1 -، ويعزى ذلك التصاعد إلى نجاح الدولة المصرية في دعم نمطي السياحة الثقافية والشاطئية، واللذين يقومان بالأساس على ما تملكه البلاد من مواقع أثرية، وأيضًا على الشواطئ المصرية التي يقارب طولها على 3000كيلو متر. ولقد بني نجاح القطاع السياحي في ذلك العقد على شقين، أولهما دعم البنية التحتية للقطاع السياحي، وثانيهما الاهتمام بالدعاية للمقصد المصري وتحفيز المؤسسات السياحية العاملة بمصر.

أولاً: تطوير البنية التحتية للقطاع السياحي.
قامت الدولة المصرية خلال الربع الأخير من القرن العشرين خاصة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وأيضًا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بدفع الاستثمارات السياحية على تنفيذ المئات من المشاريع في منطقة وادي النيل وأيضا في منطقة البحر الأحمر؛ وذلك لخلق بيئة تتناسب مع متطلبات السياحة الأجنبية خاصة الغربية منها.
ولقد وٌفقت الدولة المصرية إلى حد بعيد في ذلك؛ إذ ضخ المستثمرون المحليون الأجانب قرابة 200 مليار جنيه مصري، وهو ما ساعد على توفر 225،000 غرفة فندقية جديدة داخل 1،500 فندق ومنتجع. وساعدت الاستثمارات الجديدة على رفع عدد الشركات والوكالات السياحية العاملة في مصر إلى 2،500 شركة، بالإضافة إلى زيادة عدد المنشآت الخدمية المتعلقة بالسياحة إلى قرابة 20،000 منشاة، منها 15،000 بازار ومحل للعاديات السياحية و4،500 مطعم سياحي، بالإضافة إلى 450 ناديًا للأنشطة البحرية ورياضات الغوص.
بالإضافة إلى ذلك قامت الدولة بدعم عدد من منشآت البنية التحتية المرتبطة بالعمل السياحي خاصة المطارات والموانئ، حيث شيدت الدولة قبل 2010 6 مطارات جديدة وطورت 4 مطارات أخرى، وهو ما رفع عدد المطارات العاملة في مصر إلى 22 مطارًا دوليًا ومحليًا. واهتمت بتشييد الموانئ السياحية والتي وصلت نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين إلى 15 ميناء سياحيًا بحريًا. وبجانب ذلك اهتمت الدولة بتشييد وتطوير مجموعة من الطرق الرابطة بين وادي النيل والمناطق السياحية والأثرية، خاصة الواصلة إلى منتجعات البحر الاحمر والمواقع الأثرية في صعيد مصر، وكان من أبرز تلك الطرق طريق السويس الغردقة الساحلي وطريق الصعيد الصحراوي الغربي ونفق الشهيد أحمد حمدي الرابط مع جنوب سيناء.
ثانيًا: دعاية جيدة وتحفيز ناجح للنشاط السياحي
خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي وفي العقد الأول من الالفية الجديدة قامت الدولة المصرية بتدشين عدد من الحملات المتعاقبة للترويج للمقصد السياحي المصري، حيث انصب التركيز في تلك الحملات على جذب السائح الغربي ناحية ما تتمتع به البلاد من شواطئ خلابة تضاهي في جمالها شواطئ الريفيرا الفرنسية. وتم الاهتمام بجانب السياحة الثقافية المتعلقة بالآثار المصرية المنتشرة على طول البلاد بامتداد وادي النيل. ولقد ساهمت تلك الحملات في رفع اعاد السائحين الوافدين خلال الفترة بين 1990م و2010م بأكثر من 12 مليون سائح.
وقامت الدولة بتحفيز الحركة السياحية من خلال تقديم الدعم للشركات السياحية وأيضًا شركات الطيران، فقامت بإعفاء الشركات السياحية والفندقية من دفع المستحقات الضريبية المقررة عليها لمدد زمنية تقارب على 5 سنوات، وذلك فور بداية مزاولتها للنشاط، وأقرت إعفاء المنشآت السياحية التي ما زالت في مرحلة التطوير من تسديد أعبائها الضريبية، حتى وإن قامت تلك المنشآت باستقبال السائحين بشكل جزئي. وكذلك قامت الدولة بابتكار برامج تحفيز الطيران والتي تقوم فكرتها بالأساس على الدعم المادي لناقلي الطيران العارض، وذلك عن طريق دفع مقابل مادي لكل مقعد جوي تقوم شركة الطيران بتوفيره إلى الوجهات المصرية.
آثار ملموسة من إجراءات الدولة
كانت لسياسات الدولة الناجحة في إدارة ملف النشاط السياحي قبل 2011، نتائج ايجابية تم ملاحظتها على حالة الاقتصاد القومي المصري، حيث استطاع القطاع السياحي في تلك الفترة أن يستقطب 4.2 مليون عامل وهو ما مثل 13% من قوة العمل المصرية، واستطاع أن يرفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي لجمهورية مصر العربية ليصل إلى عتبة 6% -انظر الشكل التالي رقم 2- ولقد استطاع نشاط القطاع السياحي الملحوظ قبل 2011 إلى وصول مصر للمرتبة 18 عالميًا بين كافة الدول العاملة بالقطاع السياحي، وهو ما وضع مصر إلى جانب الاقتصاديات السياحية الكبرى كفرنسا وإسبانيا واليونان، واستطاعت مصر أن تحوذ منفردة على ما يقرب من 1.5% من جملة الإيرادات السياحية عالميًا.

2011 – 2016.. خمس سنوات من الأزمات
كانت الآمال معقودة في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أن يصل عدد السائحين الوافدين إلى مصر في عام 2011 إلى 15 مليون سائح أجنبي، لكن اندلاع الأحداث السياسية في 25 يناير من ذات العام وما تلاها من أحداث خلال عام 2011 حالت دون ذلك. فلقد سجلت إحصاءات الجهاز المركزي للتعبة العامة والإحصاء انخفاضًا في أعداد السائحين الوافدين إلى مصر بما نسبته 33%، فوصل عدد السائحين الوافدين في هذا العام أقل من 10 مليون سائح.
الليالي السياحية كان لها نصيب هي الأخرى من التراجع؛ إذ لم تسجل إجماليها في هذا العام سوي 51 مليون ليلة سياحية، وهو أقل من العام السابق بنسبة 35%. كل ذلك كان له انعكاس مباشر على الإيراد السياحي المُحصل خلال العام، والذي انخفض ليصل في آخر 2011 إلى 8.7 مليار دولار، وهو اقل من العام السابق بأكثر من 30%.
شهدت السنوات التالية حالة توتر كبيرة في المجال السياحي، فمع سعي الجماعات الإسلاموية للسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، وقيامها بالعديد من المحاولات الخبيثة لتحفيز الشارع ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة وهو السلطة الحاكمة في حينها، فضلا عن دعمها لجماعات الإرهاب المسلح، ارتابت الدول الغربية والآسيوية المصدرة للسياحة من الوضع العام في مصر، لذلك أطلقت العشرات من التحذيرات والقرارات القاضية بمنع مواطنيها من القدوم إلى البلاد، وهو ما أدى إلى وجود تذبذب في أعداد السائحين خلال الأعوام اللاحقة -انظر الشكل التالي رقم 3 -، ولقد كانت نتيجة التذبذب أن خسر القطاع 35 مليار دولار بين العامين 2011 – 2016.

ولقد كانت آخر أزمات القطاع الكبرى هي حادث سقوط الطائرة الروسية “متروجيت 9268″، فذلك الحادث الأليم أدى إلى خسارة القطاع السياحي لأكثر جنسيات السائحين وفودًا إلى مصر وهي الجنسية الروسية، ودفع بعدد كبير من الدول إلى فرض قيود على السفر إلى مصر وفي مقدمتها المملكة المتحدة. ولقد أدت تلك الحادثة منفردة إلى هبوط عدد السائحين بين 2015 و2016م بقرابة 4 مليون سائح، وأفقدت الدولة 3.42 مليار دولار من العائدات السياحية.
2017 – 2019.. عودة الازدهار للقطاع السياحي
ما إن حل عام 2017 حتى تمكن القطاع السياحي من الصعود والتعافي مرة أخرى، فلقد جنى القطاع في هذا العام فقط 7.7 مليار دولار من الإيرادات السياحية، وارتفع عدد السائحين الوافدين إلى البلاد إلى 8.29 مليون سائح. هذا ما دفع بالمؤسسات الدولية للإشادة بما حققته مصر في عام واحد من نجاحات وعلى رأسها منظمة السياحة العالمية والتي عدّت مصر رائدة النمو السياحي بين دول منطقة الشرق الأوسط في عام 2017.
ولقد استمرت النجاحات تتوالى ففي عام 2018م استقبلت البلاد 11.34 مليون سائح ثم في عام 2019م وصل عدد السائحين إلى قرابة 13 مليون سائح، فيما تخطت الإيرادات المحققة من السياحة في هذا العام حاجز 13 مليار دولار، لكن النجاحات التي حققها القطاع السياحي على مدار تلك السنوات الثلاث، لم تكن وليدة الفراغ فهناك عوامل عديدة أدت لصنعها، ومن أهمها:
- الاستقرار السياسي والأمني
منذ تولي النظام الحالي لمقاليد الأمور في البلاد في يونيو من عام 2014م، تم السعي لاستكمال العملية السياسية بشكل سلس، فأجريت انتخابات مجلس الشعب في أواخر أكتوبر من عام 2015، وقامت السلطات بالتركيز على دعم الأمن ودحر الإرهاب الذي حاولت جماعة الإخوان الإرهابية وأنصارها نشره بمصر بعد خلع حكمهم الفاشي من قبل الشعب في ثورة 30 يونيو. ولقد وفقت السلطات المصرية في ذلك حيث انخفض عدد الهجمات الإرهابية بين العامين 2014 و2018م بأكثر من 96 %لتصل في عام 2018 إلى 8 عمليات فقط. وهو ما كان له بالغ الأثر في طمأنة الدول المصدرة للسائحين على رعاياها القادمين إلى مصر.
- التركيز على التسويق للمقصد المصري
قامت الحكومة المصرية في 2018م بوضع استراتيجية دعائية قائمة بالأساس على حملتين إعلاميتين، كانت الحملة الأولى منهم تحت شعار Branding by destination“- التسويق بالوجهة السياحية”، أما الثانية فكانت تحت شعار ” people to people – من ناس لناس”. وكان الهدف من إطلاق الحملتين هو استهداف أكبر عدد من المتابعين حول العالم، فبينما قامت الحملة الأولى بإبراز جمال وثراء المواقع السياحية والأثرية في كل أنحاء البلاد، ركزت الثانية على عرض ثقافة وإبداعات المجتمع المصري لمحبي التراث حول العالم.
ويعزى الفضل في نجاح هاتين الحملتين إلى التعاون الذي أقامته الحكومة المصرية ممثلة في وزارة السياحة مع بعض الكيانات الإعلامية الدولية المرموقة، والتي كانت من بينها شبكات إخبارية ومجلات متخصصة في الدعاية السياحية، وأيضا قنوات عاملة في تصوير وعرض المواد الوثائقية، فنفذت تلك الكيانات الإعلامية خططًا ناجحة لعرض الحملتين الاعلاميتين أمام المشاهدين في كل مكان حول العالم.
وبينما ركزت الوزارة على تدشين حملات إعلامية ناجحة للدعاية للمقصد السياحي المصري، فقد حرصت أيضًا على الترويج للسياحة في مصر عن طريق وسائل أخرى، مثل المشاركة في عدد من المعارض والملتقيات الدولية المتخصصة في الترويج السياحي، إذ قُدرت مشاركات مصر في تلك المعارض في العام 2019 وحده بأكثر من عشر معارض عالمية، لتفوز في أحدها وهو معرض Leisure المقام بالعاصمة موسكو في سبتمبر الماضي بجائزة المشاركة المميزة. وشاركت وزارة السياحة في ذات العام بعدد آخر من المنتديات الاقتصادية الدولية، وذلك لعرض التطور التي شهده القطاع السياحي في مصر أمام صناع القرار ورجال الأعمال حول العالم.
تحفيز المستثمرين السياحين
قامت أجهزة الدولة منذ العام 2017 باتخاذ عدد من الخطوات لدعم وتحفيز الاستثمارات السياحية والفندقية في البلاد، ولقد تمثلت أولى تلك الخطوات في المبادرة التي أطلقها البنك المركزي في فبراير من عام 2017، لتمويل عمليات التجديد التي تحتاجها المنشآت الفندقية وأساطيل السيارات السياحية، حيث خصص المركزي في حينها لتلك المبادرة مبلغ 5 مليار جنيه. ولقد عاد البنك المركزي في مطلع العام الحالي 2020 وأطلق نسخة جديدة من تلك المبادرة مخصصًا هذه المرة 50 مليار جنيه لشركات السياحة، وذلك لكي يشمل أكبر عدد ممكن من الاستثمارات السياحية داخل مصر.
وفى خطوة أخرى لدعم الاستثمارات الفندقية، توصلت وزارتا السياحة والمالية في عام 2018 إلى عقد برتوكول تعاون وذلك لحل مشكلة الضريبة العقارية على المنشآت الفندقية؛ تلك المشكلة التي ظلت عالقة امام المستثمرين السياحين لأكثر من 9 سنوات منذ صدور قانون الضريبة العقارية في العام 2008.
واستكمالًا لمجهودات دعم القطاع الفندقي قامت وزارة السياحة في 2019 بتحديث معايير تصنيف الفنادق في مصر، ليتم لأول مرة منذ 14 عام إدراج فئات جديدة من محال الإقامة السياحية مثل الشقق الفندقية والفنادق البيئية والذهبيات، وذلك لكي يواكب القطاع الفندقي التطورات التي تجري في مجال الخدمة الفندقية على مستوى العالم، ولقد كُلل نجاح هذا المشروع بإصدار القانون رقم 670 الخاص بالقواعد الجديدة لتصنيف المنشآت الفندقية.
العودة للعمل برنامج تحفيز الطيران
سعت الحكومة المصرية إلى الاستفادة من برنامج تحفيز الطيران كأداة فاعلة في دفع عجلة السياحة في مصر، وذلك بتشجع شركات النقل الجوي على توجيه أكبر عدد ممكن من رحلاتها نحو المقاصد السياحية المصرية. فمنذ عام 2018 أخذت الحكومة في انتهاج سياسات جديدة أدت للمساواة بين الطيران العارض “charter“والطيران المنتظم في استفادتهم من المكافئات المالية التي يرصدها البرنامج، لكنها في ذات الوقت اشترطت على الخطوط الجوية المستفيدة من مكافآت برنامج التحفيز، الهبوط في مقاصد سياحية محددة داخل البلاد خاصة في محافظتي البحر الأحمر وجنوب سيناء، وذلك لدفع الحركة السياحية بتلك المقاصد بعد أن تدنت مستويات الطلب عليها.
ولقد أثبتت إحصاءات وزارة السياحة نجاح هذا الأسلوب الجديد في إدارة برنامج تحفيز الطيران، إذ ارتفعت أعداد السائحين الوافدين إلى مصر على متن الرحلات الجوية المشمولة بالبرنامج المذكور لتصل إلى 4.5 مليون سائح في العام 2018، وذلك بعد أن كانت 3.2 مليون سائح فقط في العام 2017.
تحسين الخدمة السياحية
لرفع مستوى الخدمة المقدمة للسائحين في كافة المقاصد المصرية، حرصت الحكومة المصرية ممثلة في وزارة السياحة على وضع استراتيجية لتأهيل وتنمية المورد البشرى بالقطاع السياحي، وذلك بالتعاون مع الاتحاد المصري للغرف السياحية، فبدأت الوزارة في مشروع تدريبي لمختلف الطوائف العاملة بالسياحية، مثل المرشدين السياحيين وعمالة الفنادق والأنشطة الترفيهية، بالإضافة إلى مندوبي الشركات وقائدي السيارات السياحية.
ولقد مكنت تلك الاستراتيجية من توفير التدريب لأكثر من 12،200 موظف بالقطاع الخاص من العاملين بالسياحة، وذلك على مدار العامين 2018 و2019 ومن المخطط أن تستكمل الوزارة تلك الاستراتيجية حتى العام 2023، وذلك لكي يحصل كافة العاملين في القطاع السياحي على التدريب المناسب لوظائفهم.
ختاما، يمكننا القول إن القطاع السياحي استطاع خلال الفترة من 2011م حتى 2019م أن يجتاز مجموعة كبيرة من الأزمات التي ألمت به، وتمكّن من تحقيق نجاحات استثنائية جعلته يتصدر المشهد الاقتصادي المصري، كأحد أهم روافد الدخل القومي الجيدة. وإذا كانت أزمة كورونا المستجد قد أثرت على حال القطاع خلال عام 2020 المنقضي، فإن مؤشرات التعافي لا تزال تلوح بالأفق، خاصة وأن اللقاحات ضد ذلك الفيروس الخطير بدأت في الظهور.
باحث ببرنامج السياسات العامة