
مدينة “الذهب” الصناعية.. المعدن الأصفر يقود صناعة “التعدين” في مصر
لم تغفل خطة التنمية الشاملة التي أطلقتها الدولة المصرية منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم قبل ست سنوات أيا من القطاعات التنموية.
الحديث هذه المرة سيكون عن قطاع التعدين وبالأخص المعدن الأصفر “الذهب”؛ إذ انطلقت الدولة بخطى ثابته وجادة لتحقيق الاستغلال الأمثل للثروة المعدنية لتكون من القطاعات الاقتصادية الكبرى التي تدر عوائد وإيرادات لخزينة الدولة، لترتفع مساهمتها في الناتج القومي إلى 7 مليارات دولار بحلول 2030.
ومن هنا أصدرت تعديلات قانون الثروة المعدنية الجديد ولائحته التنفيذية، واتجهت لطرح العديد من المشروعات لجذب الاستثمارات ومنها مشروع استغلال الرمال الكاولينية بهضبة الجنة بجنوب سيناء، ومشروع استغلال الطفلة الكربونية بأبو زنيمة بجنوب سيناء أيضًا، ومشروع استغلال الرمال الكاولينية بوادي قـنـا شمال الصحراء الشرقية، ومشروع استغلال الرصاص والزنك بأم غيج جنوب القصير بالبحر الأحمر، ومشروع استغلال القصدير والمعادن المصاحبة بمنطقة المويلحه بالصحراء الشرقية، ومشروع استغلال المعادن الثقيلة بمنطقة حفافيت بجنوب الصحراء الشرقية، ومشروع استغلال النفلين سيانيت بمنطقة جبل ابو خروق بجنوب الصحراء الشرقية.
وأمس السبت ، وجه الرئيس السيسي، بإنشاء مدينة متكاملة لصناعة وتجارة الذهب في مصر، وتوفير الموارد المالية لها وفق أحدث التقنيات في هذا المجال لتعكس تاريخ مصر الحضاري العريق في هذه الصناعة الحرفية الدقيقة، على نحو متكامل من حيث توفير مستلزمات الصناعة والإنتاج، والمعارض الراقية، وتدريب العمالة لصقل قدراتهم، ومراعاة النواحي اللوجيستية من حيث اختيار موقع المدينة للاستفادة من شبكة الطرق والمحاور الجديدة لسهولة النفاذ منها وإليها واستقبال الزائرين.
موقع مصر على خريطة الذهب العالمية
كانت الحضارة المصرية من أقدم الحضارات التي عرفت طريقها إلى نشاط استخراج وتصنيع الذهب. هذا ما تدلنا عليه الاكتشافات الأثرية؛ فعلى سبيل المثال عُثر على خنجر مقبضه من الذهب الخالص يرجع إلى حوالي 4000 سنة ق.م.، كما وجدت مشغولات ذهبية أخرى ترجع إلى ما قبل عهد الأسرة الخامسة. ومنذ ذلك الحين لاقي قطاع الذهب اهتمامًا خاصًا، وعلى مدار السنوات الماضية كانت الحكومة المصرية تطرح مزايدات لشركات التعدين العالمية للبحث عن الذهب والمعادن المصاحبة له واستغلالها في مئات المناطق بالصحراء الشرقية وشبه جزيرة سيناء.
وشهدت السنوات الأخيرة قفزات هائلة في هذا القطاع، حيث سجلت صادرات الذهب والحلي والأحجار الكريمة زيادة قدرها 76% خلال الـ 9 أشهر الأولى من 2020 بعدما وصلت إلى 2.4 مليار دولار مقابل 1.392 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي. وقد صُدرت خامات الذهب والحلي والأحجار الكريمة لنحو 32 دولة خلال التسعة أشهر الأولى من عام 2020، من بينهم 5 دول جديدة هي: كرواتيا، التشيك، النمسا، مدغشقر، كوريا الجنوبية، إذ لم يتم التصدير لها خلال الفترة من يناير إلى سبتمبر من العام الماضي. ويرجع ذلك تحديدًا إلى افتتاح مرحلة جديدة في منجم السكري، وتراجع مشتريات الذهب في مصر، وفتح المجال لتصدير كميات أكبر للخارج.

وساهم في هذا التحسين التعديلات التي طرأت على قانون الثروة المعدنية التي أخذت في حسبانها آخر المستجدات في صناعة التعدين على مستوى العالم، واعتمدت نظام الضرائب التي تصل إلى 22.5% بدلًا من نظام اقتسام الإنتاج الذي كان معمولًا به في الماضي، إضافة إلى نسبة مشاركة مجانية لا يقل حدها الأدنى عن 15%. وكنتيجة لذلك، فازت 11 شركة بأول مزايدة للتنقيب عن الذهب منهم 7 شركات أجنبية و4 شركات مصرية، وقُدرت مساحة المناطق المطروحة بـ 56 ألف كيلومتر مربع، تم تقسيمهم إلى 320 قطاعًا في الصحراء الشرقية والبحر الأحمر، على أن تكون مساحة كل قطاع حوالي 170 كيلو متر مربع.
وانعكس ذلك على احتلال مصر المركز الـ 6 عربيًا في قائمة الدول الأكثر حيازة للذهب، والمركز الـ 40 عالميًا، بحيازة 79.5 طن، بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي. ويوجد في مصر 270 موقع ذهب منهم 120 منجما معروفين موزعون على 4 قطاعات هم: القطاع الشمالي “شمال طريق سفاجا – قنا”، ويضم مناجم فاطيرى وروح الحديد وأم بلد. والقطاع الأوسط الذي يمتد من جنوب طريق سفاجا – قنا حتى جنوب طريق إدفو مرسى علم ويضم 62 منجمًا أبرزهم أم الروس والبراميه والسكري ودنجاش وأبومروات. والقطاع الجنوبي الشرقي جنوب برانيس على البحر الأحمر ويضم 7 مناجم أبرزها حوتيت وروميت وكروبباى. والقطاع الجنوبي في نطاق وادي العلاقي ويضم 19 موقعًا للذهب أشهرها أم جريات وجيمور وأم الطيور وسيجه وشاشوبة.
خريطة مناجم الذهب في مصر
يمكن ألقاء نظرة عن قرب على خريطة توزيع مناجم الذهب في مصر، حيث يأتي منجم السكري في صدارتها فهو واحد من أكبر المناجم في العالم، تم اكتشافه عام 1995 وبدأ العمل فيه عام 2009، ويقع في منطقة جبل السكري في الصحراء الشرقية على مسافة 30 كيلو متر جنوبي مرسى علم. ومنجم حمش الذي تم إنتاج أول سبيكة ذهبية تجريبية منه عام 2007، وهو يقع على بعد 100 كم غرب مدينة مرسى علم بالصحراء الشرقية بالقرب من محمية وادي الجمال – حماطة. ومنجم وادي العلاقي، وهو يقع على بعد 250 كيلو متر جنوب شرق أسوان، وتم اكتشاف الذهب بكميات اقتصادية وبمعدلات تركيز مرتفعة تتراوح بين 2 و4 جرام في الطن.
وفي الصحراء الشرقية، يقع منجم عتود غرب مرسى علم بـ 55 كم وجنوب طريق إدفوـ، ويشمل احتياطي 8595 طنًا بمتوسط نسبة ذهب 12.68جم في الطن، ويوجد الذهب في عروق مرو حاملة للذهب تنتشر في منطقة حوالي 9 كم2 محصورة في صخور الجابرو المكونة لجبل عتود. ومنجم البرامية الذي يعتبر واحدًا من أكبر وأغنى مناجم الذهب في مصر، ويقع احتياطيه في 3 نطاقات؛ الأول يحتوي على 14.8 مليون طن خام بنسبة ذهب 1.07جم في الطن ويحتوي على كمية من الذهب 16 طنًا، والثاني يضم 1.22 مليون طن خام بنسبة ذهب 2.85جم للطن ويحتوي على كمية ذهب 3.5 أطنان، والثالث يشمل 0.5 مليون طن خام بنسبة ذهب 3.00 جم في الطن ويحتوي على كمية ذهب 1.5 طن، ويقع المنجم عند الكيلو 105 شرق مدينة إدفو ويخترقها طريق إدفوـ-مرسى علم ويوجد فيه الذهب في عروق المرو.
أيضًا منجم فاطيرى الذي يقع في الكيلو 30 شمال طريق سفاجا-قنا، ويوجد الذهب في قواطع الفلسيت المتحول بحجم احتياطي يقدر بـ 70 ألف طن بمتوسط ذهب قدره 14 جم في الطن. ومنجم أبومروات الذي يقع على طريق سفاجا – قنا بالقرب من جبل أبو مروات، وشمال شرق وادي أبو مروات أحد فروع وادي سمنة، يوجد به معدن للذهب والفضة مصاحبًا لتمعدنات من الزنك والرصاص والنحاس بحجم احتياطي 290 ألف طن بنسبة ذهب تترواح ما بين 3.8 – 7.7 جم في الطن وفضة تترواح ما بين 43.3 – 102 جم في الطن. ومنجم سمنة على جنوب طريق سفاجا-قنا ويوجد الذهب في عروق المرو باحتياطي يقدر بـ 10 آلاف طن بمتوسط ذهب قدره 15.5 جم في الطن.

كذلك منجم العرضية جنوب طريق سفاجا-قنا، حيث يوجد الذهب في عروق المرو باحتياطي 20 ألف طن بمتوسط ذهب قدره 7.75 جم في الطن و50 ألف طن خام بمتوسط 2 جم في الطن. ومنجم حمامة الذي يقع في منتصف المسافة بين قنا وسفاجا، 45 كم جنوب طريق قنا – سفاجا، ويوجد الذهب والفضة في نطاق الجوسان، ويتكون من أكاسيد وكربونات ناتجة عن أكسدة معادن كبريتدات الزنك والنحاس والرصاص ويتراوح نسبة وجود الذهب في العينات السطحية من 0.1 -5.5 جم في الطن بينما تترواح نسبة الفضة من 0.2 -18 جم في الطن. ومنجم أم عود الذي يقع عند الكيلو 55 جنوب غرب مدينة مرسى علم، 6 كم إلى الغرب من الصباحية، ويوجد الذهب في عروق الكوارتز الأبيض الرمادي ويمثل حجم الاحتياطي 15600 طن، ونسبة الذهب 22.7 جم في الطن.
ومنجم أم سمرة عند الكيلو 60 شمال شرق البرامية و45 كم طريق إدفو-مرسى علم، ويوجد الذهب في عروق المرو بنسبة تترواح ما بين 0.5 إلى 12 جم في الطن. ومنجم ساموت جنوب شرق البرامية بنحو 45 كم، 30 كم إلى الجنوب من طريق إدفو-مرسى علم، ويوجد الذهب في عروق المرو بمتوسط 10 جرامات في الطن كما يوجد الذهب في نطاقات التحول المصاحبة لعروق المرو بمتوسط 2.5جم في الطن. ومنجم دنجاش جنوب طريق إدفو-مرسى علم، حيث يوجد الذهب في عروق المرو بنسبة تترواح من 1 جم إلى 21 جرامات في الطن، كما يوجد الذهب في نطاقات التحول المصاحبة لعروق المرو بنسبة تترواح ما بين 0.5 و3.7 جم في الطن.
وفي حلايب وشلاتين هناك صخور مليئة بالذهب، فهناك جبل الأنبط الذي استخرج سكان القبائل 7 كجم منه في صورة عرق ذهب، وعرق آخر يزن 6 كجم من منطقة أخرى من الجبل نفسه. وأخيرًا في منطقة المثلث الذهبي التي تقع بمحافظة البحر الأحمر ما بين سفاجا والقصير يوجد 94 موقعًا للذهب.
وحاليًا يوجد في مصر 4 شركات عالمية منتجة للذهب، أشهرها الشركة الفرعونية لمناجم الذهب “سنتامين” الّتي يملكها الجيولوجي المصري سامي الراجحي ومركزها أستراليا وتعمل في منجم السكري، وشركة “ماتزهولدنج” القبرصية التي تعمل في منجم حمش. علاوة على شركتين للبحث والتنقيب عن الذهب، هما “آتون ميننج” الكندية، و”ثاني دبي” الإماراتية.
مدينة الذهب الصناعية
بدأ الحديث عن إقامة مدينة صناعية متكاملة للذهب عام 2017، وفي ديسمبر 2020، أعلن وزير التموين والتجارة الداخلية الدكتور علي المصيلحي عن تواصله مع وزارة الإسكان لتخصيص قطعة أرض بمنطقة “العبور” لإنشاء مدينة خاصة بصناعة الذهب. ووفقًا للمخططات ستضم المدينة 400 ورشة فنية لإنتاج الذهب، و150 ورشة أخرى تعليمية، ومدرسة تعليمية كبيرة على مساحة 20 فدانًا لإعداد كوادر في مجال صناعة الذهب، ومعرض دائم طوال العام، وتوفير أماكن عرض مناسبة لتجار الذهب بمصر.
وتنبع أهمية تلك المدينة –الأولى من نوعها على مستوى العالم -من كونها ستوفر المساحات الكبيرة والأساسات اللازمة لورش تصنيع الذهب، ما يمكنها من توفير جميع مستلزمات الإنتاج الحديثة واستخدامها في عملية التصنيع بدلًا من المعدات القديمة صغيرة الحجم، نظرًا لصغر حجم الورش المتواجدة حاليًا في سوق الصاغة. ويفتح هذا المشروع الهام أفاق جديدة أمام الشباب المصري ويوفر فرص عمل لا حصر لها كونها أحد الصناعات كثيفة العمالة، ويساهم في الحفاظ على مقدرات الدولة، وتحقيق أفضل استقرار للأسعار في سوق الذهب بمصر ومنافسة السوق العالمية، وإنشاء بورصة مصرية للذهب، ومسبوكات تتيح صناعة الحلى والأدوية ومستحضرات التجميل، علاوة على أنها ستزيد من نسبة مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي، ودقع معدلات النمو الاقتصادي. والأهم من ذلك، إعطاء قيمة مضافة للذهب المصري حيث إن المناجم تستخرج كميات كبيرة من الذهب الخام يتم تنقيتها في الخارج.
وضمن خطتها لتعظيم صناعة الذهب في مصر، وتوفير بيئة ملائمة لإطلاق مشروع مدينة الذهب الصناعية، أطلقت مصلحة الدمغة والموازين المشروع القومي لرقمنة دمغ المصوغات بالليزر، بتكلفة تصل إلى 50 مليون جنيه يتم مضاعفتها قريبًا بعد شراء معدات جديدة، لحماية المشغولات الذهبية والقضية وغيرها من الأحجار الكريمة من الغش والتلاعب فالمواطن عند شراء أي قطعة ذهبية يتم وضعها على جهاز لقراءة الباركود كما يحدث في السلاسل التجارية، ليظهر رقم الباركود والتأكد من أن القطعة الذهبية مدموغة ومسجلة وأصلية. إلى جانب تشجيع الصناعة الوطنية في قطاع المشغولات الذهبية والعمل على تطويره بنا يحقق المنافسة الإقليمية والعالمية؛ إذ سيساعد ذلك في زيادة صادرات الذهب، كون هذا النظام يحمي المشغولات من التشويه عند دمغها كما كان يحدث في السابق عن طريق “القلم”.

كما أنشأت الدولة أول مدرسة تكنولوجيا تطبيقية متخصصة في صناعة الحلي والمجوهرات بنظام الـ 3 سنوات، استقبلت الدفعة الأولى في العام الدراسي (2019 – 2020)، كجزء من خطة الدولة لإنشاء المدارس التكنولوجية، وهي تقبل الطلاب بعد نهاية المرحلة الإعدادية، وتعطي شهادة دبلوم متوسط، وهناك مساعي لتطوير الدراسة حتى تمنح درجة البكالوريوس. وحاليًا، يدرس بالمدرسة حوالي 400 طالب من الإناث والذكور، يحصلون على مكافأة تتراوح بين 300 و600 جنيه شهريًا. وتعمل المدرسة بنظام يومين نظري و4 أيام دراسة عملية بالورش، وتضم ورش التدريب أحدث اﻷجهزة والمعدات في صناعة الذهب والمجوهرات.
وتهدف المدرسة لتخريج جيل جديد لديه المعرفة ومواكب للعصر، بما ينعكس على شكل المنتجات، فتنتج مصوغات خفيفة ولها أشكال عصرية، بدلا من الأشكال القديمة والأوزان الكبيرة. وتتضمن الدراسة العلمية معرفة أصول الصناعة، وفهم العيارات، والإضافات التي تضاف على الذهب البندقي ليتحول لعيار 21، وكيفية تحويل الذهب عيار 21 لعيار 18.
ختاما
يساهم هذا المشروع الواعد في دفع عجلة التنمية بمصر، عبر استقطاب الشركات الكبرى في التنقيب عن الذهب، وفتح مجالات جديدة للمستثمرين، وإعطاء قيمة مضافة للذهب المصري، وتحويل مصر لبوابة أفريقيا على العالم في مجال صناعة الذهب، وخلق علامة تجارية للذهب خاصة بمصر تصدر للخارج، بما يعُد مصدرًا إضافيًا للعملة الصعبة، وينعكس إيجابيًا على قوة الجنيه المصري في مواجهة عملات العالم لا سيَّما الدولار. كما من شأنها أن تعكس تاريخ مصر الحضاري العريق في هذه الصناعة الحرفية الدقيقة، على نحو متكامل من حيث توفير مستلزمات الصناعة والإنتاج، والمعارض الراقية، وتدريب العمالة لصقل قدراتهم، ومراعاة النواحي اللوجستية من حيث اختيار موقع المدينة لسهولة النفاذ منها وأليها.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية