
أردوغان 2021.. ما بين مطرقة بوتين وسندان جو بايدن
مع حلول العام 2021، تدخل تركيا العد التنازلي للانتخابات البرلمانية العامة عام 2023، حيث تحتشد المعارضة العلمانية والإسلامية على حد سواء بوجه التحالف الحاكم بين حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان والحركة القومية التركية برئاسة نائب رئيس الوزراء الأسبق دولت بهتشلي.
وبينما تسعى المعارضة التركية إلى صياغة مشروع مشترك بين العلمانيين والإسلاميين، فإن أردوغان يسعى إلى ما أسماه “التأسيس الثاني لحزب العدالة والتنمية”، إذ استمع أخيرًا إلى الأصوات الرافضة لاستمرار بيرات البيرق وزير الخزانة والمالية في منصبه، بعدما انهارت الليرة التركية إلى مستويات غير مسبوقة أمام سلة العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار الأمريكي.
انهيار مشروع التوريث التركي
خطة أردوغان الذكية قطعت الطريق أمام 40 % من نواب حزبه في البرلمان للانضمام إلى الوزير الأسبق علي باباجان الذي أسس حزبًا يسعى إلى خلافة حزب أردوغان على رأس مشروع العثمانيين الجدد، وهو الرقم الذي قدمه وزير الداخلية سليمان صويلو إلى أردوغان، الذي كان يسعى إلى توريث رئاسة الحزب ورئاسة تركيا إلى بيرات البيرق باعتباره صهره وزوج ابنته إسراء أردوغان.
البيرق كان يتولى أمور القضاء في الخفاء، ويشل حركة وزير العدل عبد الحميد غول، ويتدخل أيضًا في تعيينات أجهزة الأمن وقيادات الحزب، وتخوف أردوغان من أن يؤدى مشروع التوريث التركي إلى تبعات نالت القيادات السياسية في مصر والجزائر واليمن وسوريا والعراق قبل سنوات الربيع العربي جراء محاولات التوريث السياسي للسلطة.
صراع مراكز القوي يقلق أردوغان
وعلى ضوء التحالف الذي جرى بين حزبه والحركة القومية من أجل خوض انتخابات البرلمان عام 2018، أصبح مجلس الوزراء التركي حلبة صراع أمام أعين أردوغان ما بين الإسلاميين في حزبه والقوميين في حزب بهتشلي، بعد أن حاول أردوغان لسنوات إبعاد القوميين عن السلطة لصالح الإسلاميين، إلا أنه اضطر للتحالف معهم عقب انتخابات 2018 للحفاظ على الأغلبية البرلمانية الهشة.
الحركة القومية بدورها لم تكن على وفاق مع حزب أردوغان، وقد رأى دولت بهتشلي أن الدخول مع أردوغان في تحالف العام 2018 سوف ينتج عنه سيطرة القوميين على مشروع العثمانيين الجدد والأغلبية الوزارية والبرلمانية من أجل ترجمة هذه السيطرة إلى نتائج أكبر في انتخابات البرلمان 2023 بما يمكنهم من الوصول لمقعد الرئاسة أو على الأقل الظفر بأغلبية برلمانية تجعل رئاسة أردوغان منصبًا شرفيًا.
الصراع بين الإسلاميين والقوميين داخل الحكومة
صراع مراكز القوى بين أردوغان والقوميين جعل الأخير يُعيّن الإسلاميين ومُنتسبي الطرق الدينية في أجهزة الدولة والقضاء والأمن حتى يضمن ولاءهم، بينما يعتمد القوميين على وزير الداخلية القوي صويلو لنشر سلسلة تعيينات مماثلة داخل الأجهزة الأمنية، ما أصبح يهدد سيطرة أردوغان على هذه الأجهزة لدرجة أن القوميين أصبحوا يطالبون أردوغان بإقالة مدير المخابرات المقرب للعثمانيين الجدد هاكان فيدان.
وفى نفس السياق سارع أردوغان إلى تعيين عدد من القوميين في حزبه من الموالين له وليس للحركة القومية في مناصب مهمة وحساسة باعتبارهم مستشارين له، بينهم وزير الداخلية الأسبق إفكان آلا، ولطفي علوان وزيرًا للمالية، ويسعى أردوغان في الفترة المقبلة إلى التخلص من سرهات البيرق شقيق بيرات البيرق، والمسؤول عن الذراع الإعلامية الأقوى للحزب.
ولقد حسم أردوغان بعض الصراعات بين مراكز القوى داخل مجلس الوزراء والصراع بين الاسلامين والقوميين أيضًا داخل الوزارة لصالح من يخدم بقائه في السلطة، فوزير الداخلية رغم أنه محسوب على التيار القومي إلا أن بقاءه يخدم استمرار التيار القومي في الوزارة، بينما عزز صهره الفاشل اقتصاديًا قوة أردوغان في البقاء داخل حزبه بالصورة البراقة والنظيفة التي يحاول تكريسها منذ عقدين من الزمن.
كما أن إزاحة زوج ابنته وتقريب عناصر قومية إلى حاشيته الحزبية سوف يمنع حدوث انشقاق جديد داخل الحزب لصالح أحزاب احمد داود أوغلو وعلي باباجان وحاشية عبد الله جول، بعد أن أصبح ثلاثتهم يتنافسون فيما بينهم على وراثة زعامة تيار العثمانيين الجدد حال فشل أردوغان في حسم انتخابات 2023.
سابقًا كان أردوغان يطرد كل من يختلف معه فورًا، ولكن عقب تأسيس الأحزاب الإسلامية العثمانية الجديدة وبدء المفاوضات بين داود أوغلو وباباجان من جهة وحزب الشعب الكمالي الأتاتوركي وحزب الخير بالإضافة إلى بعض الأحزاب المعارضة اليسارية، تفهم أردوغان أخيرًا أن طرد الكوادر والأجنحة من داخل حزبه سوف يؤدي إلى تعزيز المعارضة ضده والأحزاب الإسلامية الجديدة.
ما بين مطرقة روسيا وسندان أمريكا
ومثلما شارفت اللعبة الداخلية على نهايتها أمام أردوغان فإن لعبته الخارجية في التأرجح ما بين روسيا والولايات المتحدة الامريكية قد شارفت أيضًا على المشهد الأخير، على ضوء رؤية إدارة جو بايدن التي تصدق على رؤية الرئيس الأسبق باراك أوباما حيث يرى الأخير أن أردوغان ورقة إسلامية محروقة، ويجب استبدال ورقة إسلامية أخرى به، وأن أردوغان –وفقًا لتصريحات أدلى بها أوباما في عامه الرئاسي الأخير– يتحمل مسؤولية فشل الرؤية الأمريكية حيال الثورة السورية واستغل هذا الدعم للتحول إلى ديكتاتور جديد لتركيا.
وكان أردوغان عقب التمرد الفاشل في 15 يوليو 2016 قد سعى إلى عدم الارتماء في معسكر أجنبي واحد، وقسم نشاطه ما بين أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي، ولكن لاحقًا بدأ يظهر أن العكس هو ما حدث، وأن هناك اتفاقًا بين القوى العالمية الثلاث على استنزاف واستخدام الدور التركي في الملفات الإقليمية حتى الرمق الأخير طالما أن أردوغان قد وصل محطته الأخيرة.
وأصبح واضحًا لأردوغان أن الهيمنة الروسية على الدور التركي الإقليمي قد وصلت إلى مستوى غير مسبوق، إذ إن روسيا بيديها أن تطلق الجيوش السورية والإيرانية على المناطق التي تحتلها تركيا شمال سوريا، وكذلك فإن رفض روسيا للتنسيق مع تركيا دون أن تقبل أنقرة بشروط موسكو في الملف الليبي قد أدى إلى تعقد النفوذ التركي في محور طرابلس – مصراته غرب ليبيا.
وأخيرًا في الحرب الأرمنية الأذرية فإن روسيا قد استخدمت تركيا من أجل تأديب حكومة أرمينيا المتمردة الساعية إلى الإبحار بأرمينيا من رابطة الدول السوفيتية السابقة إلى رابطة نفوذ الاتحاد الأوروبي، ولم ينتهِ التدخل التركي في هذه الحرب إلا بتحقيق هدف روسي مهم يتمثل في صناعة تنافس بين تركيا وإيران في أذربيجان ما يجعل الأخيرة أيضًا بحاجة دائمة إلى موسكو.
وكذا فإن التنافس بين إيران وتركيا في ملف قومية الأذريين والحدود المتاخمة لنفوذ الدولتين في غرب سوريا قد قضى على المصالحة التركية الإيرانية التي جرت أواخر عام 2016 من أجل التصدي للتحديدات المشتركة على ضوء صعود دونالد ترامب وقتذاك في انتخابات الرئاسة الأمريكية نوفمبر 2016. وللمفارقة فأن إيران اليوم لم تعد بحاجة إلى تركيا على ضوء قوة اتصالاتها عبر قناة جنيف مع الحزب الديمقراطي الأمريكي بوجه عام والجناح الذي ينتمي اليه جون كيري وباراك أوباما وهيلاري كلينتون وهوما عابدين وسوزان رايس وجو بايدن على وجه التحديد.
قضية بنك خلق التركي المتهم بالتحايل على العقوبات الأمريكية على طهران سيُعاد النظر فيها هي الأخرى، وستُفتح من جديد في نيويورك في مارس 2021، وهي القضية التي تمس أردوغان وعددًا من وزرائه القدامى وبيرات البيرق نفسه.
وعلى ضوء رغبة أردوغان في التملص من إملاءات بوتين وضغوط بايدن المستقبلة، فتحت أنقرة خطوط الاتصال مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية على أمل التوصل لتحالفات جديدة ومصالحات تجعل أنقرة تتخلص من فواتير الصراع الإقليمي، بداية من التواصل مع البحرين والسعودية، مرورًا بالاتحاد الأوروبي وفرنسا، وصولًا إلى اليونان وألمانيا، إلى جانب الطلب المستمر من الدول العربية الصديقة لتركيا بأن تتوسط بين أنقرة من جهة ومصر والإمارات من جهة أخرى.
ومن غير المستبعد أن يتوصل أردوغان إلى مساحات للتوافق مع الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، ولكن ذلك الاجراء سوف يستلزم درجة من التنازلات التركية غير المسبوقة والتي سوف تعد هزائم إقليمية وجيوسياسية تتضمن الانفصال التام عن التنسيق مع روسيا فيما يتعلق بملف التسليح أو شرق المتوسط وليبيا وحتى شمال سوريا، وبالتالي فإن أردوغان اليوم أمام مفاضلة حاسمة ما بين فلاديمير بوتين وجو بايدن.
خارطة الطريق لأردوغان
للمفارقة فإن أردوغان لا يمانع الجلوس مع داود أوغلو وباباجان، شريطة أن يتخليا عن التواصل مع المعارضة العلمانية، والقبول باستمرار النظام الرئاسي وأن يكون لحزبه حصة الأسد في مجلس النواب ومجلس الوزراء. ويبحث أردوغان التخلص من القوميين حلفائه في الحكم مقابل التحالف مع أحزاب جديدة سواء علمانية او إسلامية، ما يجعل فرضية التواصل مع معسكر المعارضة التركية أمرًا قائمًا طيلة الفترة المقبلة حتى انتخابات البرلمان 2023.
ختاماً إن جعبة أردوغان قد نفدت من الأوراق، وأصبحت مساحات المناورة محليًا وإقليميًا ودوليًا ضئيلة للغاية، وسيشهد مستقبل تركيا وأردوغان والرئاسة والوزارة التركية إضافة إلى حزب العدالة والتنمية مرحلة جديدة عقب انتخابات 2023 ما لم يتوجه أردوغان بنفسه إلى خيار الانتخابات المبكرة كما فعل من قبل تحت ضغط الشارع التركي.
باحث سياسي