
الحرب بالوكالة وسياسة رد الجميل لحكومة آبي أحمد
يحاول آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا رد الجميل لقومية الأمهرة ثاني أكبر قومية بعد قومية الأورومو المنحدر منها، وذلك بوصفها القومية الوحيدة التي ساندته في طموحه لتحقيق الفكر الوحدوي، متناسياً الطبيعة الفيدرالية للدولة الإثيوبية، وهي القومية التي وقفت بجانبه في حربه ضد التيجراي -الأقلية الأكثر تاثيراً والتي وقفت ضد سياسات آبي للإنفراد بالحكم– وذلك لما تتمتع به القومية من ميزات لم تحظ بها أي عرقية أخرى من ناحية، وبوصفها الظهير الانتخابي الأوحد له بعد فقد شعبيته في البلاد.
ويتناسب فكر آبي الوحدوي مع استعادة سيطرتها لأمور البلاد مرة أخرى في ظل مركزية الحكم التي يحاول أن يقود آبي البلاد لها، فأخذ آبي على عاتقه مساعدة قومية الأمهرة في نزاعاتها القبلية وحلم السيطرة، والتي ظهرت في عدة مشاهد:
وتمثل المشهد الأول في اختراق طائرة عسكرية إثيوبية للأجواء السودانية كما أعلنت الخارجية السودانية، وما يقابلها من تصريحات من الخارجية الإثيوبية بنفاد صبرها من الحشد السوداني العسكري على الحدود، والتي تأتي في ظل حملة استعادة الجيش السوداني لأراضيه التي بدأت نهاية العام الماضي من سيطرة ميلشيات الشفتة التابعة لقومية الأمهرة وهجماتها المتكررة والتي تصفها السودان بأنها مدعومة من الجيش الإثيوبي ضد القوات السودانية والتي تتزايد هجماتها في مواسم الحصاد بولاية القضارف السودانية وخاصة في منطقة الفشقة، في ظل رفض الأمهرة ترسيم الحدود لاستمرار سيطرتها على الأراضي السودانية الخصبة بالقضارف.
أما المشهد الثاني فيحتضنه إقليم بني شنقول جوميز –الإقليم ذو الأصول السودانية ويرجع تميزه لحكومة آبي بوصفه الإقليم الذي يبنى على أرضه السد الإثيوبي- إلا أن الإقليم يشهد أعمال عنف ضد المدنيين وقام آبي بزيارته في اعتراف ضمني بخطورة أعمال العنف المتزايدة مع تقارب آبي والأمهرة، للحد الذي أعلنت فيه قوات أمن فيدرالية الانضمام إلى الميلشيات. ومن المتوقع أن ينحدر الأمر إلى تحول الإقليم إلى مكان لحرب بالوكالة بين قوميتي الأمهرة والأورومو.
وأخيراً الحديث عن سد جديد في ولاية الأمهرة والذي تناولته فقط وكالة الأنباء الأمهرية على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، والذي جاء كهدية آبي للقومية في الأعمال التي يسميها بالتنموية وذلك دون تحقيق التوازن الاقتصادي بين الأقاليم الإثيوبية، والذي يعمق لفكرة تزايد النزاع بين القبائل العرقية المختلفة لعدم تكافؤ الفرص وبالتالي إفشال الفكر الفيدرالي الناجح الذي تنتهجه الدول الكبرى والقائم على اللامركزية.
فالحكومة المركزية الإثيوبية تسيطر على موارد الأقاليم وتوزعها بشكل غير عادل وفقًا للأكثر ولاءً، مما سيعمق من تمزق الفيدرالية ومحاولة ترويج آبي لفكرته بأنها الأنسب؛ ولكن يكمن التساؤل في هل سينجح آبي في خداعه الوحدوي أم ستؤدي سياساته إلى مزيد من النزاعات ودعم فكرة الحروب بالوكالة، بل ستنتقل للحد إلى الحروب الحدودية مع السودان التي تحاول إثيوبيا أن تخدع الأطراف بفكرة ترسيم الحدود والتي عادةً ما تكون على الورق والتصريحات الرسمية فيما يشهد الواقع حروب عصابات وربما ستحال إلى حروب بين قوتي البلدين المسلحة في حال التصعيد، أو اللجوء إلى التصعيد الدولي في ظل ما تشهده الحدود السودانية من قصص إنسانية يرويها النازحون من نزاع التيجراي.
المشهد الأول: انتهاكات إثيوبية وتصعيد النزاع الحدودي مع السودان
تتزايد النزاعات على الحدود السودانية الإثيوبية، وخاصة في ولاية القضارف، والتي استقبلت ما يصل إلى 60 ألاف من النازحين إثر الصراع في إقليم التيجراي والتي اتهمت فيه مفوضية حقوق الإنسان الحكومة الفيدرالية الإثيوبية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في المنطقة، وهو ما تبعه زيادة أعداد القوات السودانية على الحدود التي شهدت قبل نحو شهر تعرض مجموعة من القوات السودانية إلى كمين من بعض القوات الإثيوبية وميلشيات الشفتة الإثيوبية، والتي تبعها زيارة الفريق عبد الفتاح البرهان للمنطقة والتي تكررت مرتين في إشارة لتصاعد وتيرة النزاع، والذي أعرب في زيارته الأولى عن قدرة السودان على حماية أراضيها.
وأعقبها عمليات لاستعادة القوات السودانية لأراضيها، والتي تشهد عمليات متفرقة ترتكبها جماعة الشفتة ضد المزارعين السودانيين وخاصة في مواسم الحصاد، وذلك وسط تصريحات إثيوبية بالعلاقات الجيدة مع السودان.
ولكن وسط هذه التصريحات، والإعلان عن استعادة السودان لأراضيها، كان هناك انتقاد من الخارجية السودانية لما وصفته بالانتهاك الحدودي لطائرة عسكرية اخترقت المجال الجوي السوداني، وسط تصريحات من دينا مفتي المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية يتهم فيها السودان بالتوغل في أراضي إثيوبية، ووصف الأمر بالتصعيد الخطير “غير المبرر”.
وهو اليوم ذاته الذي تحطمت فيه مروحية عسكرية سودانية بعد إقلاعها من مطار ود زايد بولاية القضارف الكائنة على الحدود مع إثيوبيا، دون تسجيل أي ضحايا من طاقم الطائرة.
وفي الوقت الذي تصف إثيوبيا السودان بأنه وراء التصعيد، قتلت عصابات “الشفتة” الإثيوبية اثنين ضمن أربعة سودانيين مختطفين في منطقة الفشقة الحدودية، وذلك بعد يومين من مقتل خمسة نساء وطفل. وندد السودان بهذا العدوان الذي تشنه جماعات الشفتة الإثيوبية، والتي تتهمها بأنها مدعومة من القوات الإثيوبية دون اعتراف من أديس أبابا. وطالبت وزارة الخارجية السودانية المجتمع الدولي بالتدخل وإدانة الهجمات التي تشنها جماعات مسلحة تابعة لمنطقة الأمهرة الإثيوبية.
وتضم عصابات الشِفتة كما يشير المراقبون عناصر من شعبي “ولجاييت والأمهرة”، ويقول البعض بأنها بدأت منذ عصر الإمبراطوريات ونشأت في خمسينيات القرن الماضي بغرض السرقة، وقال رئيس مفوضية الحدود السودانية معاذ تنقو، إن التعديات الإثيوبية على أراضي بلاده بدأت منذ ١٩٥٧، مُتحدثا عن “أطماع إثيوبية قديمة في الأراضي الزراعية السودانية”.
ويرى آخرون أنها لم يكن لها آثر يذكر إلا في عام 1995 حيث تحولت إلى عصابة كبيرة معظمها من عرقية الأمهرة وخاصة عقب قيام البشير بسحب الجنود في المنطقة مما أدى إلى التوغل الأكبر للأمهرة على حساب المزارعين السودانيين، وهي العرقية التي دائماً ما ترفض فكرة ترسيم الحدود التي يتحدث عنها الجانبان عقب كل عملية يتعرض لها السودانيون وآخرها اتفاقية ترسيم الحدود مع آبي أحمد.
ولكن كعادة الاتفاقيات الإثيوبية لم تكن غير بروباجندا إثيوبية غير قابلة للتنفيذ، وذلك لسيطرة المزارعين الإثيوبيين على المنطقة الشرقية السودانية في ظل النزاع على الموارد، وتمكنت تلك الجماعات من تفريغ كامل شرق نهر عطبرة من الوجود السكاني السوداني، وتبعها دعم القوات الإثيوبية في السيطرة على الأراضي السودانية.
ويأتي الموقف الرافض للأمهرة والمدعوم من حكومة آبي بعيدًا عن الرغبة في السيطرة على الأراضي السودانية الخصبة ونهب خيراتها، جاء من أجل محاولة إثيوبيا أن تبقيها كمخطط استيطاني ومنطقة حماية لأراضي السد من ناحية، ومن أجل دعم قومية الأمهرة الحليف الأوحد له الآن، ولذلك تستخدم القوات الفيدرالية ميلشيات الشفتة بوصفها بعيدة عن القوات النظامية كستار لتبرير التعديات المنتظمة لها على الحدود السودانية المشتركة والتي تصل إلى 1600 كم، وسط رفض إثيوبي لاتفاقية أديس أبابا لترسيم الحدود 1902، فيما قالت الحكومة السودانية إن لديها ما يثبت مشاركة إثيوبيا في اتفاقية الحدود لعام 1902.
وفي الوقت الذي تدعي إثيوبيا فيه أن هذه الاتفاقية هي اتفاقية أبرمها الاستعمار، كانت قد وصلت المفاوضات بين الحكومتين إلى حل وسط في عام 2008 حيث اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية، ولكن مع سقوط سيطرة التيجراي على الحكم وتولي آبي أحمد السلطة 2018، أدان زعماء عرقية الأمهرة –ساكني منطقة الفشقة- الاتفاق، ووصفوه بأنه صفقة سرية، وقالوا إنه لم تتم استشارتهم بشكل صحيح بشأن ذلك الاتفاق.
وتعد الأمهرة هي القاعدة الانتخابية الداعمة لآبي أحمد الآن بعد أن فقد دعم قوميته العرقية الأورومو، وبالتالي فهي مجاملة سياسية جديدة يقودها آبي لدعم الأمهرة في هجماتهم الحدودية، إلا أنه سيواجه ما كرسته هذه الاتفاقية من وجود لإثيوبيا في إقليم بني شنقول – جوميز الحاضن لسد النهضة الإثيوبي، وكما صرح هاني رسلان مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، “أنه فى حال عدم اعتراف إثيوبيا باتفاقية ١٩٠٢ فلا بد من إعادة بنى شنقول إلى السودان، كجزء من عملية التفاوض“، وتنص هذه الاتفاقية على عدم حقوقية إثيوبيا بناء أي مشروعات على النيل الأرزق إلا بموافقة دولتي المصب مصر والسودان، وهو ما تحاول التنصل منه إثيوبيا أيضًا بعدم الاعتراف بالاتفاقية ولكنها ستقع في اتهام احتلال الإقليم الذي يدين بالولاء لانتماءه القبلي السوداني.
المشهد الثاني: الحرب بالوكالة في إقليم بني شنقول وتهديدات سد النهضة
يعد إقليم بني شنقول الواقع بين إقليمي الأمهرة وأوروميا من الأقاليم الحدودية المضطربة التي شهدت مذابح للمدنيين خاصة في منطقة ميتكيل الريفية بين القمز والأمهرة، وتزايدت عقب إنشاء سد النهضة الإثيوبي، وهو الإقليم المتنازع عليه تاريخيًا بين السودان وإثيوبيا وبموجب اتفاقية 1902، تم تسليمه إلى الملك مينليك الثاني إمبراطور الحبشة مقابل سحب قواته من منطقة القلابات شرق السودان، إلا أن الانتماء القبلي السوداني لقومية بني شنقول جعلها تطالب بالعودة إلى السودان عام 1932، وهو ما تم مواجهته بالعنف من قبل السلطات الإثيوبية، وتم اعتبار مواطني بني شنقول من مواطني الدرجة الثانية.
ويذكر أن قبائل بني شنقول ترى أن وصفها بأنها قبائل إثيوبية إساءة لها ولتاريخها, بوصفها جزءًا لا يتجزأ من الأراضي السودانية حتى عهد المهدية، ويطلق عليها بلغة البارتا “بلا شنقول”، وتم تسمية الإقليم بهذا الاسم وفقاً لدستور 1995 والذي ينص على تسمية الإقليم باسم أكبر عرقية موجودة به، وتليه قومية جوميز.
وتنتمي جماعة بني شنقول إلى الأغلبية المسلمة، وهم ملتزمون بالزي القومي السوداني، وتعاني المنطقة من إهمال الحكومة الفيدرالية التنموية، واستمر النزاع في الإقليم حتى يومنا هذا للحد الذي دفع آبي أحمد لزيارة منطقة ميتكيل نتيجة اشتعال النزاع لحد عدم تجاهل الفيدرالية للأمر في ظل انشغاله بالحرب مع التيجراي.
إلا أن زيارته أعقبها ذبح أكثر من 200 شخص -من عرقية الأمهرة والأوروموس وشناشا- في قرية بيكوجي على أيدي رجال مدججين بالسلاح من مجموعة جوميز العرقية، وفقاً لما نشرته مجلة “فورين بوليسي“، والتي أضافت أنه في ظل التقارب الامهري مع آبي أحمد أثيرت الشكوك من جماعته نفسها، وأدى إلى انقسام القتال في بني شنقول-جوموز منذ ذلك الحين، حيث انحازت عناصر من جهاز الأمن الإقليمي المحلي إلى جانب ميليشيات جوموز ضد الجيش الفيدرالي، مما سيخلق صعوبات سياسية خطيرة لأبي، تقوم على أساس اعتناق فكرة الأورومو بتنازل آبي أحمد لفكرته الوحدوية القائمة على إعطاء مزايا للأمهرة، مع تزايد القلق من إعادة صياغة شاملة للدستور الفيدرالي لعام 1995، الذي يدعم حق الأقاليم في الحكم شبه الذاتي وحق تقرير المصير، مما يضعنا أمام سيناريو تصعيد الأورومو لمطالبهم في ظل سيطرة الأمهرة على ميتكيل الواقعة شرق السودان، وبالتالي تصعيد مطالبهم في مدينة كاماشي التي تحدها من الجنوب أو تقديمهم لدعم أنشطة متمردي الاورومو في أجزاء من ميتكيل، وبالتالي تحول بني شنقول-جوموز إلى ساحة معركة بالوكالة بين أكبر مجموعتين عرقيتين في إثيوبيا، يحاول فيها آبي أن يضمن الأمن للقومية الداعمة له من ناحية وتأمين مشروع السد من ناحية أخرى.
المشهد الثالث: وعود التنمية لإقليم الأمهرة
في صفقة جديدة يقدمها آبي أحمد لقومية الأمهرة، ظهر الحديث عن بناء سد جديد في الإقليم باسم “أجما- شاشا” هذا وقد وصفته “وكالة أنباء أمهرة” على صفحتها على فيسبوك بأنه نجاح جديد لرئيس المنطقة في شكل هدية مقدمة من آبي لحكومة الإقليم على دعمهم له، ويقع هذا السد على نهر صغير بحوض النيل الأزرق (نهر جاما) في ولاية أمهرة على ارتفاع 2800 متر فوق سطح البحر ويبلغ ارتفاعه 45 مترا وطوله 372 مترا.
إلا أن هذ السد يأتي ضمن خطة السدود التي تحاول إثيوبيا أن تبنيها وكان منها مشروع سد كازا وجيلجيل جيبي 3، وفي حديث خبير المياه، عباس شراقي في “روسيا اليوم” حول سد “أجما-شاشا” وصفه بأنه من السدود الصغيرة التي لا تؤثر على تدفق المياه إلى مصر والسودان ولا تسبب أخطارا على دول المصب.
يبدو أن هذا التقارب الواضح بين حكومة آبي أحمد وفكرته الوحدوية وقومية الأمهرة، لن تخدم سوى فكرة تزايد السيطرة الأمهرية في البلاد واستبعاد الأنظمة العرقية الاخرى من المشهد، في ظل فشل الأنظمة السياسية المتعاقبة على توحيد البلاد، بل تم ترسيخ الفكر العرقي عن طريق التقسيم الإثني للفيدرالية الإثيوبية بشكل لا يعتمد على التوزيع العادل للثروة فتقلصت قدرات الأقليات الاقتصادية؛ مما سيزيد من خطر تفكيك الفيدرالية وليس توحيدها على أساس مركزي في ظل نشوب مقاومات من مجموعات عرقية عانت من التهميش ورأت في الحكم شبه الذاتي الملاذ الأمن لها من سيطرة القومية الأمهرية على البلاد.
وبالتالي قد تتسب سياسة آبي في خلق أزمة وجودية للفيدرالية القائمة على تحقيق التنمية لجماعة واحدة بوصفها الداعم الأول له على حساب التنمية في الأقاليم المختلفة، والتي يمكن أن تؤدي إلى ازدواجية قطبية غير مستقرة بين أكبر منطقتين وهي أوروميا وأمهرة.
وهو ما يتطلب إعادة هيكلة للجماعات العرقية الإثيوبية وإعادة ترسيم الفيدرالية لتشمل الأليات وكافة الجماعات العرقية لتحقيق التنافسية الاقتصادية بعيدًا عن موارد دول الجوار والمتمثلة في الحدود السودانية التي تحاول الأمهرة السيطرة عليها في ظل سياسة المجاملات التي ينتهجها آبي أحمد، بشكل غيّر من شكل الدبلوماسية الإثيوبية السودانية وقد يحيل الأمر إلى نزاع على الوجود إما بالشكل العسكري أو بالتصعيد الدولي في ظل ما يعج به الإقليم السوداني من نازحين إثر النزاع في إقليم التيجراي حاملين معهم قصص جرائم ضد الإنسانية انتهجها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
باحثة بالمرصد المصري