
مصر بين 25 يناير و30 يونيو.. بناء “الدولة الوطنية التنموية”
في أقل من ثلاثة أعوام (بين 2011 حتى 2013) مرّ الشعب المصري بتاريخ سياسي حافل بالأحداث، زاخر بالتقلبات التي طالت كل المستويات حتى بات من الصعب الوقوف على مفاهيم محددة تصف تلك الأحداث، من أجل الوصول إلى إدراك سياسي محدد يمكن من خلاله البناء على ما تقدم وتحقيق الأهداف المبتغاة من هذا الحدث. ستحاول السطور القادمة الاقتراب من هذه الفترة بمعالجة أخرى، تحدد ملامح الدولة المصرية بعد 25 يناير 2011، وكذلك بعد 30 يونيو 2013.
بعد سلسلة من الاضطرابات السياسية وحركات احتجاج ومطالب (قامت بها حركات سياسية مثل “كفاية”، و6 إبريل)، في موازاة الضغوط الخارجية على نظام الرئيس الراحل مبارك للإصلاح السياسي وإجراء انتخابات حرة. غلب أخيرًا في 25 يناير 2011 مبدأ الصراع (أي اندلاع الثورة) على مبدأ الاتزان (أي محاولات نظام مبارك للإصلاح السياسي). ليتكرر المشهد مرة أخرى في 30 يونيو 2013، وتسعى الحشود الجماهيرية بمساندة من القوات المسلحة إلى اسقاط نظام الإخوان.
ما هي حدود التماس بين ثورتي 25 يناير و30 يونيو، وما هي الفوارق بينهما؟، وكيف يمكن فهم عقيدة الدولة المصرية بعد 30 يونيو؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذا التقرير:
الطوابع المميزة لـ 25 يناير و30 يونيو
يمكن الوصول إلى فهم دقيق للدولة المصرية بعد 25 يناير، وكذلك بعد 30 يونيو من خلال رسم ملامح المجتمع المصري بعد اندلاع الحدثين بمعالجة اجتماعية-سياسية.
أولا: خريطة المجتمع المصري بعد 25 يناير (المجتمع الثوري) :
ربما ينقسم الشارع المصري حول دقة التسمية التي تتصف بها 25 يناير، هل هي ثورة، أم أحداث سياسية عابرة؟
بينما يميل المعسكر الأول لوصفها ثورة، كونها تمثل إرادة حرة من الشعب المصري في رغبته لإسقاط النظام السياسي حينها. يجادل المعسكر الثاني بوصفها أحداث لا ترقى إلى الثورة لفقدانها التنظيم والقيادة، ولا تمثل فارقًا سياسيًا كبيرًا؛ كون أن 25 يناير لا تُعد تحولًا ديموقراطيًا ناضجًا أفضى إلى سقوط نظام سياسي كامل، وبالتالي لم تحمل برنامجًا واضحًا يعمل على هدم الحياة السياسية القديمة بجميع تفاعلاتها الاقتصادية، والاجتماعية، وبناء آخر جديد.
على كلٍّ، تميّزت الخريطة المجتمعية المصرية حينذاك، بعدد من السمات الرئيسة، يمكن عرض أبرزها فيما يلي:
1- الشارع هو الرمز السياسي الأول: ميّز التعبير السياسي للمصريين بعد 2011 أن النزول إلى الشارع هو المتنفس الأقرب وربما الوحيد للتغيير السياسي في ذهن المواطن المصري، وهو ما أفضى إلى عدم استقرار الشارع المصري. ففي دراسة للمركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية (2012) تبين أنه في عام واحد تقريبا كان هناك: 851 وقفة، و561 قطع طرق، و558 مظاهرة، و514 إضرابًا، و500 اعتصام، و140 مسيرة. وشارك في النزول تباعَا من نهاية 2011 وعام 2012 جميع فئات الشعب تقريبا.
2- اختفاء المثقف السياسي: غاب عن خريطة المجتمع المصري دور المثقف السياسي التقليدي والذي ساد طوال القرن العشرين الذي كان يقدم قراءات موضوعية للمجال العام في مصر. وحضر بديلا عنه “الناشط السياسي” غير الملم بالأيديولوجيات، ولكن لديه القدرة على الحشد.
3- صعود ظاهرة “الحشود الجماهيرية“: التي حلت محل ظاهرة “الجمهور”، وتتصف الأولى بالأعداد الهائلة التي تستطيع التغلب على أي استنفار أمني. ويبدو أنها ظاهرة عالمية وجدت لها مستقرًا كبيرًا في مصر في الفترة التي تلت 2011. كما يمكن تبيان ملامحها في حدث اجتياح الكونجرس الأمريكي في الأيام الأخيرة.
4- الصراع بين الشرعية الثورية والشرعية الديموقراطية: بعد 25 يناير تناطحت شرعيتان الأولى ثورية انعكست في تبني الإخوان عبارة “نظام بنكهة الثورة”، والثانية ديموقراطية انعكست في نزول الملايين من المصريين في انتخابات عامة أفرزت عن تشكل خريطة سياسية جديدة في مصر لا تنحصر فقط في حزب الأغلبية “الحزب الوطني”. فتماهت مصر بين الإيمان بالشرعية الثورية التي تسعى لإسقاط أي إرث سياسي للدولة، وبين الشرعية الدستورية التي تسعى لبناء مؤسسات مستقرة تحتضن التفاعلات السياسية وتنظمها.
لهذا يتبين أن “الثورية” كانت هي الطابع المميز لمصر 25 يناير، التي انعكست على القرارات السياسية للدولة، والتفاعلات السياسية للمصريين بالنزول إلى الشارع والرزوخ تحت احتجاجات فئوية ومطالب حقوقية لا نهائية، وغياب عقيدة رشيدة تشكل النظام السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي التي تعد من أهم أسس الدولة المدنية.
ثانيا: ملامح الدولة المصرية بعد 30 يونيو
استكمالًا للطابع الثوري الذي ميز مصر 25 يناير، نزلت الحشود الجماهيرية في 30 يونيو مطالبة بإسقاط نظام الإخوان، وهو ما يوحي بالتماس الحاصل بين 25 يناير و30 يونيو ألا وهو التعبير الثوري. ولكن اتضح أول فارق بين الحدثين بعد صعود النظام السياسي في 2014 (بعد تقلد عبد الفتاح السيسي منصب رئيس الجمهورية)، وبذلك اتسمت الدولة المصرية بعدة سمات، أهمها:
1– بناء الدولة “الوطنية التنموية”: حرص النظام السياسي وقتها على تقرير أهم أسس الدولة الوطنية، وهي: (1) أن الأمة مصدر السلطة والتفويض، (2) فصل السلطات الثلاثة (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية) عن أي أبعاد أيديولوجية على أساس الدين أو التمييز. (3) صياغة عقيدة وطنية تعبر عن جميع فئات الشعب المصري وتشكل النظام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي.
أما على صعيد الطابع التنموي، فحرص النظام على تحديد رؤى استراتيجية تنموية تمثل محددًا بجانب الإرادة السياسية في فرض التنمية من أجل تفسير السلوك السياسي المصري؛ والذي ظهر في حرص الرئيس على حضور المفاوضات مع كبرى الشركات العالمية في مجالات الصناعة، والطاقة (مثل إيني الإيطالية)، والبنية التحتية (مثل سيمنز الألمانية). وتنظم من خلال تلك المحددات التفاعل الاقتصادي والاجتماعي المنشود، بعبارات بسيطة أن تضع الدولة خطط تنموية تحدد مجالات الاستثمار لرواد ورجال الأعمال، هذا على المستوى الاقتصادي. لم تنحصر هذه السمة على الداخل المصري فقط، بل انصرفت أيضًا على سلوك مصر السياسي مع محيطها الإقليمي والقاري، خاصة في القارة الافريقية.
2- الشمولية والتدرج في التنمية: كما ذُكِرَ سلفًا بأن الثورات هي انتصار لمبدأ الصراع من أجل إعادة ترتيب الطبقات الاجتماعية بعد إسقاط النظام السياسي. لكن بالنظر إلى الممارسات السياسية في مصر بعد 30 يونيو يتبين أن الدولة ترمي إلى تبني مبدأ الاتزان في التنمية بناء المشروعات التنموية الكبرى، مثل بناء المدن الجديدة، وحفر قناة السويس، وصولًا إلى العدالة الاجتماعية لطبقات الشعب المصري.
وتتركز التنمية في مصر على منهجين رئيسين، هما: (1) الشمولية: أي أن الدولة ترمي إلى إضفاء طابع تنموي شامل على سياسات الإصلاح في الدولة، وإدماج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مع الحقوق السياسية من خلال مؤسسات تحتضن نبض الشارع المصري، وطيف التيارات السياسية المختلفة؛ من أجل تحييد رمزية الشارع في التعبير السياسي للمواطن المصري. حتى وصلت شمولية التنمية إلى المجال الديني المتمثل في مشروع تجديد الفكر الديني. (2) التدرج في التنمية: أي أن اعتبار تحقيق التنمية الإنسانية من صحة وتعليم ومعيشة كريمة مقدمة على تحقيق الوصول إلى درجات الرفاه.
3- الحفاظ على الصمود المجتمعي: أخذت مصر بعد 30 يونيو على عاتقها الحرص على توحيد الصف المصري، ودمج كافة فئات المجتمع في الحيز السياسي، خاصة تلك الفئات التي عانت التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي وهم: الشباب، والمرأة، وذوي الهمم. من أجل مستهدف استراتيجي يتمثل في بناء لُحمة شعبية مصرية تتسم بالصمود أمام الأزمات والنكبات.
في هذا السياق، يمكن القول إن سمة “التنمية” انعكست على طابع الدولة المصرية بعد 30 يونيو، في محاولة لكبح جماح الثورية السياسية التي دفعت مصر إلى عدم الاستقرار الشامل والوقوع في فخ الفرص الضائعة على الصعيد المحلي، والإقليمي.
ولكن يتبقى لنا في السطور القادمة إسقاط مفهوم التنمية على الحيز السياسي فقط؛ من أجل فهم سلوك النظام السياسي الحالي.
النظام السياسي للدولة التنموية المصرية
يتمثل جوهر الدولة الوطنية التنموية في أنه “عند تشكل النخبة السياسية بطابع تنموي فإنها تخلق استقرارًا سياسيًا لفترات طويلة من الزمن، وتحافظ على العدالة الاجتماعية، وتضع الأهداف على أسس “وطنية” فقط غير محملة بالأيديولوجيات ووفق معايير دولية. وتشكل أو تعترف بوجود بيروقراطية وطنية قادرة على إدارة النظام”. وذلك حسب مفهوم “تشالمرز جونسون” للدولة التنموية أو the developmental state.
وعليه، حمل النظام السياسي هم تشكيل نخبة سياسية تتصف بطابع تنموي من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة والخطط الاستراتيجية التي رسمتها الدولة. وكانت وفق المحددات التالية، وهي:
أولا: تصميم رؤية تنموية:
شرعت الدولة المصرية في رسم خطط استراتيجية وطنية شملت كافة المستويات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والأمنية. كان أبرزها هي رؤية مصر 2030، أو ما تعرف باستراتيجية التنمية المستدامة 2030.
ثانيا: تشكيل نخب سياسية:
غاب عن الأحزاب المصرية رغم تضخم عددها دورها التقليدي في تصعيد كوادر ونخب سياسية، لذلك شرعت الدولة المصرية في عقد مبادرات تنشئة سياسية؛ من أجل تشكيل نخب سياسية، وإعادة المثقف السياسي مرة أخرى للمجال العام في مصر بدلا من الناشط السياسي. فكان ذلك على سبيل المثال لا الحصر في إقامة “البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة PLP”، وإقامة “تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين”.
جدير بالذكر أن مشاريع التخرج في البرنامج الرئاسي للشباب هو عقد محاكاة للحكومة المصرية على المستويين التنفيذي والتشريعي، وتقديم خطط تنموية وعرضها أمام حكومة الواقع.
ثالثا: إضفاء الطابع التنموي على مثلث النظام السياسي في مصر:
يتشكل النظام السياسي في مصر من ثلاثة أطراف رئيسة، هم: الحكومة، والأحزاب، والمجتمع المدني. حرصت مصر بعد 30 يونيو على إضفاء الطابع التنموي على الأطراف الثلاثة، كالتالي:
1- الحكومة: من خلال إنشاء “الأكاديمية الوطنية للتدريب”، وهي المؤسسة التابعة لرئاسة الجمهورية والمسؤولة عن تدريب موظفي الحكومة من أجل تصعيد كوادر بيروقراطية تنموية، تضمن نجاح أحد أسس الدولة التنموية وهي (البيروقراطية التنموية).
2- الأحزاب: تسعى الدولة المصرية إلى تحييد الأدوار الكلاسيكية للأحزاب في الحيز السياسي فقط، وإدماج الأحزاب في أدوار تنموية بالمعنى الشامل. وهو ما يتضح في انخراط حزب مستقبل وطن، وتنسيقية شباب الأحزاب في أدوار خدمية ذات طابع تنموي مثل إقامة غرف توزيع السلع، ونشر التوعية بمخاطر أزمة كورونا وتوزيع اللوازم الصحية لها.
سعت الدولة في توصيل رسالتها إلى الأحزاب من خلال عقد “المؤتمرات الوطنية” التي تضمنت جلسات ما يعرف بـ “محاكاة الدولة المصرية” التي تمثل صورة مبسطة لشكل التفاعل السياسي المنشود بين الحكومة (برئاسة مصطفى مدبولي) والأحزاب (التي كانت ممثلة في تنسيقية شباب الأحزاب في المؤتمر الوطني في نسخته السابعة) والمجتمع المدني (الذي كان ممثلا في بعض المراكز البحثية من ضمنها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية).
وناقش مثلث النظام السياسي في هذه المحاكاة جدوى خطط التنمية التي قدمتها الحكومة من أجل تحقيق استراتيجية التنمية المستدامة 2030، ونقلت المعارضة في تنسيقية شباب الأحزاب تحفظها على بعض الخطط التنموية المقدمة من الحكومة. تحقيقا لمبدأ المعارضة البناءة، أو المعارضة “التنموية”.
3- المجتمع المدني: لاحظت الدولة المصرية بعد دراستها لتراكمات نظام مبارك السياسية؛ فشله في تحويل النمو إلى معدلات تنمية حقيقية مما تسبب في التفاوت الطبقي، وأن سياسة الاعتماد الحصري على رجال الاعمال في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية في مصر هو رهان فاشل وغير رشيد، لذلك لجأت مصر إلى التعويل على منظمات المجتمع المدني في تحقيق هذا المستهدف، أي ترجمة النمو إلى مؤشرات تنمية، بعبارات نظرية أي “حوكمة التنمية” بتضمين الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني في تحقيق التنمية.
تجلت أحدث مؤشرات هذا الأمر في تشكيل مجموعة من منظمات المجتمع المدني بقيادة صندوق تحيا مصر وإشراف من الحكومة المصرية لتنفيذ أضخم حملة تبرعات لخدمة ربوع مصر (في أكتوبر 2020). كما انعكس في قانون الجمعيات الاهلية الذي حرصت مصر فيه على منح الأنشطة التنموية الأولوية للنشاط المدني.
الخلاصة، يتبين مما سبق، أن مصر 30 يونيو حرصت على تنظيم الطابع الثوري للدولة المصرية إما سلطة أو مجتمع. وإضفاء البعد “التنموي” على طابع الدولة المصرية الذي انسحب على بيروقراطية الدولة، والأحزاب السياسية، والمجتمع المدني.
لم تكن عملية إضفاء هذا البعد التنموي على مثلث النظام السياسي (حكومة وأحزاب ومجتمع مدني) بالعملية اليسيرة، بل هي عملية مستمرة دشنتها المبادرات الرئاسية مثل “البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب”، ثم “تنسيقية شباب الأحزاب”، ثم “الأكاديمية الوطنية للتدريب”، التي تعمل على تشكيل: نخب ومثقفين سياسيين، وبيروقراطية، ونشاط مدني يتصف بالتنموية، اعتمادًا على فئات مجتمعية بارزة أهمها الشباب والمرأة؛ لتحقيق جوهر الدولة الوطنية التنموية، وحوكمة الأثير العام الذي بدأ من يناير 2011، وهو العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية.
باحث ببرنامج العلاقات الدولية