الأمريكتان

شبح عام 1877 … خلفيات وتفاصيل موقعة (الكابيتول)

ليلة لا تنسى مرت بها الولايات المتحدة الأمريكية، شهدت أحداثًا غير مسبوقة في التاريخ السياسي الأمريكي، شكّلت فصل النهاية في مسلسل تداعيات الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لكنها في نفس الوقت قد تمثل فصل البداية في حقبة سياسية أمريكية جديدة، تبدو فيها صورة (الديمقراطية الأمريكية) في ثوب آخر مختلف عن الثوب الذي ارتدته منذ نهاية الحرب الأهلية وحتى اليوم.

هذا المشهد بدأ فعليًا مع إغلاق آخر صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي شهدت موجة غير مسبوقة من التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية برمتها من جانب المرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي بدأ بشكل متدرج في التلويح باللجوء إلى كافة السبل للاعتراض على نتيجة هذه الانتخابات، خاصة بعد فشله في الوصول إلى نتيجة إيجابية في هذا الصدد عبر المسارات القانونية المتاحة.

 اللجوء إلى المظاهرات ليس بالطبع أمرًا جديدًا على الحياة السياسية الأمريكية، لكن كان لافتًا لجوء ترامب لهذا الخيار رغم علمه التام أن مؤيديه تم شحنهم بشكل مكثف خلال الأسابيع الأخيرة ضد الحزب الديمقراطي وضد أية محاولات لإقرار نتيجة الانتخابات الأخيرة، وهو ما يجعل أي تحرك في الشارع محفوفًا بمخاطر أمنية واجتماعية كبيرة، حذرت الولايات المتحدة الأمريكية -للمفارقة- منها كثيرًا في معرض تعليقها على نزاعات الشرق الأوسط السياسية والحزبية.

ورقة ترامب الأخيرة

ورقة ترامب الأخيرة، وضعها على طاولة الوضع الأمريكي الداخلي حين دعا أنصاره للاحتشاد خارج الرمز التشريعي للديمقراطية الأمريكية -مبنى الكونجرس (الكابيتول)- قبيل انعقاد جلسة مشتركة لمجلسي الكونجرس (الشيوخ والنواب)، لتثبيت النتيجة النهائية لتصويت أعضاء المجمع الانتخابي للولايات الأمريكية الخمسين، إضافة للعاصمة واشنطن، والتي من خلالها تم إعلان فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن بـ 306 أصوات، مقابل حصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب على 232 صوتًا.

هذه الخطوة الروتينية، التي تتم منذ عام 1887، كانت مفصلية في هذه الانتخابات بشكل خاص بالنسبة لكلا الحزبين، خاصة وأن رئيس مجلس الشيوخ نائب ترامب مايك بينس رفض بشكل علني وقاطع مناشدات ترامب العزوف عن المشاركة في عملية تثبيت نتيجة المجمع الانتخابي، وهو ما ترافق مع مواقف جمهورية لافتة، مثل موقف زعيم الأغلبية الجمهورية السيناتور ميتش ماكونيل، الذي هنأ بشكل صريح الرئيس المنتخب بايدن، وأعرب مع ثلة من قيادات الحزب عن رغبتهم في تجاوز هذه الأزمة، التي تحمل في طياتها آثارًا سلبية على المسار الديموقراطي الأمريكي، وصورة واشنطن على المستوى الدولي.

بهذه المواقف، لم يعد امام ترامب سوى المراهنة على حدوث معجزة تتمثل في تزايد شكوك بعض نواب الكونجرس مع أعضاء الحزب الجمهوري، في نزاهة نتيجة الانتخابات الرئاسية، ووقوفهم في صفه بشكل إن لم يمنع تثبيت فوز بايدن في الانتخابات، فعلى الأقل سيؤثر بالسلب على الصورة العامة لمشهد تولي بايدن لمنصب الرئاسة. 

هذه الفكرة نبعت من موقف نحو 160 نائب جمهوري في الكونجرس، الذين أعلنوا رفضهم التصديق على نتيجة الانتخابات خلال الجلسة المرتقبة، وأصدروا بيانًا بهذا المعنى، تصدرهم فيه نواب مهمون منهم السيناتور تيد كروز، وطالبوا عبر هذا البيان بتعيين لجنة انتخابية مستقلة للتحقيق والتدقيق في كامل مجريات العملية الانتخابية، بشكل يعيد إلى الأذهان تجربة سابقة خلال انتخابات عام 1877 الرئاسية، التي اختلف فيها الحزبان الجمهوري والديمقراطي على نتائج عدد من الولايات، على رأسها لويزيانا وفلوريدا وكارولينا الجنوبية، وفشلا في التوصل إلى اتفاق يسمح بإقرار نتيجة الانتخابات نتيجة لهيمنة الحزب الأول على مجلس الشيوخ والحزب الثاني على مجلس النواب، وحينها تم حلحلة المشكلة، عبر تشكيل هيئة للبت في نتيجة الولايات الثلاث، تكونت من أربعة عشر نائبًا مقسمين بين كلا الحزبين، ويرأسهم قاضي المحكمة الأمريكية العليا.

الطموحات الشخصية لمعظم النواب المعترضين على عملية إقرار نتيجة انتخابات 2020، خاصة الطموحات الرئاسية لنواب مثل تيد كروز، كانت المحرك الأول لهم في إبداء هذا الموقف، الذي كانوا يعلمون تمامًا أنه لن يؤدى إلى نتيجة واضحة، ففي انتخابات عام 1877 كان هناك نزاع اساسي بين كلا الحزبين على نتائج بعض الولايات، في حين أن في انتخابات 2020 لم يكن هناك أي نزاع (متبادل) بين كلا الحزبين على نتائج الولايات. لذا كانت الورقة الأخيرة في يد ترامب هي ورقة الشارع.

ترامب دعا أنصاره بشكل واضح للنزول إلى الشارع والتظاهر خارج مبنى الكابيتول، بالتزامن مع انعقاد جلسة الكونجرس المشتركة. كان يعلم جيدًا أن مؤيديه مقتنعين بشدة أن الانتخابات الأمريكية قد تم التلاعب بها، وها هم يقفون على بعد خطوات من مكان سيتم فيه دق المسمار الأخير في نعش حقبة ترامب الرئاسية.

فكانت النتيجة هي قيام مئات من أنصار ترامب باقتحام مبنى الكابيتول، ودخلوا في مواجهات مفتوحة مع طاقم حراسة المبنى، الذي بدا -بشكل غير منطقي- متفاجئا من هذا الهجوم، لدرجة أنه فشل بشكل واضح في التعامل مع المهاجمين للمبنى، الذين وصلوا إلى قاعتي مجلس الشيوخ ومكاتبها، وهو ما جعل النواب المجتمعين بداخلها إلى طلب الفرار من المبنى، بشكل أثار دهشة العالم كله، وهو يرى مشاهد كانت مألوفة في دول أوروبا الشرقية ودول أخرى، لكنه للمرة الأولى يطالع هذه المشاهد في ثنايا دولة تعد القطب الأعظم على مستوى العالم، خاصة على المستويين الأمني والعسكري.

خرق أمني يثير مئات التساؤلات

فداحة الخرق الأمني الذي حدث في أهم مبنى سياسي تشريعي في الولايات المتحدة دفعت عمدة واشنطن موريل باوزر إلى إعلان حظر ليلي للتجول في العاصمة الأمريكية، ومن ثم بدأت عملية استمرت لمدة أربع ساعات، نفذتها وحدات من الحرس الوطني وأفراد من قوات الحماية الفيدرالية، تم استدعاؤها للسيطرة على الوضع داخل مبنى الكابيتول، وإخراج كافة المقتحمين من داخله.  بنهاية هذه العملية التي تم فيها استخدام الرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع، توفي أربعة أشخاص منهم امرأة قتلت بالرصاص، وإصابة 14 عنصرًا أمنيًا، بالإضافة إلى اعتقال أكثر من 50 شخص.

المواجهات داخل مبنى الكابيتول، والكيفية اليسيرة لاقتحامه، أثارت تساؤلات جدية ومهمة، حول سبب عدم جاهزية الشرطة الأمريكية لمثل هذه الحوادث المتوقعة، خاصة ان البلاد فعليًا في حالة طوارئ أمنية حتى يوم تنصيب الرئيس الجديد يوم 20 الجاري، وهذا عزز من بعض الفرضيات التي تم تداولها، وتشير إلى أن الحزب الديموقراطي قام ببساطة، ب (نسج فخ) لترامب، على طريقة (من حفر حفرة لأخيه وقع فيها)، تمكن الحزب فيها أولا من إنهاء حقبة ترامب، بشكل يجعل من الصعب عليه أن يعود مرة اخرى مستقبلًا لممارسة العمل السياسي، ومن جهة أخرى تمكن من اجتذاب تأييد قطاع كبير من أعضاء الحزب الجمهوري، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لرفع الغطاء السياسي عن ترامب.

خسائر بالجملة لترامب بعد موقعة الكابيتول

خسائر ترامب مما حدث داخل مبنى الكابيتول كانت متعددة الزوايا، فمن جهة انعقدت جلستا مجلس الشيوخ والنواب لتثبيت نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ورفض كلا المجلسين اعتراض النواب المتحالفين مع ترامب على نتيجة الانتخابات في ولايتي أريزونا وبنسلفانيا، حيث أقر مجلس النواب نتيجتي كلا الولايتين، بأغلبية 303 صوتا مقابل 121 فيما يتعلق بنتيجة الولاية الأولى، وأغلبية 282 صوتًا مقابل 138 فيما يتعلق بالولاية الثانية.

في جانب آخر، تضاءل حجم الدعم الذي يتلقاه ترامب داخل إدارته الحالية ونواب الكونجرس، فقد استقال من إدارته عقب أحداث مبنى الكابيتول كل من نائب مستشار الأمن القومي مات بوتينغر، ونائبة المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ماثيوز، وستيفاني غريشام رئيسة موظفي السيدة الأولى، كما أعرب عدد آخر من موظفي إدارة ترامب عن نيتهم الاستقالة، مثل مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين، ومساعد ترامب للمبادرات الاستراتيجية كريس ليدل. 

يضاف إلى ذلك تغيير بعض النواب الجمهوريين الموقعين على البيان المطالب بعدم إقرار نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن مواقفهم، مثل النائبة الجمهورية كاثي ماكموريس رودجرز، السيناتور الجمهوري جيمس لانكفورد، والسيناتور الجمهوري ستيف داينز.

تصاعدت بشكل لافت بعد أحداث مبنى الكابيتول، احتمالات عزل الرئيس المنتهية ولايته ترامب من منصبه قبل يوم 20 الجاري، وذلك بموجب التعديل الدستوري الخامس والعشرين، الذي تم إقراره أواخر ستينيات القرن الماضي عقب اغتيال الرئيس الأسبق جون كينيدي، ويتضمن بنودًا خاصة بماهية نقل السلطة التنفيذية في حالة الشغور المفاجئ لمنصب الرئيس لأي سبب من الأسباب.

عدد من أعضاء مجلس النواب، بما فيهم كافة نواب الحزب الديموقراطي الأعضاء في لجنة العدل النيابية، طالبوا بالفعل بتطبيق هذا التعديل على الرئيس ترامب، حيث تنص الفقرة الرابعة منه، على أن لنائب الرئيس وأغلبية أمناء مجلس الوزراء الأمريكي، الحق في إعلان ترامب (شخصا عاجزا عن الإيفاء بمتطلبات وواجبات منصبه الحالي)، ومن ثم عزله عن سدة الرئاسة، وتولي نائبه الحكم بصورة مؤقتة.

أمريكا ما بعد موقعة الكابيتول

تزامنت أحداث الكابيتول مع عدة مؤشرات مهمة على المستويات الأمنية والعسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية، منها الرسالة الصوتية التي استمع لها عدة مراقبين للحركة الجوية في مدينة نيويورك، وكانت تحمل تهديدًا واضحًا باستهداف مبنى الكابيتول بطائرات مدنية انتقامًا لمقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في مثل هذا الشهر من العام الماضي، وهي رسالة جاءت كمفارقة أخرى مصاحبة لأحداث الكابيتول، الذي كان من المفترض ان يشهد إجراءات أمنية غاية في الشدة والمناعة، سواء بسبب هذه الرسالة الصوتية، أو بسبب الاحتقان الداخلي المستمر منذ أسابيع في الولايات المتحدة الأمريكية، ومناشدة ترامب الصريحة لأنصاره كي يتوجهوا إلى هذا المبنى. 

قلق الدوائر العسكرية الأمريكية من حدوث خلخلة في النسيج الاستخباراتي والأمني للبلاد، التي شهدت منذ أسابيع تفجيرًا انتحاريًا لم تتضح حتى الآن كافة ملابساته، دفعت بعشرة وزراء سابقين للدفاع في الولايات المتحدة الأمريكية، بتشجيع من نائب الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، ديك تشيني، كي ينشروا رسالة مفتوحة إلى الدوائر السياسية الأمريكية، تحذر من أية محاولات لإدخال المؤسسة العسكرية الأمريكية في سياق اللعبة السياسية الداخلية، مؤكدين أن هذا سوف يؤدى بالتبعية إلى تضرر المناعة الأمنية الداخلية للولايات المتحدة، بشكل قد ينذر بدخول البلاد في حقبة من العنف المتبادل.

رسالة وزراء الدفاع السابقين، لم تكن دوافعها فقط هي الأحداث التي شهدتها الولايات المتحدة خلال الفترة الماضية فقط، بل أيضًا محاولات بعض المقربين من ترامب، مثل مستشاره السابق للأمن القومي مايكل فلين، الإيحاء بإمكانية استخدام المؤسسة العسكرية لإعادة إجراء الانتخابات في الولايات التي يثير ترامب الجدل حول نتيجتها في انتخابات الرئاسة، وهذه المخاوف تم تعزيزها بعد نشر التسجيل الصوتي الذي طالب فيه ترامب أحد أكبر المسؤولين عن الانتخابات في جورجيا، أن يحاول بشتى الطرق أن يتلاعب في نتيجة الانتخابات في هذه الولاية.

هذه المخاوف انعكست أيضًا على الأداء العسكري الأمريكي فيما يتعلق بالملفات الخارجية، ففي ظل الخشية الدولية من إمكانية قيام ترامب بعمل عسكري ما في منطقة الشرق الأوسط، بدا أن المؤسسة العسكرية الأمريكي تتخذ قرارات متضاربة، ما بين إصدار أوامر بسحب بعض القطع البحرية -مثل حاملة الطائرات نيميتز- من الخليج العربي، ثم العودة عن هذا القرار.

هذا التضارب إذا ما وضعناه جنبا إلى جنب مع عدم اليقين من خطوات ترامب الداخلية -حتى بعد إعلانه اليوم أنه سيضمن انتقالًا سلسًا ومنظمًا للسلطة رغم عدم قناعته بنتيجة الانتخابات- سنصل إلى خلاصة مفادها أن الولايات المتحدة ستكون أمام أهم أسبوعين في تاريخها المعاصر، قد يفصلان بشكل حاسم بين استمرار الولايات المتحدة الأمريكية كرمز عالمي للديمقراطية، او تحولها إلى (جمهورية موز كبيرة)، على حد وصف الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، في معرض تعليقه على أحداث الكابيتول.

المصادر:

1- https://2u.pw/navih

2- https://2u.pw/3lY5w

3- https://2u.pw/J3HRb

4- https://2u.pw/XpNq3

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى