السد الإثيوبي

من أزمة السد إلى أزمة التفاوض

بدأت جولة جديدة من المفاوضات حول السد الإثيوبي برعاية الاتحاد الأفريقي في الثالث من يناير الجاري، ولكن سرعان ما قاطعت السودان الاجتماعات بسبب عدم تلقيها أي رد على دعوتها لعقد اجتماع ثنائي مع خبراء ومراقبين من الاتحاد الأفريقي، حيث كانت السودان قد طالبت بدور أكبر لخبراء الاتحاد الأفريقي لتسهيل عملية التفاوض وتقريب وجهات النظر

ويبدو أن كل دولة من الدول الثلاث تتمسك برؤيتها لسير عملية التفاوض لتتحول الأزمة من التركيز على تقريب وجهات النظر حول النقاط الخلافية بشأن السد إلى التركيز على كيفية سير المفاوضات.

السياق العام للجولة الحالية من المفاوضات

تسعى جنوب أفريقيا بصفتها الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي إلى إنهاء الخلاف بين مصر والسودان وإثيوبيا حول السد الإثيوبي قبل نهاية فترة رئاستها للاتحاد نهاية يناير الجاري، وقد نجحت في عقد عدة جولات من التفاوض برعاية الاتحاد الأفريقي بالفعل، ولكن النتيجة النهائية لكل هذه الجولات تمثلت في “عدم التوصل إلى اتفاق”. أما الجولة الحالية فقد بدأت باجتماع عبر الفيديو شارك فيه وزراء الخارجية ووزراء الموارد المائية للدول الثلاث، واتفقت الأطراف الثلاثة على عقد اجتماعات ثنائية بحضور مراقبين وخبراء تعينهم مفوضية الاتحاد الأفريقي، على أن تنعقد الاجتماعات الثلاثية في العاشر من يناير.

وتختلف الجولة الحالية عن سابقاتها في تقديم خبراء الاتحاد الأفريقي “وثيقة مكتوبة” تعد مسودة للاتفاق حول النقاط الخلافية، ولكن ردود أفعال الدول الثلاث تجاه هذه الوثيقة جاءت متباينة، حيث رفضتها مصر رفضًا قاطعًا لغياب العديد من العناصر الفنية المهمة عن خبراء الاتحاد على عكس وثيقة واشنطن التي وقعتها مصر منفردة، أما إثيوبيا فقد رحبت بالوثيقة واعتبرتها إيجابية في مسار التفاوض، وزعم البيان الصادر عن الخارجية الإثيوبية أن السودان أيضًا رحب بالوثيقة ولكنه تحفظت على عدم تحديد دور واضح للخبراء في تسهيل التفاوض واقتراح حلول للقضايا المستقبلية.

وفيما يتعلق بالأطراف الراعية للمفاوضات، فلم تصدر الولايات المتحدة بيانات أو تصريحات رسمية بشأن هذه الجولة، فيما أصدر الاتحاد الأوروبي بيانًا حثّ فيه الأطراف الثلاثة على إظهار رغبة سياسية لإحراز تقدم نحو الاتفاق حول ملء السد وتشغيله، وأشار البيان إلى أن الاتحاد بصفته عضوًا مراقبًا للمفاوضات يشجع الأطراف على التفاوض بروح بناءة ومنفتحة.

علاقات متوترة بين أطراف المفاوضات

تأتي الجولة الحالية من المفاوضات حول السد الإثيوبي في ظل أجواء يشوبها التوتر سواء بين إثيوبيا والسودان أو إثيوبيا ومصر أو إثيوبيا وداخلها، وفي الوقت نفسه هناك تقارب واتفاق واضح بين مصر والسودان حول بعض النقاط الأساسية والمهمة في مسار التفاوض.

نزاع الحدود: ارتباطًا بالتوتر بين إثيوبيا والسودان، تشهد منطقة الفشقة الزراعية الواقعة داخل الحدود الدولية للسودان توترًا شديدًا، حيث تمكنت القوات المسلحة السودانية من استعادة نحو مليون فدان من الأراضي الزراعية المستصلحة من المواطنين الإثيوبيين، وصادرت المحاصيل الزراعية داخل تلك الأراضي، ونقلت بعضها إلى رئاسة الحامية الرئيسية للجيش داخل ولاية القضارف الحدودية.

C:\Users\m.elsayed\AppData\Local\Microsoft\Windows\INetCache\Content.Word\sudan_1.jpg

وقد تصاعد التوتر على الحدود بين السودان وإثيوبيا منذ بداية حرب الجيش الفيدرالي الإثيوبي على إقليم التيجراي في نوفمبر الماضي بعد المناوشات التي وقعت بين ميليشيات الشفتا الإثيوبية والجيش السوداني على مدار الستة أشهر الماضية، وقابل المسؤولون الإثيوبيون التحركات السودانية لبسط السيطرة على أراضيه بالرفض مستندين في ذلك إلى اتفاق سابق يقضي بحل النزاع الحدودي من خلال لجان مشتركة وليس قوات الجيش.

تصريحات غير مسؤولة: وفيما يتعلق بالتوتر بين إثيوبيا ومصر، فغالبًا ما يخرج المسؤولون الإثيوبيون بتصريحات هجومية وعدائية تجاه مصر كان آخرها تصريحات المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية تطرق فيها إلى الشأن الداخلي المصري في تقرير بثته الجزيرة القطرية، لتستدعي الخارجية المصرية القائم بأعمال سفارة إثيوبيا في القاهرة لطلب توضيح حول هذه التصريحات. وتمثلت هذه التصريحات في أن مصر جعلت من إثيوبيا خطرًا قائمًا للتغطية على مشاكلها الداخلية، لينفي المسؤول الإثيوبي بعد ذلك ما نُسب إليه مدعيًا أن الجزيرة أساءت ترجمة تصريحاته.

C:\Users\m.elsayed\AppData\Local\Microsoft\Windows\INetCache\Content.Word\298026-238827201.jpeg

وعدّت وزارة الخارجية المصرية هذه التصريحات خروجًا عن القيم الأفريقية العريقة التي تزكي قيم الاحترام وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وصرح المتحدث باسم الخارجية المصرية أنه كان من الأجدر على المسؤول الإثيوبي الالتفات إلى الأوضاع الإنسانية المتردية في بلاده والتي أفضت إلى مقتل المئات وتشريد الآلاف من المواطنين الأبرياء.

نزاعات داخلية: لم تتوقف حالة الهجوم والعدائية التي تتبناها الحكومة الإثيوبية على الدول الأخرى ممثلة في مصر والسودان، وإنما امتدت هذه الحالة إلى الهجوم على إقليم التيجراي الذي تطور إلى مستوى الحرب منذ نوفمبر الماضي، وقد أفضى النزاع بين الجيش الفيدرالي وقوات جبهة تحرير التيجراي إلى قتل المئات وفرار الآلاف إلى السودان هربًا من ويلات الحرب، وتدمير للبنية التحتية في الإقليم الشمالي. وعلى الرغم من إعلان آبي أحمد انتصاره على قوات جبهة تحرير التيجراي وسيطرته على الإقليم، إلا أن الهجمات العسكرية مازالت مستمرة هناك.

علاوةً على النزاع مع جبهة تحرير التيجراي، فقد شهد إقليم بني شنقول الذي يضم السد سبب الخلاف هجمات لمسلحين أودت بحياة ما يزيد عن مئة شخص، كما يشهد إقليم أوروميا –أكبر الأقاليم الإثيوبية– حالة من الاحتقان بعد حالة القمع التي مارستها الحكومة الفيدرالية ضد تظاهراتهم بعد مقتل المطرب المعارض هاتشالو هونديسا والقبض على قياداتهم بتهم واهية.

اتفاق مصري – سوداني: تتفق كل من مصر والسودان على إلزامية الاتفاق الذي سيتم توقيعه، وضرورة تكوين آلية فض منازعات تنشأ مستقبلًا بشأن ملء وتشغيل السد، بحيث يتم اختيار طرف وسيط من كل دولة من الثلاث، ويجرى التفاوض بين الوسطاء بنظام التحكيم القانوني لحين الوصول إلى قرار. كما ترفض مصر والسودان رغبة إثيوبيا في تحويل الاتفاقية إلى اتفاق للمحاصصة في مياه النيل وإلغاء اتفاقية 1959. كما يرفض الطرفان إقامة مشروعات مائية أخرى على مجرى النيل الأزرق، وتطبيق القواعد الاسترشادية الخاصة بسد النهضة عليها.

جدير بالذكر أن مصر تولي اهتمامًا كبيرًا بفكرة الربط بين السدود وكمية التدفق السنوية ونوعية المياه والتصرفات التي ستجرى عليها، فيما يهتم السودانيون بضرورة وضع برنامج واضح للملء المستمر والدائم للسد وبحجم التدفق اليومي من السد.

هل تستمر المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي؟

يسعى الاتحاد الأفريقي إلى تقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث منذ أن تصدر لرعاية المفاوضات ممثلًا في جنوب أفريقيا، وتمثلت الجهود المبذولة في دعوة الأطراف الثلاثة للاجتماع أكثر من مرة إلى أن قدّم الخبراء وثيقة استرشادية للوصول إلى اتفاق. وبالرغم من هذا التطور، إلا أن تمسك كل طرف من الأطراف المعنية بوجهة نظره لا يبشر بنجاح جهود الاتحاد دون ممارسة بعض الضغوط، ولكن الاتحاد لا يمتلك أوراقًا للضغط على أي من أطراف المشكلة. 

حتى وإن امتلك الاتحاد الأفريقي هذه الأوراق، فإن التعنت الإثيوبي ونبرة الاستعلاء التي يستخدمونها ستقف عائقًا أمام الوصول إلى اتفاق، فقد رفضوا وساطة البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكي، وهو ما أدى إلى فرض عقوبات اقتصادية وحجب مساعدات أمريكية تصل إلى 130 مليون دولار سنويًا. كما تعرضت إثيوبيا لعقوبات أخرى من جانب الاتحاد الأوروبي جراء الأزمة الإنسانية في إقليم التيجراي.

وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها إثيوبيا، إلا أن الحكومة هناك تصر على انتهاج نفس السياسة سواء في التفاوض حول السد أو التعامل مع القضايا السياسية في الأقاليم المختلفة دون اتخاذ الاتحاد الأفريقي قرارات بإدانة ما يحدث من صراع في الداخل الإثيوبي أو الدعوة لمحاسبة المسؤولين عن انتهاك حقوق الإنسان هناك.

ويفتح عجز الاتحاد الأفريقي برئاسة جنوب أفريقيا عن فرض مسار واضح للتفاوض حول سد النهضة الباب أما دخول وسطاء أو مراقبين جدد مثل الصين صاحبة الاستثمارات الكبيرة في أفريقيا أو روسيا ومشاركة خبراء من هذه الدول لتقديم المشورة أو الخطوات الاسترشادية التي يمكن أن تساعد في التوصل لاتفاق قبل شروع إثيوبيا في الملء الثاني لخزان السد وتعقد الأمور بين الأطراف الثلاثة.  ومن المتوقع أن ترفض إثيوبيا وساطة الاتحاد الأفريقي التي سعت إليها بعد انقضاء فترة رئاسة جنوب أفريقيا للاتحاد وتولي الكونغو المهمة، الأمر الذي يفتح المجال أمام عودة القضية إلى مجلس الأمن مرة أخرى.إجمالًا، تلعب التوترات بين إثيوبيا ومصر والسودان دورًا في رسم مسار التفاوض حول السد الإثيوبي، وهو ما يجعل الاتحاد الأفريقي عاجزًا أمام تمسك كل طرف بوجهة نظره، ويقلل من فرص التقارب بين الأطراف الثلاثة. وقد تحول التركيز في الجولة الحالية من المفاوضات من التركيز على القضايا الخلافية التي ينبغي أن يتضمنها الاتفاق إلى التركيز على كيفية سير المفاوضات ومن يشارك فيها مع الدول الثلاث وكيف يشارك، الأمر الذي يشتت الجهود ويستهلك الوقت دون اتخاذ خطوات إيجابية في الطريق إلى اتفاق عادل وشامل وملزم.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

محمود سلامة

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى