أسواق وقضايا الطاقة

التموضع الاستباقي.. كيف واكبت مصر التغير في خريطة الطاقة العالمية؟

لطالما شكّلت مصادر وموارد الطاقة وتأمين تدفقاتها أهدافًا عليا للقوى الإقليمية والدولية ومشاريعهم للهيمنة داخل النطاقات الإقليمية، وعلى امتداد المسرح العالمي، وخاصة عندما تعاظمت الثورة الصناعية منذ مطلع القرن الثامن عشر، واعتماد ماكيناتها على مصادر الطاقة الأحفورية.

وبرهنت الحربان العظيمتان الأولى والثانية على المكانة المحورية لمصادر الطاقة في مسارات الحرب ومعاركها لتأمين الوقود اللازم لإدارة الماكينة العسكرية من المصانع وصولًا إلى المدرعات والطائرات؛ إذ خصصت حملة عسكرية من حكومة ألمانيا النازية لاحتلال أوكرانيا ضمن عملية “بارباروسا” لتأمين احتياجات النفط للقوات المسلحة الألمانية التي خاضت هناك معركة “كييف” عام 1941. في وقت كانت تندفع فيه ألمانيا بكل قدراتها العسكرية نحو موسكو وستالينغراد. 

وكذلك، ترجع أسباب هجوم اليابان على بيرل هاربر -على الأقل في جزء منها- إلى قرار اتخذته الولايات المتحدة بالحد من صادرات النفط إلى اليابان في 1941، ردًا على احتلال اليابان للصين. وكانت اليابان تعتمد اعتمادًا كاملًا تقريبًا على استيراد النفط من الولايات المتحدة. 

وتباعًا، ومنذ الانقلاب الإيراني في عام 1953 الذي دبرته الولايات المتحدة وبريطانيا، مرورًا بحرب الخليج الثانية 1991، وحرب احتلال العراق 2003، وصولًا إلى الحرب السورية 2011؛ كان النفط والغاز كلمة السر في هذه الصراعات المُركبة والمعقدة. إلا أن ثمة تطورات واتجاهات قد طرأت خلال العقود الثلاثة الماضية وألقت بظلالها على مستقبل خريطة الطاقة في العالم، ويمكن عد هذه الاتجاهات في:

  1. اتجاه الكثير من الدول لتقليل الانبعاثات الكربونية الناجمة عن استهلاك مصادر الطاقة الأحفورية. فقد وُقِعت الاتفاقية الاطارية للأمم المتحدة بشأن تغير المناخ في العام 1992، والمعروفة باتفاقية أو بروتوكول “كيوتو”، ونصت على التزامات قانونية للحد من انبعاث أربعة من الغازات الدفيئة التي تنتجها الدول الصناعية، ونصت أيضًا على التزامات عامّة لجميع البلدان الأعضاء. وبدءًا من عام 2008 م، صادق 183 طرفًا على الاتفاقية. وتجدر الإشارة لتوقيع مصر على بروتوكول كيوتو في العام 1999. 
  1. اتجاه التكتل الغربي للفكاك من الارتهان لروسيا في تأمين احتياجات الطاقة. حيث تورد روسيا ما إجماله 30% من حجم احتياجات أوروبا من الغاز، ما فتح المجال أمام تعاظم النفوذ الروسي وتسلله من دول شرق أوروبا لجنوب القارة. وعليه أولت واشنطن في قيادتها للعالم الغربي بضرورة تنويع مصادر الطاقة لأوروبا. 

وانطلاقًا من الاتجاهين السابقين، تظهر عدة نقاط:

  • انتهاج الولايات المتحدة لسياسة تشجيعية نحو الانتقال للغاز المسال والاعتماد عليه تدريجيًا. فقد أصبحت الولايات المتحدة ثالث أكبر مصدر للغاز المسال خلف كل من قطر وأستراليا.
  • فرض العقوبات على الشركات المساهمة في خطوط انابيب الطاقة الروسية حول العالم وخاصة تلك الواصلة لأوروبا. 

من هنا برزت أهمية تأمين موارد جديدة للطاقة قريبة من التكتل الغربي وجغرافيته، وفرض المزيد من التضييق على صادرات الكتلة الشرقية “الصين – روسيا – إيران”. ولما تعثرت الحرب السورية وفواعلها الاقليميين في مد أي من هذه الأنابيب القادمة سواء من قطر أو إيران. استثمرت الإدارة السياسية المصرية في الفرصة التي قدمتها لها وقائع الصراع والتنافس الدولي والإقليمي في المنطقة الممتدة من العراق للسواحل السورية واللبنانية، وجاء اكتشاف حقل ظهر المصري أكبر حقول شرق المتوسط باحتياطات 30 تريليون قدم مكعب من الغاز؛ ليضع مصر أمام استحقاق فارق في خضم التغير الحاصل في خريطة الطاقة عالميًا. حيث مكنت عدة عوامل مصر من “تموضع استباقي” في الخريطة الجديدة:

  1. الاستقرار النسبي الذي تتمتع به مصر مقارنة بدول الجوار، حيث غادرت مصر في 2019 قائمة الدول العشرة الأكثر تضررًا من العمليات الإرهابية، وخفضت الأجهزة الأمنية نسبة الضحايا خلال 2019 إلى 90% مقارنة بعام 2017. 
  2. السياسة الخارجية النشطة، تنتهج مصر في سياساتها الخارجية مبادئ تتوافق والقوانين والشرعية الدولية، فضلًا عن البقاء على مسافة متساوية من واشنطن وموسكو وبكين. الأمر الذي قدم مصر للمجتمع الدولي بصورة الطرف الذي يعلي مواجهة التطرف وموجة الإرهاب العابر للحدود، عن سياسات التنافس الإقليمي الحاد، الدافعة لحالات عدم الاستقرار وبث الفوضى في محيط إقليمي مضطرب.
  3. امتلاك مصر لبنية تحتية من منشآت تسييل الغاز مطلة على السواحل الشمالية، حيث تعد منشآتي إدكو ودمياط، منشآت التسييل الوحيدة في شرق المتوسط. كما تضم وحدتين لإسالة الغاز بطاقة 2 مليار قدم مكعب من الغاز سنويًا. وتصل قيمة المحطة الإنشائية لما يعادل 10 مليارات دولار. وتجدر الإشارة لامتلاك مصر خط أنابيب النفط سوميد الذي يصل خليج السويس بالبحر المتوسط. ويوفر “سوميد” الكثير من تكاليف بناء صهاريج التخزين ومصاريف المحافظة على مخزونات النفط، نظرًا لقرب خطوطها من مراكز التكرير في أوروبا. وشيدت “سوميد” صهريجين كبيرين للتخزين يقع كل منهما في ميناء، بهدف مناولة مختلف أنواع النفط الخام مع المحافظة على طرق الفصل بينها بطريقة سليمة.
  1. إنشاء المنظمة الإقليمية لمنتدى غاز شرق المتوسط، التي تضم في عضويتها (مصر – قبرص – اليونان – الأردن – فلسطين – الأردن – إيطاليا) فيما ينضم كل من الولايات المتحدة وفرنسا والإمارات بصفة أعضاء مراقبين. وتهدف المنظمة لتطوير سوق غاز إقليمي مستدام يمكنه إطلاق إمكانات موارد الغاز الكاملة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. وإنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب وتنمية الموارد على الوجه الأمثل. ويوجد حاليًا مشروعان قيد التنفيذ بين دول المنظمة، الأول” خط الغاز “إيست ميد” بين إسرائيل وقبرص واليونان، لنقل فائض الغاز الإسرائيلي لأوروبا. وقد تطرق المرصد المصري لهذا الخط المزمع انشاؤه في إحدى ورقاته المنشورة سابقاً “هل يؤثر خط الغاز الجديد ” إيست ميد ” على تحول مصر لمركز إقليمي لتداول الطاقة؟”، والمشروع الثاني هو مد خط انابيب لنقل الغاز من حقل أفروديت القبرصي لمنشآت التسييل المصرية في ادكو ودمياط، وقد صادق الرئيس السيسي على الموافقة بإنشاء هذا الخط في يوليو 2019.

وبموجب اتفاق تاريخي تم توقيعه أوائل العام 2019، اشترت شركة خاصة في مصر هي “دولفينوس القابضة” 85 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة 19.5 مليار دولار من حقلي لوثيان وتمار الإسرائيليين على مدى 15 عاما. في مؤشر كبير على الجدية المصرية في الاستحواذ على فائض الغاز الطبيعي لدي لدول الجوار، ومن ثم تسييله ودفقه للسوق الأوروبية بسعر أعلى من وحدات الغاز الطبيعي، وبتكلفة نقل أقل.

فمصر تعتمد في نقلها للغاز لأوروبا والشركاء التجاريين على الناقلات البحرية، ويمكن النقل عبر الناقلات في البحر من سرعة الحصول على العوائد، وتثبيت تموضع مصر كمركز لتداول الطاقة. فمثلاً تجدر الإشارة إلى أن الوقت اللازم لإنشاء خط “إيست ميد” يستغرق من ست لسبع سنوات. وخط إنشاء الغاز القبرص المصري يستغرق أربع سنوات. كما تبدوا تكلفة الخط “إيست ميد” تتخطي 7 مليار دولار فيا تبلغ تكلفة خط انابيب قبرص مصر1 مليار دولار. وفي تقرير لها، قالت وكالة الطاقة الدولية أن النمو في سوق الغاز المسال سيرتفع لـ 26% حتى عام 2024. تعتمد مصر في صادراتها للغاز الطبيعي على عمليات التسييل ومن ثم شحن السفن.

حيث تساهم مصر بما نسبته 1% من تجارة الغاز المسال في العالم حسبما جاء في تقرير صادر عن الاتحاد العالمي للغاز. وأوضح التقرير أن إجمالي صادرات مصر من الغاز المسال ارتفع ليصل إلى 3.5 مليون طن العام الماضي، مقابل 1.4 مليون طن في 2018. 

  1. صياغة تحالفات إقليمية على المسرح البحري والبري، منذ تدشين نواة التحالف الثلاثي بين كل مصر وقبرص واليونان، في نوفمبر 2014. ونجاح الثلاثي في تقديم نموذج متكامل للتعاون الإقليمي الشامل، وصموده أمام محاولات تركيا الحثيثة لفك أو إضعاف مصفوفة القوي الثلاثة من خلال رفع مستوي المواجهات الميدانية واحتمالاتها، والابتزاز والتطويق من خارج الحدود؛ سعت الإدارة المصرية لتدشين نموذج آخر مماثل لما تم في المسرح البحري، ويقف على ثوابت ومبادئ الشرعية والقانون الدولي، والأهم، يراعي ما أفرزته أزمة جائحة كورونا من تغييرات في أنماط التفكير الاستراتيجي والاعتماد على الإقليمية في الشراكة والتعاون، عوضًا عن التحالفات والشراكات ذات النطاق العالمي. وانطلاقًا من هذا السياق دشن الثلاثي مصر العراق الأردن، تحالف الشام الجديد، والذي أعلن عنه رئيس الوزراء العراقي مصطفي الكاظمي أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن. وشارك الرئيس السيسي في قمة ثلاثية بالعاصمة الأردنية عمان، 25 أغسطس، بمشاركة ملك الأردن، ورئيس الوزراء العراقي. ويستند التحالف لقيم التكامل، والربط الطاقوي (كهرباء + نفط) بين البلدان الثلاثة. مع استخدام الأردن كمنصة تنسيق ودعم لوجيستي، والعراق كمصدر للنفط، ومصر كمصدر للعمالة والكهرباء. ما قد يساهم في الهندسة الأمنية الجديدة للإقليم انطلاقًا من أدبيات الأمن القومي العربي.

خاتمة، واكبت الإدارة المصرية التطورات السياسية والميدانية والتحولات الأمنية العنيفة في الإقليم المضطرب، بسياسة تتنوع ما بين الردع والاحتواء، وتقديم مواجهة الظاهرة الإرهابية على سياسات التنافس الإقليمي الحاد، وما تفرزه من تفشي للوكلاء الميليشياويين وحالات عدم الاستقرار الممتد، ما أمكن القاهرة من تفادي الوقوع في فخ إغراء المواجهات الميدانية المحسومة ضد الأهداف العدائية في إحداثيات قريبة من الجغرافيا المصرية، وجعلها تقيم تحالفات تضم قوى دولية وإقليمية تتقاسم معها مواجهة التهديدات والمخاطر المشتركة، وترفع من تكلفة التحركات العدائية تجاه الدولة المصرية. ما وفر للدولة المصرية أجواء تتمتع بالاستقرار مقارنة بدول الإقليم التي تعاظمت عليها أخطار التنظيمات الإرهابية والغزو المباشر، الأمر الذي دفع بدوره لتنفيذ “تموضع استباقي” على خريطة الطاقة التي تغيرت منذ اتفاق كيوتو 1992، والحرب السورية 2011، واعتمدت بشكل أساسي على موارد الطاقة النظيفة والمتجددة، وإعلاء سوق الغاز المسال، مقابل خطوط دفق النفط والغاز البرية.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى