اتجاهات وسائل التواصل الاجتماعي

جماهير الـ”سوشيال ميديا”..بين مخالب الشائعات وبراثن التزييف

في كل قصة يوجد دائما جانبان.. جانب معلن ولافت للانتباه والآخر غير معلن.. وعادة ما يكون الجانب الأكثر شهرة من القصة هو نفسه الجانب الأكثر إثارة للعاطفة، وهو نفس الجانب الذي يحوز كل الدعم وكل الاهتمام من جانب جماهير الـ“سوشيال ميديا”، والتي عادة ما تثور ثم تطالب دائما بتدخل الدولة لأجل تقديم الدعم والمساندة اللازمة. 

وعلى هذا المنوال، تعددت القصص التي تنجرف خلفها الجماهير، حتى أصبح الأمر في عيون من ينظر من بعيد، كما لو كان لكل قصة شُعلة، تظهر للحظات فتخطف أنظار الجماهير لبرهة، ثم سرعان ما تنطفئ حتى تحل محلها واحدة أخرى بديلة، تحوز على نفس اهتمامهم وتعاطفهم ودعمهم. 

أزمة المواطن المصري على الطائرة الرومانية نموذجا

بدأ الأمر عندما صعد المواطن المصري حسن سلامة، برفقة زوجته المغربية وطفله، على متن رحلة الخطوط الرومانية  المُتجهة من بوخارست إلى القاهرة، ولكن سرعان ما تطورت الأمور بمجرد أن انخرطت زوجة المواطن المصري “المغربية الجنسية” في مشادة كلامية مع مضيفة الطائرة بسبب رفضها القاطع لإزالة حقيبتها من أمام مخرج الطوارئ ، وهو الأمر الذي يهدد أمن وسلامة ركاب الطائرة، ووفقا لرواية الصحف الرومانية وبعض الصحف الدولية، قامت زوجة المواطن المصري بالبصق في وجه المضيفة، مما دفع الأخيرة للاتصال بالأمن ومطالبتهم بإجبار العائلة على مغادرة الطائرة.

أما عن جماهير “السوشيال ميديا”، فهي لم تطلع على تفاصيل ما حدث، وكان كل ما شاهدته هو عبارة عن مقطع فيديو يظهر فيه الأمن وهو يحاول أن يجبر المواطن وعائلته على مغادرة الطائرة، وكان هذا المشهد كفيلا بإثارة مشاعرهم ودفعهم الى مطالبة الدولة بالتحرك الرسمي لأجل دعم ومساندة العائلة.  

              حوادث مشابهة

لن نذهب الى الماضي البعيد، فقد تكرر الأمر منذ وقت قريب للغاية، في حالة اللاعب عمرو وردة، والذي تسببت أزمته الأخيرة بحدوث انقسامات بين جماهير الـ”سوشيال ميديا”، انتهت بترجيح كفة الفريق الذي يدعم رجوعه مرة أخرى الى صفوف المنتخب المصري، بعد أن تم استبعاده من المشاركة في المنتخب بسبب سلوكه الذي يفتقر الى الاخلاق.

        كيف تشكل جماهير السوشيال توجهاتها؟

إن ترجيح العاطفة على العقل، والذهاب بعيدا عن المنطق، هي ظاهرة غير مرتبطة على وجه الخصوص بحادثة محددة، ولكنها مرتبطة تماما بدرجة نجاح كل حادثة على حدة في إثارة العواطف، وهو ما يترتب عليه بعد ذلك درجة الدعم والتشجيع الذي ستحصل عليه هذه الحادثة بغض النظر عن مدى أحقية وعقلانية القضية من عدمها، المهم دائما للحصول على دعم الجماهير هو النجاح في إثارة عواطفهم الجياشة. 

وفي هذا الصدد، يصف غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” التحركات الجماعية إزاء قصة ما، أو شائعة ما، قائلا “إن الجماعة محلقة في حدود اللاشعور تتأثر بسهولة بجميع المؤثرات وذات إحساس قوي كإحساس الأشخاص الفاقدين للقدرة على الاعتماد على العقل واستخدام التفكير النقدي، وهي لا تعرف الغير معقول. ولهذا السبب دائما نعثر على تشويه في سرد الحوادث التي تتردد في مخيلة الناس، إذ تكون الواقعة بسيطة ولكن بشكل ما تنقلب صورتها في خيال الجماعة إلى نسخة أخرى مطورة، وهذا لأن الجماعة تفكر بواسطة التخيلات، وكل تخيل يجر الى تخيلات أخرى ليس بينها وبينه أدنى علاقة معقولة“.

وأضاف لوبون أن “هناك صورا متعددة من التشويش الذي تدخله الجماعة على حادثة شاهدتها، وهذا التنوع يتعدد بتغير أمزجة الأفراد، وكل فرد يتباين عن الفرد الآخر وهكذا. وبناء عليه حتى عندما يشاهد المرء الحادثة، يظل كذلك عرضة للتأثر بالعدوى الناجمة عن تخيلات الآخرين وطريقة تصورهم للحادثة“. 

كما تتأثر الجماهير بشكل كبير بالعواطف الجارفة، وتلعب العواطف دورا كبيرا في تعطيل حاسة العقل والقدرة على إطلاق الاحكام المنطقية. وبإعادة النظر الى تتابع الأحداث، تجد أن جماهير السوشيال ميديا، ومن قبلهم ركاب الطائرة “في واقعة المواطن المصري” الذين قاموا بالتقاط مقطع الفيديو، قد انجرفوا وراء العاطفة، التي أذهبت عنهم أهمية الالتفات الى السبب الحقيقي وراء تطور الأمور الى هذه الدرجة.. ومدى شرعية سلوك قوات الأمن تجاه شخص رفض مغادرة الطائرة وأصر على البقاء في مكانه! 

وهي نفس الجماهير التي اندفعت كالفيضان خلف العاطفة، بمجرد ملاحظتها لدواعي الحزن والانكسار التي بدت على وجه اللاعب “عمرو وردة” أثناء ظهوره في مقطع فيديو لأجل تقديم الاعتذار للجماهير. وأخذت تختلق له الذرائع وتردد عبارات مثل أن الشاب لايزال في سن صغيرة ولهذا السبب لا يستحق أن يتلقى العقاب جراء فعلته! علما بأن هذه الفعلة تعتبر جريمة بموجب أحكام القانون المصري. 

وهذا ما يقودنا الى حقيقة واحدة، وهي أن الجماهير لا تعترف بالحق والباطل، ولا بما يقره القانون من أحكام، وما هو صواب وما هو خاطئ، وأن انسياقها وراء قضية ما، أو انصرافها عن أخرى، لا يشكل بالضرورة مدى شرعية هذه القضية، أو مدى عدالتها. فقد ينساق الجماهير وراء لص ارتكب العديد من السرقات، فقط لمجرد رؤيته يجهش بالبكاء. وقد ينساق وراء مغتصب ذرف الدموع على جسد ضحيته وتعهد بتصحيح المسار وعدم تكرار الأمر مرة أخرى لمجرد كسب تعاطفهم. 

وكل هذه الأحكام تطلقها “الجماعة” وهي لا تنبع من عدالة الموقف، بقدر ما تستند بشكل كبير الى العاطفة. وعاطفة الجماهير كما أسلفنا الذكر مجردة تمامًا من العقل، ولا يمكن اتخاذها كذريعة لأجل إطلاق الأحكام في أي حادثة.

 مما يأخذنا إلى حقيقة واحدة وثابتة، وهي أن العدالة في أي موقف وأي حادثة يجب أن تستمد شرعيتها انطلاقًا من قوانين ومبادئ محددة، وأن تبقى هذه القوانين صارمة وثابتة في منأى عن العواطف التي تحيد عن المنطق والعقل. وهنا وبالقياس على الحادثة سالفة الذكر، تعاود الأسئلة طرح نفسها، هل من المفترض أن تساند الدولة المصرية رعاياها خارج حدود البلاد بغض النظر عن عدالة قضيتهم؟ أم من المفترض أن تساند الدولة عدالة الموقف؟ هل من المنصف أن تلغي الدول قوانينها الخاصة وتتحرك وفقا لمشاعر وتوجهات الجماهير؟! 

ماذا يحدث لو.. تحرك القانون في مصر بهذه الصرامة ورغم أنف “الجماعة المتعاطفة” تجاه كل انتهاك أخلاقي؟!

كاتب

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى