العراق

بوادر الانتقام أم الانقسام؟.. دوافع التصعيد العسكري للميلشيات الموالية لإيران في العراق

تشهد الساحة العراقية منذ الأسبوع الماضي تصعيدًا عسكريًا ملحوظًا من قِبل الميلشيات العسكرية العراقية الموالية لإيران، كان ملمحه الأبرز هو استهداف السفارة الأمريكية في بغداد بصواريخ الكاتيوشا (20 ديسمبر)، وهو ما نتج عنه تصعيد مضاد من قبل الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي ضد الميلشيات.

وبينما تنفي طهران رسميًا علاقتها بهذه الهجمات الميلشياوية ضد المصالح الأمريكية في العراق، تتهمها واشنطن بالوقوف وراء هذه الهجمات، وتحمّلها مسؤولية تعرض أي أمريكي للخطر. وذلك بالتزامن مع قُرب الذكرى الأولى لاغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس (3 يناير)، والرسائل الإيرانية المتضاربة حول احتمالات الانتقام.

تصعيد وتصعيد مضاد

اتجهت الأحداث بعد استهداف السفارة الأمريكية بوتيرة متسارعة نحو التصعيد في المواجهة بين الميلشيات من جانب والحكومة العراقية من جانب آخر. ورغم إدانة الميلشيات وفي مقدمتها كتائب حزب الله لاستهداف السفارة الأمريكية، فإن الأحداث التي تلت هذا الاستهداف أشارت إلى أن الرواية الأمريكية حول مسؤولية “الميلشيات المارقة المدعومة من إيران” هي الأقرب للصحة.

  • المواجهة الحاسمة

أكد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي (21 ديسمبر) عقب الهجوم أن الدولة هي التي تقرر السلام والحرب، وأن قوات الأمن قامت بعدة اعتقالات وصادرت صواريخ وقاذفات وأحبطت عملية ثانية كانت قيد الإعداد. وذكرت تقارير أن قوات الأمن اعتقلت القيادي بعصائب أهل الحق حسام الأزيرجاوي وأنه المسؤول عن الهجوم الأخير على السفارة الأمريكية، وهو ما دفع منتمين لعصائب أهل الحق إلى استعراض القوة في شوارع بغداد والتهديد بالمواجهة والمطالبة بإطلاق سراحه.

فيما شدد الكاظمي (25 ديسمبر) “لن نخضع لمغامرات أو اجتهادات، عملنا بصمت وهدوء على إعادة ثقة الشعب والأجهزة الأمنية والجيش بالدولة بعد أن اهتزت بفعل مغامرات الخارجين على القانون. طالبنا بالتهدئة لمنع زج بلادنا في مغامرة عبثية أخرى، ولكننا مستعدون للمواجهة الحاسمة إذا اقتضى الأمر”. وقام بجولات ليلية في شوارع بغداد للتأكيد على استتباب الأمن. 

 وهو ما قابله المسؤول الأمني بكتائب حزب الله أبو علي العسكري بتهديد الكاظمي بالقول (26 ديسمبر) “ندعو كاظمي الغدر ألا يختبر صبر المقاومة بعد اليوم، فالوقت مناسب جدًا لتقطيع أذنيه كما تُقطع آذان الماعز ولن تحميه حينها الاطلاعات الإيرانية ولا الـCIA الأمريكية ولا المزايدين على مصلحة الوطن”. إلا أن الأمين العام لعصائب أهل الحق قيس الخزعلي قال إن “ما حصل من اعتقال أحد أفراد الحشد الشعبي بتهمة كيدية جرت معالجته بالعقل والحكمة نجدد التزامنا بالدولة ومؤسساتها وفي نفس الوقت نؤكد حق المقاومة في إنهاء تواجد القوات العسكرية الأمريكية مع الحفاظ على هيبة الدولة بعدم استهداف البعثات الدبلوماسية”.

  • خرق الهدنة

مثّل استهداف السفارة الأمريكية خرقًا للهدنة التي أعلنتها الميلشيات (10 أكتوبر)، يُضاف إلى خرقين آخرين، أحدهما (17 نوفمبر) باستهداف المنطقة الخضراء بصواريخ كاتيوشا، والثاني (10 ديسمبر) بانفجار 3 عبوات ناسفة في رتل للتحالف الدولي في مدينة السماوة بمحافظة المثنى. 

ولكنّ هذا الخروقات عبر استهداف قوافل وأرتال التحالف الدولي قد ازدادت وتيرتها بشكل ملحوظ بعد هجوم السفارة الأمريكية، وخاصة في المحافظات الجنوبية. ومنها استهداف رتل تابع للقوات الأمريكية بمدينة الناصرية في محافظة ذي قار (20 ديسمبر)، واستهداف ثلاثة أرتال للدعم اللوجستي تابعين للتحالف الدولي في محافظة بابل (21-23-27 ديسمبر)، واستهداف رتل عسكري تابع للتحالف في مدينة السماوة بمحافظة المثنى (25 ديسمبر)، واستهداف رتلين عسكريين تابعين لقوات التحالف بمحافظة الديوانية (28 – 29 ديسمبر) 

بيد أن دلالة هذه الهجمات في مجملها لا تتعدى رمزية استهداف المصالح الأمريكية والدولية في العراق، وذلك بالنظر إلى الخسائر الطفيفة للغاية التي خلّفتها كل هذه الهجمات، والتي اقتصرت على إحداث أعطال ببعض الشاحنات وإصابة فردي أمن.

دوافع التصعيد

تتباين الاحتمالات حول الدوافع التي تقف وراء تصعيد الميلشيات العراقية لهجماتها خلال الآونة الأخيرة، وذلك ارتباطًا بالعلاقات الأمريكية الإيرانية وما تشهده حاليًا من شد وجذب في الأيام الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقُرب تولي الرئيس المنتخب جو بايدن للحكم، فضلًا عن عوامل الشِقاق الداخلي في صفوف الميلشيات.

  • الذكرى الأولى لمقتل سليماني

أكدت إيران على لسان كبار مسؤوليها أن الانتقام لمقتل سليماني قادم لا محالة، إلا أن تفاوتًا قد بدا حول شكل هذا الانتقام بدءًا من “الرد المدوي على الولايات المتحدة في الوقت المناسب”، وصولًا إلى “التغلّب على العظمة الجوفاء للإمبريالية باستخدام القوة الناعمة”.

ويمكن قراءة تصعيد الميلشيات العراقية في إطار التحضير للانتقام الإيراني المتتالي لمقتل قاسم سليماني أو حتى الانتقام لمقتل العالم النووي محسن فخري زاده عبر الأراضي العراقية، لا سيّما وأن تقارير أشارت إلى أن الحرس الثوري قام بنقل صواريخ دقيقة وقصيرة المدى وطائرات مسيّرة إلى العراق تحت إشراف عناصر إيرانية تنتمي إلى فيلق القدس.

ولذلك كثفت واشنطن من رسائل الردع والحضور العسكري في المنطقة بدءًا من إرسال القاذفات الاستراتيجية (B-52) مرورًا بإرسال حاملة الطائرات (USS Nimitz CVN-68) وصولًا إلى إرسال غواصة الصواريخ الموجهة (USS Georgia) بصحبة السفينتين الحربيتين (USS Port Royal CG 73) و(USS Philippine CG 58)، وتقديم 30 سيارة مدرعة للجيش العراقي لحماية المنطقة الخضراء.

  • استباق الإدارة الأمريكية الجديدة

عمدت طهران خلال الفترة الماضية إلى تهدئة أجواء الصراع مع واشنطن تجنبًا لرد فعل عسكري من قبل الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، ولذلك تحدثت تقارير عن زيارة سرية أجراها قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى العراق الشهر الماضي حث فيها الميلشيات على التأهب وتجنب إثارة التوتر مع واشنطن حتى انقضاء ولاية دونالد ترامب.

ورغم ذلك يمكن أن يكون التصعيد الميلشياوي الأخير جزءًا من النشاط الاعتيادي للميلشيات باستهداف المصالح الأمريكية للضغط على الإدارة الجديدة لتنفيذ قرار البرلمان العراقي (6 يناير) بإنهاء الوجود الأجنبي في العراق، وتوجيه رسائل لإدارة الرئيس المنتخب جو بايدن بأنه لا مناص من التفاوض معها سريعًا لإنهاء الوضع الراهن من عدم الاستقرار في المنطقة، وإلا فإن الميلشيات ستعزز هذا الوضع. ولذلك أرسل الكاظمي وفدًا رسميًا إلى إيران “لمناقشة الوضع الأمني؛ فهناك سلاح منفلت بحاجة ليس فقط إلى مفاوضات ونقاشات داخلية، بل هناك قوى إقليمية حاضرة في العراق، وبالتالي يجب التفاهم في هذه المسألة” حسب تصريح المتحدث باسم الحكومة العراقية حسن ناظم (29 ديسمبر).

  • الانقسام وفقدان السيطرة

كان مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني نقطة فاصلة في نشاط الميلشيات العراقية وتفاعلاتها الداخلية والخارجية بوصفه كان المشرف الرئيس على تأسيس عدد كبير من هذه الميلشيات ونشاطها. وأشارت عدة تقارير إلى أن انقسامًا ونزاعًا بدا بين هذه الميلشيات المنضوية تحت لواء هيئة الحشد الشعبي بعد مقتل سليماني، وخاصة بعد اختيار تعيين القائد بكتائب حزب الله عبد العزيز المحمداوي نائبًا لرئيس هيئة الحشد الشعبي خلفًا لأبو مهدي المهندس الذي قُتل بصحبة سليماني.

وأكدت تقارير أن كتائب حزب الله قد زاد نفوذها في أوساط الميلشيات بشكل كبير، وبدأت تهيمن على عدد كبير منها، فضلًا عن أنها عمدت إلى تأسيس ميلشيات صغيرة تنفذ بعض العمليات مثل تلك التي استهدفت المصالح الأمريكية خلال الفترة الماضية، مثل “قاصم الجبارين” و”أصحاب الكهف” و”خلايا الكاتيوشا” و”ربع الله”. ونتيجة لهذا النفوذ المتنامي انفصلت (1 ديسمبر) الميلشيات التابعة للمرجعية الشيعية في النجف عن الحشد الشعبي.

الملمح الأبرز من ملامح هذا النزاع داخل أوساط الميلشيات هو بين كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، وبذلك يمكن تفسير العمليات الأخيرة التي نُفّذت مؤخرًا واختراق الهدنة التي كانت كتائب حزب الله الطرف الأساسي في إعلانها (10 أكتوبر)، وآخرها الاستهداف الأخير للسفارة الأمريكية الذي تشير تحركات القوات الأمنية العراقية إلى أن العصائب هي التي قامت بتنفيذه.

وقد يشير حديث القيادي بكتائب حزب الله أبو علي العسكري في معرض تهديده للكاظمي بأن الوضع “يستدعي ضبط النفس لتضييع الفرصة على العدو، وعمليات القصف في الأيام الماضية لا تصب إلا في مصلحة عدونا ترامب الأحمق وهذا ما يجب ألا يتكرر”-وهو نفس الحديث الإيراني- إلى أن هذه العمليات قد تكون تمت بإرادة منفردة، وأن ميلشيات عراقية باتت لا تخضع للأوامر والتوجيهات الإيرانية. ومن ثم فإن هيئة الحشد الشعبي وما ينضوي تحتها من فصائل ستشهد متغيراتٍ وتطوراتٍ كثيرة خلال الفترة المقبلة قد تهيئ الظروف بصورة أكبر لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لمواجهة “السلاح المنفلت”.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى