
الأزهر الشريف.. في قلب معركة الدولة والمجتمع ضد الإرهاب والتطرف
مثّل الأزهر الشريف هدفًا مهمًا للتيارات الإسلاموية للسيطرة عليه أو تقويض وتهميش دوره المحوري والمهم كأداة من أدوات قوة مصر الناعمة التي تخلق لها نفوذًا عالميًا على الصُعد كافة “سياسيًا ودبلوماسيًا وروحيًا”، وكمنبر من منابر الاعتدال التي تبث وتنشر الإسلام بوصفه دينًا معتدلًا سمحًا في مواجهة النسخة الراديكالية المتطرفة التي تبارت جماعات التطرف والتنظيمات الإرهابية والتيارات اليمينية الغربية على السواء في تسويقها باعتبارها تمثل الدين الإسلامي على وجهه الحقيقي.
الفتوى الأخيرة التي صدرت عن “مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية” بتحريم الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين وما على شاكلتها من جماعات “لا هدف لها سوى بث الفرقة بين المسلمين، وإشاعة التخريب والإرهاب، وتصوير هذه التوجهات على أنها جهاد في سبيل الله، وإعادة لخلافته في الأرض” أبرزت جانبًا من جوانب هذه المواجهة بين الأزهر الشريف والحركات والجماعات المتطرفة التي سعت في مرحلة من المراحل إلى السيطرة على الأزهر ثم إلى استبدال منابر ودول أخرى بدور الأزهر المحوري في العالم الإسلامي.
الأزهر.. بين الاستقلال والتبعية
ممارسة الأزهر لدوره المحوري تتطلب أن يتمتع باستقلالية على المستوى الوطني عن مؤسسات الدولة المختلفة، واستقلالية على المستوى الخارجي عن أي دولة تريد الاستئثار بدور زعيمة العالم الإسلامي.
ولذلك نص الدستور المصري في مادته السابعة على أن “الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء”. وهي المادة التي لم تطلها أية تعديلات منذ إقرار الدستور عام 2014.
أما خارجيًا، فقد جرى تحييد مؤسسة الأزهر عن محاولات تمت خلال عامي 2012 و2013 لتبعية الأزهر إلى تركيا وانخراطه في مشروع الترويج لما يسمى استعادة الخلافة العثمانية الذي يعمل على تنفيذه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وأقصى ما وصلت إليه الضغوط التركية والإخوانية على مؤسسة الأزهر في هذا الوقت هو الإعلان “مايو 2012” عن إنشاء مركز فكري للاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي لمواجهة التشدد والإسلاموفوبيا، بمشاركة علماء الأزهر ورجال الدين الأتراك. ولذا سارعت تركيا من خطواتها لمنافسة الأزهر من خلال رئاسة الشؤون الدينية التركية “ديانت” ومحاولة استقطاب طلاب العلم في العالم الإسلامي للدراسة في كليات الدراسات الإسلامية بالجامعات التركية.
معركة الأزهر ضد التطرف والإخوان
تيقظت مؤسسة الأزهر مبكرًا لمساعي تنظيم الإخوان الإرهابي وروافده من التيارات الإسلاموية المتطرفة للسيطرة عليها وفرض آرائها المتشددة على المجتمع من خلالها، ولذلك انضم الأزهر إلى المصريين في ثورتهم ضد حكم الجماعة في 30 يونيو 2013، وكان شيخه الدكتور أحمد الطيب في واجهة بيان الثالث من يوليو 2013.
وبينما أفتى شيوخ الإخوان بتكفير الخارجين على حكمهم، أكد الأزهر في بيان أن “المعارضةَ السِّلميَّة لوليّ الأمر الشرعيّ جائزةٌ ومُباحة شرعًا، ولا علاقَةَ لها بالإيمان والكُفرِ، وأن العُنْف والخروج المُسلَّحَ مَعصِيةٌ كبيرةٌ ارتكبها الخوارِجُ ضِدَّ الخُلفاء الراشدين ولكنَّهم لم يَكفُروا ولم يخرجوا من الإسلام. والأزهرُ الشريفُ إذ يدعو إلى الوِفاق ويُحذِّرُ من العُنف والفِتنَة، يُحذِّرُ أيضًا من تكفير الخصوم واتهامِهِم في دِينِهِم”.
وبذل الأزهر جهودًا تتماشى مع استراتيجية إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لمحاربة التطرف وتجديد الخطاب الديني عبر تنقية المناهج التي تُدرّس داخل أروقته، وتدريب الأئمة والدعاة وتثقيفهم، فضلًا عن جهود دولية لمحاربة التطرف وتعزيز التسامح بين الأديان وأبرزها وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب وبابا الفاتيكان البابا فرانسيس في فبراير 2019 ونصّت على ” أنَّ الإرهابَ البَغِيضَ الذي يُهدِّدُ أمنَ الناسِ، سَواءٌ في الشَّرْقِ أو الغَرْبِ، وفي الشَّمالِ والجَنوبِ، ويُلاحِقُهم بالفَزَعِ والرُّعْبِ وتَرَقُّبِ الأَسْوَأِ، ليس نِتاجًا للدِّين – حتى وإنْ رَفَعَ الإرهابيُّون لافتاتِه ولَبِسُوا شاراتِه – بل هو نتيجةٌ لتَراكُمات الفُهُومِ الخاطئةِ لنُصُوصِ الأديانِ وسِياساتِ الجُوعِ والفَقْرِ والظُّلْمِ والبَطْشِ والتَّعالِي؛ لذا يجبُ وَقْفُ دَعْمِ الحَرَكاتِ الإرهابيَّةِ بالمالِ أو بالسلاحِ أو التخطيطِ أو التبريرِ، أو بتوفيرِ الغِطاءِ الإعلاميِّ لها، واعتبارُ ذلك من الجَرائِمِ الدوليَّةِ التي تُهدِّدُ الأَمْنَ والسِّلْمَ العالميَّين، ويجب إدانةُ ذلك التَّطرُّفِ بكُلِّ أشكالِه وصُوَرِه”.
وفي سبيل مكافحة التطرف، أنشأ الأزهر “مرصد الأزهر لمكافحة التطرف والإرهاب” عام 2015 لمكافحة الفكر المتطرف وتفنيده وبيان فساده، وسد جميع النوافذ التي تتسلل التنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية من خلالها إلى عقول الشباب. وهو المرصد الذي وصف جماعة الإخوان في بيان له في فبراير 2018 بأنها “تسير على خطي داعش وغيرها من الجماعات المتطرفة التي تسعى إلى نشر الفوضى وتحقيق أجندات خفية وتحاول عبثاً أن تهدد أمننا وأماننا”.
القوة الناعمة وتناغم المواقف
قوة الأزهر الناعمة ودوره كأحد أدوات قوة مصر بدت في الأزمة الأخيرة للرسوم المسيئة التي نشرتها مجلة شارلي إبدو الفرنسية عن الرسول صلى الله عليه وسلم اتصالًا بدوره الذي يتعدى الحدود الوطنية ويعبر عن العالم الإسلامي أجمع؛ إذ أصدر بيانات واضحة أكد فيها أن “الإساءةَ للإسلام والمسلمين هي عبث وتهريج وانفلاتٌ من كلِّ قيود المسؤوليَّة والالتزام الخُلُقي والعرف الدولي العام، وهو عداءٌ صريح لهذا الدِّين الحنيف، ولنبيِّه الذي بعَثَه الله رحمةً للعالَمين”.
وبينما أكد الطيب للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء لقائه إياه في القاهرة في يناير 2019 أن العلاقات القوية بين الأزهر وفرنسا تحتم مساعدة فرنسا في التغلب على الإرهاب، واستعداد الأزهر دعم فرنسا من خلال برنامج لتدريب الأئمة على مواجهة الفكر الإرهابي، فقد أعرب في أكتوبر 2020 عن استنكاره وغضبه لاستخدام مصطلح “الإرهاب الإسلامي” لما يترتب على هذا الاستخدام من إساءة بالغة للدين الإسلامي والمؤمنين به، ومن تجاهل معيب لشريعته السمحة وما تزخر به من مبادئ.
وأعلن الطيب تشكيل لجنة خبراء قانونية دولية لرفع دعوى قضائية على “شارلي إيبدو” الفرنسية لإساءتها للنبي صلى الله عليه وسلم، وطالب بمواجهة خطاب الكراهية عبر المطالبة بسن تشريعات دولية تجرم التحريض على الكراهية والتمييز ومعاداة الإسلام، وأعلن إطلاق الأزهرِ الشَريف مِنَصَّة عالميَّةً للتعريفِ بنبيِّ الرَّحمة ورسول الإنسانيَّة صلى الله عليه وسلم يقوم على تشغيلِها مرصد الأزهر لمكافحة التطرف. وأكد خلال لقائه في القاهرة بوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أن “الإساءة لنبينا محمد مرفوضة تمامًا، وإذا كنتم تعتبرون الإساءة لنبينا حرية تعبير فنحن نرفض هذه الحرية شكلًا ومضمونًا”.
وهو الموقف الذي تناغم مع موقف القيادة السياسية الذي ظهر في زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة الفرنسية باريس، وتأكيده في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن “من حق الإنسان أن يعتنق ما يعتنق ويرفض ما يرفض لكن من المهم ونحن نعبر عن رأينا ألا نقول من أجل القيم الإنسانية، تُنتهك قيم دينية – مرتبة القيم الدينية أعلى كثيرا. … أتصور أن التساوي بين القيم الإنسانية ونحن نحترمها ونقبلها والقيم الدينية أمر يحتاج منا إلى المراجعة بمنتهى الهدوء والتوازن.. القيم الإنسانية من صنع الإنسان ويمكن تغييرها بينما القيم الدينية من أصل سماوي وبالتالي فهي مقدسة، والمساس بالمقدسات لا يمكن التسامح فيه”.
باحث أول بالمرصد المصري