العراق

مذبحة “ساحة النسور”… عندما تصبح أرواح العرب مجانية!

في الصفحات الأولى من عناوين اليوم الإخبارية، بينما أشرفت 2020 على أواخرها، استيقظ العالم على عناوين تُبشر بصدور عفو رئاسي أمريكي من قبل الرئيس دونالد ترامب، على أربعة أفراد ارتكبوا جريمة مضى على حدوثها نحو 13 عامًا.

كان هؤلاء المدانون هُم، أربعة حراس تابعون لشركة “بلاك ووتر” الأمريكية للخدمات الأمنية الخاصة، والذين تمت إدانتهم بتهمة القتل العمد في 2014، وبناءً عليه تلقوا أحكامًا بالحبس لفترات زمنية طويلة.

لكن، الجريمة الحقيقية وقعت بتاريخ 2007، واليوم بينما نمضي على مشارف العام 2021، وبينما يقضي العالم كل أوقاته في متابعة كل ما يتعلق بزخم فيروس كورونا. قد تتوه عن الذاكرة تفاصيل جريمة القتل التي ارتكبها المسلحون الأمريكيون الأربعة،.

ويبقى السؤال، أو بالأحرى الاسئلة، هل قتل هؤلاء الأمريكيون مواطنا عراقيا واحدا  فقط؟! هل قتلوا فردين؟! أم ثلاثة؟! وهل تلك الجريمة الشنعاء تم ارتكابها بحق مدنيين أم عسكريين ؟! وما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه الحادثة الدموية الشنعاء، التي لن يُغير العفو من مدى بشاعتها شيئًا؟

بدأ كل شيء في عام 2007، أثناء وقوع دولة العراق بشكل كامل تحت وطأة الاحتلال الأمريكي، الذي حضر إلى البلاد أول الأمر بحجة البحث عن الأسلحة النووية التي اخترتها صدام حسين  رغمًا عن أنف المجتمع الدولي. وبعد أن تأكدوا من عدم وجود هذه الأسلحة، بقوا هناك، ولم يغادروا العراق، وظلت القوات الأمريكية تحوم على مقربة من أكثر ما لطالما كان يعنيها في العالم، وهو بالطبع النفط العربي. وفي غضون ذلك، كانً من “نيكولاس سلاتن، وبول سلو، وإيفان ليبرتي، وداستن هيردس”، يعملون حُراس أمن لدى شركة بلاك ووتر الأمريكية للخدمات الأمنية الخاصة. وكانوا يتحركون في خضم قافلة عسكرية خاصة بهم، عندما رأوا حشد مدني عراقي قادم في الأفق، وقرروا بدون أي أسباب إطلاق النيران عليهم بشكل عشوائي. مما نتج عنه مقتل 14 مدنيا عراقيا أعزلا  كان من بينهم أطفال لم يتجاوز أعمارهم العشرة أعوام بعد، بالاضافة الى نساء ورجال أبرياء.

وتسببت هذه المذبحة في إثارة الغضب الشعبي العراقي بشكل كبير، بالدرجة التي أدت الى توتر كبير في العلاقات بين البلدين ، وترتب عليها كذلك إثارة تساؤلات عن مدى الحرية التي يحظى بها العاملون في المجالات العسكرية الأمريكية بالعراق، وعما إذا كانوا بالفعل يحملون رخصة مجانية للقتل أم لا؟! وبعد مشوار طويل من الوقت يفصل ما بين تاريخ وقوع المذبحة الفعلي في 2007 وما بين لحظة النطق بالحكم على المتهمون في 2014، قضتها السلطات العراقية والأصوات المعنية في الدفاع عن دماء الأبرياء، في محاولات لإثبات الحقيقة التي كادت أن تضيع بالفعل عدة مرات أمام المحاكم الأمريكية التي حاولت إثبات الاتهامات باعتبارها قتل غير عمد تارة، وباعتبارها دفاع عن النفس تارة أخرى. شهد أخيرًا العام 2014 لحظة الحكم بحبس المتهمون الأربعة، بحيث تم الحكم على ثلاثة منهم بالحبس لمدة ثلاثين عامًا، بينما تلقى أحدهم فقط “سلاتن” حُكما بالحبس المؤبد، نظرًا لأنه كان هو أول من فتح النيران على الأبرياء.

وظل الأمر على ما هو عليه، حتى ظهر الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب الذي يبدو أنه قرر أن يودع منصبه من خلال إطلاق سراح مجرمي الحرب والتغاضي عن الجريمة التي يحاول المتهمون والمدافعون عنهم التعامل معها كما لو كأنها لم تُرتكب بحق أرواح بشر، ولكن بحق أرواح دجاج أو ماشية.  وهو في الحقيقة التشبيه الأقرب لما نقله شهود على الواقعة، وشهود تثنى لهم في ذلك الوقت قضاء بعض الوقت حول المتهمون قبيل ارتكابهم لهذه المذبحة. إذ أنه وفقًا للشهود من زملاء أحد المتهمون “نيكولاس سلاتن”، واللذين ذكروا أن سلاتين لطالما اشتهر بوصفه للعراقيون بأنهم حيوانات، وأن حياتهم لا تساوي أي شيء.

وربما بهذه الطريقة نعرف المبررات وراء الجريمة الشنعاء، التي وفقًا لرواية رونالد ماتشين جونيور، المُدعى العام الأمريكي لمقاطعة كولومبيا، والتي أطلقها في أعقاب محاكماتهم في عام 2014، قائلاً  “أن حراس بلاك ووتر، أطلقوا نيران قنص قوية للغاية ومدافع رشاشة وقاذفات قنابل على رجال ونساء وأطفال أبرياء”. إذا نعرف بهذه الطريقة، أن مجزرة بهذا الحجم، كان بالتأكيد لها دوافع. وردًا على سؤال حول الداعي الرئيسي أو المبرر الذي قد يدفع رجال مدججون بالسلاح في أن ينهالوا بهذا الكم من الأسلحة والرشاشات على مجموعة من المدنيين الُعزل، لن يوجد هناك أوقع من المقولة المنسوبة لسلاتن نفسه، والمذكورة أعلاه، بأنهم يعتقدون أن العراقيون حيوانات، وأن حيواتهم لا تساوي أي شيء على الإطلاق. ربما هذا هو السبب الحقيقي أيضًا الذي ساعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على عدم التردد في اتخاذ القرار، خاصة وأنه سوف يصب في النهاية في صالح شركة “بلاك ووتر”، التي يملكها إريك برنس، وهو مؤيد بارز لترامب وشقيق وزير التعليم الأمريكي بيتسي ديفوس.

إذا نعرف من كل ما سبق، أن الحديث عن المنظومة الأخلاقية الأمريكية، التي تقضي بضرورة تقصي جرائم حقوق الإنسان حول العالم ومعاقبة مرتكبيها، ليست أكثر من مجرد غطاء سياسي، لأجل تحقيق أهداف سياسية بحتة ليس لها أدنى علاقة بقضايا حقوق الإنسان الفعلية. وبناءً عليه، من الأجدر أن يسأل العالم الولايات المتحدة، أو بالأحرى أن يتوجه بالسؤال إلى رئيسها المنتخب جو بايدن، الذي يستهل ولايته الرئاسية الأولى بالإعلان عن تركيزه على هذا النوع من القضايا. ويقول له، متى كانت أرواح العرب مجانية؟ ومتى امتلك الغرب رخصة قانونية لارتكاب المجازر بحقهم؟ 

وفي لمحة قصيرة عما خلفته القوات الأمريكية ورائها من دمار شامل بحق مدنيين أبرياء على كل جبهة خاضت فيها حروبًا، سوف نعرف أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت في فبراير 1991، أثناء مشاركتها في التحالف المضاد للاحتلال العراقي للكويت، بقصف أكثر من 8437 من منازل المدنيين، و157 جسرًا وسكك حديدية، و130 محطة كهرباء رئيسية وفرعية، و249 دارًا لرياض الأطفال و139 دارًا للرعاية الاجتماعية، و100 مستشفى ومركز صحي، و1708 مدرسة ابتدائية.  كما قصفت الطائرات الأمريكية في ذات التوقيت ملجأ العامرية في بغداد مما أدى إلى مقتل أكثر من 300 مدني من الأطفال والشيوخ. وفي عام 2001، قامت الولايات المتحدة بعد أن أعلنت الحرب على الإرهاب، بقصف العاصمة الأفغانية كابول بالآلاف من صواريخ كروز وقذائف النابالم الحارقة والقنابل العنقودية، وقذائف تحتوي على اليورانيوم المنضب وأسلحة كانت تجرب لأول مرة قتلت أكثر من 50 ألف مدني. بالإضافة إلى أوجه عدة من هذا القبيل من الدمار الذي خلفته وراءها الولايات المتحدة ولكنه على الرغم من فجاجته قد قوبل بالصمت الغريب العاجز!

إن العالم الغربي الممتلئ على آخره بشعارات رنانة تتصل جميعها بحقوق الإنسان، وقف صامتًا أمام ما يُرتكب في معتقل جوانتانمو من أفعال ضد الإنسانية. ووقف صامتًا بالمثل أمام ما يحدث داخل جدران سجن أبو غريب. ووقف صامتًا أمام حرب العراق برمتها وما خلفته ورائها من دمار شامل وضحايا مدنيين، وكذا الحال بالنسبة لافغانستان، وكذا الحال بالنسبة للدور الأمريكي في حرب سوريا وما بذلته من دمار فقط لأجل البقاء على مقربة من آبار النفط السورية. وهنا يبقى السؤال، لماذا لا تتسع مظلة حقوق الإنسان الغربية حتى تشتمل على الممارسات الأمريكية الشنعاء؟ لماذا لا يتحرك المجتمع الدولي بشأن الانتهاكات التي ترتكبها الولايات المتحدة ضد الإنسانية؟ ومتى سوف يتوقف الغرب عن اختلاق وتسييس قضايا حقوق الإنسان؟ بينما يغض طرفه عن المآسي الحقيقية التي تُرتكب في هذا الملف من قبل قوى كُبرى تضع نفسها في منصب محكمة العدل والأخلاق العالمية؟!

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى