
تغافل أوروبي أمام دعوات داخلية لوقف الانتهاك ومحاصرة العنف (الحلقة الثانية)
عرض -بلال منظور
تنشر شبكة “مراقبة العنف على الحدود” تقريرًا شهريًا منذ ديسمبر 2018، تلخص فيه الاتجاهات الحديثة لعمليات دفع المهاجرين إلى الحدود، مسلطا الضوء بشكل رئيسي على أوضاع المهاجرين في اليونان والدول الواقعة على طريق البلقان وحتى الحدود السلوفينية الإيطالية.
تستند منهجية الشبكة في الاعتماد بشكل رئيسي على النزول إلى أرض الواقع والتحقق من حالات الدفع غير القانونية والممارسات العنيفة ضد المهاجرين؛ وذلك عبر تقدم مجموعات من المتطوعين وإجرائهم لمقابلات ومسوحات لأوضاع المهاجرين والاستماع إلى الشهادات الحية والواقعية وإرفاق دلائل وحقائق مدعمة بالصور والتواريخ والمناطق الجغرافية والتقارير الطبية في التقارير النهائية للشبكة.
وتعد المخالفة القانونية ضمن سلسلة الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرين هي “عمليات الدفع” ووقوف السلطات الأوروبية عليها، واتخاذها شكل نمط واتجاه عام وممنهج للممارسات.
ويتمثل الخرق القانوني في أن الدفع يترتب عليه عملية طرد بشكل غير رسمي للمهاجر دون حتى إعطاءه حقه القانوني لطلب اللجوء، تحولت بموجبه هذه السياسة إلى نظام لتعامل دول الاتحاد الأوروبي.
أكد تقرير يوليو 2019 الصادر عن الشبكة، أن السياسيين الأوروبيين تلقوا ضمنيًا الضوء الأخضر من الاتحاد الأوروبي والسماح بانتهاج عمليات للدفع على طول الحدود، في إشارة إلى أن هذا النظام المتبع في الأصل مدعم ومنظم من قبل المستويات العليا في الحكومات الأوروبية.
الدفع بين الحدود والمعاناة الإنسانية
جاء في أكثر من تقرير شهري أن السلطات الإيطالية قامت بعمليات دفع متعاقبة للمهاجرين من حدودها إلى حدود دول مثل البوسنة والهرسك وسلوفينيا وكرواتيا، والتي بدورها أيضًا تقوم بالدفع من الجانب الأخر. إذ قامت الشرطة الإيطالية باعتقال مجموعة من المهاجرين في قرية بضواحي مقاطعة “تريست” الإيطالية ووصفوا في شهاداتهم أمام متطوعي الشبكة عملية نقلهم إلى مبنى حكومي غير معروف ماهيته. أضف إلى ذلك، أن نفس المجموعة المعنية والتي تم دفعها لاحقًا إلى سلوفينيا، تعرضت لنفس الاجراءات في كلتا الدولتين عبر الاحتجاز وإجبارهم التوقيع على أوراق مكتوبة بلغات لم يفهمونها، فيقول أحدهم:
” سألنا الضابطة الحاضرة معنا عن ماهية المكتوب في الورق لأنه بالإيطالية ولم نفهمه ولا نعرف ما الذي وقعنا عليه، لكنها لم تعبأ ولم تترجم لنا المكتوب”
وفي إيضاح نظرة السلطات الأوروبية للمهاجرين على أنهم مجردون من أي حقوق للإنسان يقول أحدهم بعد الإدلاء بشهادته:
” أخبرت المترجم أن علينا إيجاد حل ما، فلا يمكنهم إعادتنا مرة أخرى إلى سلوفينيا مع العلم أننا كنا في إيطاليا، وكان الرد المقابل: أنتم مهاجرون ولستم سائحين!”
وبعد وصول نفس المجموعة إلى كرواتيا، تم إلقاء القبض عليهم مرة أخرى في سلسلة لا تنقطع من الاعتقالات والتحقيقات قبيل دفعهم للمرة الثالثة إلى حدود البوسنة والهرسك، ولكن تلك المرة تم حرص السلطات الكرواتية على قطع وسيلة الاتصال أمام المجموعة المهاجرة عبر تحطيم أجهزة المحمول لديهم وإلقائهم في طريق مقطوع داخل الغابات للسير نحو الدولة اللاحقة في رحلتهم الدائرة ورفض حتى حقهم في طلب اللجوء.
تشير تلك الاجراءات والتي اتخذت نمطًا ممنهجًا إلى أن دول مثل إيطاليا وسلوفينيا يخفون أفعالهم وارتكاباتهم خلف ستار قوائم عريضة ومطولة من الإجراءات غير المترجمة وغير المبررة من أجل إخفاء وتضليل الطابع المؤسسي لعمليات دفع المهاجرين دون أي إطار قانوني أو إنساني للتعامل.
حفزت سلاسل الانتهاكات شبكة مراقبة العنف على الحدود على البحث والاستقصاء عن الأطراف المتعاونة مع السلطات المحلية للدول الأوروبية في تنفيذ عمليات الدفع، إذ لا يقتصر الأمر على الشرطة وتسليط الأضواء على ممارستها، ولكنه يشمل قائمة من الفاعلين والمنسقين، يدخل فيها مؤسسات الجيش وآلية فرونتكس لإدارة الحدود الأوروبية Frontex والاخصائيين الاجتماعيين والمترجمين. وتوصلت الشبكة عبر تلك الدلائل إلى أن الدفع والانتهاكات ليس حوادث عرضية، ولكنها نمط ممنهج وسياسة أوروبية متبعة، دون اعتبار للأوضاع الإنسانية للمهاجرين أو اكتراث لتفشي وباء كورونا بين أوساطهم.
وفي منطقة مجاورة لشرق المتوسط الأوروبي، شهدت الحدود المتاخمة بين اليونان وتركيا عمليات دفع لمجموعات من المهاجرين من تركيا إلى اليونان، تم القبض عليها في بادئ الأمر في ظل ظروف غير مهيئة إنسانيًا وفي انعزال تام وكامل عن أي معلومات بشأن أوضاعهم أو ما سيلاقونه. لم تسلم رحلة الانتقال من حدود لأخرى من أي تعدٍ على المهاجرين، فقد لاقوا أشكالًا من العنف الجسدي وقطع وسائل الاتصال عليهم عبر مصادرة وتحطيم اجهزتهم المحمولة وتجريدهم حتى من الأموال النقدية لكي لا يتسنى لهم إجراء أي عمليات لشراء المواد الغذائية. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أدلت مجموعة من المهاجرين بشهاداتهم مفيدة أن في شتاء 2019 تم تجريد أعداد غفيرة من ملابسهم ودفعهم بالعنف إلى الحدود التركية في ظل ظروف شديدة القسوة.
كما سجل المتطوعون في “ثيسالونيكي” باليونان عمليات دفع عدائية للمهاجرين وتوثيق للظروف العامة لاحتجاز المجموعات في منطقة “أدرنة” بتركيا. كشفت الشهادات عن تجميع أعداد المهاجرين في منشأة للاحتجاز تسمى “بوسنة” في تركيا بالقرب من مقاطعة “أدرنة” وممارسة العنف الجسدي بحقهم من قبل الشرطة والجيش التركي.
شد وجذب بين الشبكة والاتحاد الأوروبي
إلى الجانب الدور الرصدي والتحقيقي الذي تضطلع به شبكة مراقبة العنف عبر الحدود، والذي تُوّج في الكتاب الأسود الصادر يوم الإعلان العالمي للمهاجرين وسيتم عرضه في الحلقات اللاحقة، يأتي دور الدعوات التي تصدرها الشبكة ومخاطبتها لدول الاتحاد الأوروبي باتخاذ اجراءات لإيقاف سلاسل الانتهاكات القانونية والإنسانية لمن لهم حق الحصول على الحقوق والانتماء إلى مجتمع سياسي. فالتحقيقات التي قامت بها المفوضية الأوروبية فشلت وفق تقرير الشبكة في الوقوف على تلك الانتهاكات او حتى إدانتها، في حين أن الدور الذي تلعبه المفوضية بوصفها “حارسة المعاهدات والاتفاقيات” يحتم عليها البت في تلك الانتهاكات ووقف سياساتها. فعلى الرغم من انتهاك كرواتيا لحقوق الإنسان بشكل صريح وممارسة العنف على الجسد بصورة مباشرة، إلا أن الاتحاد الأوروبي وافق على انضمامها إلى اتفاقية الشنجن، غافلًا أية اعتبارات لحقوق الإنسان.
تذهب تلك المواقف إلى طرح الشبكة لتساؤلات عن ميزانيات حماية حدود الاتحاد الاوروبي، مشيرة إلى أن تدشين آلية مراقبة على الحدود كان شرطًا لزيادة التمويل الأوروبي لميزانية حماية الحدود، إلا أن المفوضية الأوروبية لم تتابع بشكل جدي آلية المراقبة تلك.
وفي هذا الإطار، تحاول شبكة مراقبة العنف على الحدود التنسيق والعمل مع المفوضية الأوروبية لمنع التعذيب ومؤسسة هيومان رايتس واتش وفريق الأمم المتحدة العامل المعني بالاحتجاز التعسفي، المطالبة والدعوة إلى وقف الانتهاكات وتقديم دول الاتحاد لتقرير يتم فيه شرح أسباب اللجوء إلى تلك السياسات الخاصة بدفع واختفاء المهاجرين قسريًا. إذ أكد الطلب الذي تقدمت به الشبكة في سبتمبر 2020 إلى الأمم المتحدة أن اليونان لم تستوفِ التزاماتها القانونية المنصوص عليها في معاهدات حقوق الإنسان واتفاقيات مناهضة العنف والاختفاء القسري، هذا إلى جانب لعبها دور في تفاقم أوضاع حقوق الإنسان عبر دفعها للمهاجرين إلى تركيا ليلقوا ألوانًا أخرى من المآسي.
وفي بيان صادر عن شبكة مراقبة العنف على الحدود، أكدت أن الحكومة الألمانية تقوم بمنح الدعم للإجراءات التعسفية التي تقوم بها كرواتيا ضد المهاجرين، مشيرًا إلى أن الشبكة ومنظمات حقوق الإنسان الألمانية والدولية والناشطين يقفوا في وجه هذا الدعم غير المبرر وغير الإنساني والمؤيد بشكل صريح لانتهاكات حقوق الإنسان للمهاجرين. كما طالبوا الحكومة الألمانية بالعمل على وقف العنف ضد المهاجرين وطالب اللجوءوالامتثال باحترام قانون الاتحاد الأوروبي للحددود الخارجية ووقف دعمها لانتهاكات حقوق الإنسان.
وفي المقابل، أنكرت الحكومة الألمانية معرفتها أو علمها بسلسلة الانتهاكات الممنهجة، على الرغم من وجود تصريحات للمستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” تمدح فيها الإجراءات التي تتخذها السلطات الكرواتية، وقيام وزير الداخلية الألماني في يناير 2020 بمنح ودعم كرواتيا معدات خاصة لعمليات المراقبة على الحدود. فضلًا عن ذلك، تشارك ألمانيا في آلية فرونتكس لمراقبة الحدود عبر تقديم استشارات تدريبية للقوات المشاركة من كرواتيا، بما يؤشر على وجود قنوات مكثفة للتنسيق بين ألمانيا وكرواتيا لمراقبة الحدود وإيفاد تقارير مفصلة بين الجانبين لمستجدات الأوضاع.
في سلسلة من الدعوات والمناشدات التي طالبت بها شبكة مراقبة العنف على الحدود والتي لم تحرز تقدم في ملف حقوق الإنسان الأـوروبي الخاص بأوضاع المهاجرين والمعتبرين في نظر الاتحاد أفراد مجردين من الحقوق لعدم تواجدهم في دولة، قامت الشبكة بنشر الكتاب الأسود الصادر حديثًا متضمنًا 1600 صفحة من الانتهاكات وعرضه عبر كتلة اليسار في البرلمان الاوروبي، والتأكيد على فشل السياسة الأوروبية في التعامل مع المهاجرين وإغفال قيم التضامن والإنسانية. يهدف الكتاب إلى نقل الصورة بشكلها الحقيقي والواقعي أمام كافة المؤسسات والحكومات الأوروبية ووضعهم تحت إطار من المحاسبة على الاعتداءات والمخالفات المرتكبة، والدعوة إلى حل حقيقي وتغيير جذري في نمط الممارسات والسياسات على أرض الواقع لإنهاء ممارسات العنف على الحدود في ظل تراجع ملحوظ للإرادة السياسية الأوروبية.
انتظرونا في الحلقة المقبلة…