
في سبتمبر الماضي ومع تصاعد موجة الانتقادات العالمية لتركيا في قضية القبارصة، لجأت أنقرة مرة أخرى إلى إثارة قضية ” التتار” في شبه جزيرة القرم، وجددت رفضها لإقدام روسيا على الضم الأحادي لشبه الجزيرة التي ترى تركيا أنها تتبع لكييف.
وحاليًا يدرس الكرملين سيناريوهات الرد على الدعم التركي لتتار القرم؛ إذ أكد الكرملين الروسي أن أنقرة دعمت ما يقرب من 250 ألف تتري في شبه جزيرة القرم ليس لشيء إلا لإزعاج موسكو والتلويح بأوراق الضغط ضدها بين الحين والآخر علها تحقق مكاسب في الملف السوري أو الملف القبرصي، كأن تنتزع على سبيل المثال الاعتراف الروسي باستقلال الشمال القبرصي الذي تدعمه تركيا.
ويتوجس الجانب الروسي من رغبة أنقرة في استنساخ نموذج ناجورنو قره باغ بين روسيا وأوكرانيا عن طريق اللعب على منطقة تتار القرم وتدريب المئات منهم للقيام بعمليات ضد الأسطول الروسي العملاق في البحر الأسود، خصوصًا إذا ما علمنا أن أنقرة منحت لكييف طائرات بدون طيار من نفس الطراز الذي منحته لأذربيجان في حربها مع أرمينيا.
علاقات متجددة
يوم الخميس الماضي التقى وزير الخارجية التركي “مولود تشاووش أوغلو” مصطفى جميل قرم أوغلو زعيم تتار القرم على هامش زيارته لأوكرانيا، وينتمي تتار القرم إلى مجموعة عرقية تركية، وتعد شبه الجزيرة موطنهم الأصلي، وقد تعرضوا لعمليات تهجير قسرية نحو وسط روسيا وسيبيريا ودول آسيا الوسطى إبان الحكم السوفيتي لأوكرانيا.
ووفقًا لصحيفة ” يني شفيق” المعروفة بمزاجها الذي يتوافق والمزاج الحكومي التركي فإن أنقرة جددت رفضها لضم القرم إلى روسيا، علاوة على استمرارها في دعم أبناء جلدتها من التتار الأتراك هناك. وكانت قد أصدرت بيانًا في سبتمبر الماضي انتقدت خلاله الحكم الصادر عن محكمة روسية بحق سبعة من أبناء قومية التتار، وطالبت بأن يتوقف فورًا الاضطهاد الروسي للتتار في القرم.
وما يشير ضمنيًا إلى أن تركيا تلعب بورقة التتار بين الحين والآخر للضغط على روسيا أن البيان التركي الصادر في سبتمبر الماضي جاء في أعقاب زيارة وزير الخارجية الروسي سيجري لافروف إلى العاصمة القبرصية وإعلانه عن ترحيب روسيا بأن تلعب دور الوسيط في توحيد الجزيرة التي انقسمت منذ عام 1974.
وعلى الرغم من ذلك، فإن تركيا لا زالت تتمتع بنفوذ كبير في قبرص، خصوصًا بعد تمكن أرسين تتار من الفوز برئاسة شمال الجمهورية القبرصية، وهو المرشح المعروف باتجاهاته الموالية لأنقرة. وقد لحق بذلك اتهامات متتالية لأنقرة بالتدخل في سير الانتخابات لأن فوز مرشح موالٍ لها في قبرص الشمالية يضمن لها موطئ قدم على المتوسط.
كتيبة تتار القرم
في هذا السياق أكد تقرير منشور على موقع DW أن تركيا كانت قد بدأت في عام 2015 في تقديم الدعم العسكري لما يعرف بكتيبة تتار القرم، وقد بدأت الكتيبة في ذلك العام بقوام 560 فردًا، ثم منحت رقمًا عسكريًا لتنطلق رسميًا. وهو ما أثر على العلاقات المتوترة بالأساس بين أنقرة وموسكو بالسلب، وبرز تساؤل هنا حول ما إن كانت الكتيبة مؤثرة بالفعل أو تشكل قلقًا من الناحية العسكرية لموسكو أم أنها “دمية جديدة” تحاول أنقرة تحريكها لإلهاء موسكو باستمرار في ” حديقتها الخلفية” والتأثير على تحركاتها في الملف السوري وملفات أخرى.
ووفقًا لما أثير وقتها، فإن أردوغان وبعد إسقاط الطائرة الروسية بطريق الخطأ في سوريا انخرط في سلسلة من الإجراءات الانفعالية الاستفزازية، وكأنما أراد التأكيد لموسكو أنه غير متوجس من رد فعلها حيال الطائرة.
وتُعد كتيبة تتار القرم جزءًا من القوات المسلحة الأوكرانية؛ فالعلاقات بين كييف وانقرة مستتبة من باب “عدو عدوي صديقي”. ولكن على أي حال فربما يكون هناك مبالغة حول الحديث عن كتيبة تتار القرم؛ فكل الأمر أن هناك انجذابًا بين الطرفين “الأوكراني والتركي” ضد روسيا، وهي مسألة تكتيكية سياسية للضغط على الطرف الروسي. في الوقت الذي تنفي فيه أنقرة تقديم أي دعم عسكري لهذه الكتيبة.
ومن ناحية أخرى، تسعى أنقرة على الدوام إلى البقاء على صلة وثيقة بتتار القرم، وتنصب نفسها الحامي الرئيسي لهم وهو يمثلون مجموعة عرقية ترجع أصولها إلى تركيا قبل أن يستوطنوا في شبه جزيرة القرم، وذلك قبل أن يتجه البعض منهم إلى أوكرانيا في حين أن الباقين قد حصلوا على جوازات السفر الروسية، مما يشير إلى معاملتهم أسوة بغيرهم من سكان شبه الجزيرة دون اضطهاد أو تمييز من روسيا لهم على العكس مما تدعيه أنقرة.
وكذلك فإن هناك جزءًا كبيرًا منهم ما زال يعيش في تركيا ويضطلع بدور كبير على صعيد الساحة السياسية التركية، ووفقًا لـ”معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم” فإن هناك أكثر من ثلاثة ملايين من التتار يعيشون في تركيا.
وتشهر أنقرة هذه الورقة في وجه روسيا بين الحين والآخر؛ إذ ينظم التتار المقيمون في تركيا مظاهرات حاشدة للتنديد بالضم الروسي الأحادي للقرم، وكذلك التنديد بالمعاملة الروسية لأبناء جلدتهم في الجزيرة.
وتعد قضية تتار القرم من النقاط الخلافية الأساسية بين أنقرة وموسكو، وفي الوقت الحالي وبعد خلافات متصاعدة في عدد من الملفات بين روسيا وأوكرانيا لا يبدو أن الكرملين ما زال يرى في تركيا حليفًا يعتمد عليه. وغالبًا ما يتم تناول قضية التتار في القرم بأنها مثل البركان الخامد الذي لا يعرف أحد في أي وقت ينفجر.
علاقات البوابة الخلفية مع أوكرانيا
لا يخفى على الكثيرين أن أنقرة في دعمها لتتار القرم إنما تستهدف تقوية علاقاتها بكييف من البوابة الخلفية، ودائمًا ما تدفع بأن التتار سيلاقون معاملة آدمية من كييف إذا ما عادت شبه الجزيرة إلى سابق وضعها قبل 2014.
وعلى الصعيد العسكري، تطورت العلاقات بين أنقرة وكييف إلى حد كبير، فقد زودت أنقرة الجيش الأوكراني بطائرات بدون طيار وصلت إلى ست طائرات مقاتلة للكتيبة 383 في سلاح الجو الأوكراني من طراز تي بي 2، وهو نفس الطراز الذي قيل في وقت سابق أن أنقرة سلمته إلى أذربيجان، وهو ما مكنها من حسم المعركة مع أرمينيا لصالحها.
وتوطدت العلاقات بشكل كبير إلى الحد الذي ترى فيه كييف أن تركيا هي “قشة الغريق” بالنسبة لها في مواجهة روسيا، وفي المقابل تقوم أوكرانيا بتسليم المعارضين الأتراك على أراضيها إلى تركيا. والمدهش أنه منذ عام 2014 لم تشهد العلاقات بين أوكرانيا وتركيا أية هزة أو توتر على الرغم من تغير رأس النظام في أوكرانيا بوصول الممثل الكوميدي ولوديمير زيلينسكي إلى سدة الرئاسة في 2019. حتى أن أنقرة أسهمت إسهامات كبيرة في استقلال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية، وإن كانت بقيت كنيسة أرثوذوكسية.
ووفقًا للمرصد الفرنسي – الروسي، فإن روسيا هي من ساهمت بممارساتها في دفع أوكرانيا إلى الحضن التركي، لأنه بعد ما حدث في شبه جزيرة القرم في 2014 مع وجود نزاع مسلح في وقتها في شرق أوكرانيا كان ذلك دافعًا كبيرًا لأوكرانيا لإعادة رسم خريطة تحالفاتها، وإذا حضر الخلاف مع موسكو من جهة فإن الصداقة مع أنقرة تطل من الجهة الأخرى، فورًا!
بينما من ناحية تركيا فإنها ترى أن تمكُن موسكو من ضم شبه جزيرة القرم بهذا الشكل الخاطف يجعل لها اليد العليا في البحر الأسود ويخرج الأسطول الأوكراني تمامًا من المعادلة، وهو ما شكل مصدر قلق بالغ بالنسبة لها دفعها لتدفئة العلاقات مع كييف في استمرار لسياسات “كسر الطوق” التي تنتهجها أنقرة.
على جانب آخر، فإن ما يلعب دورًا أساسيًا في قرب العلاقات بين أنقرة وكييف “تتار القرم” وهي العرقية التي سبق وتمت الإشارة إلى أصولها التركية. وهي العرقية التي أقامت لقرون في شبه جزيرة القرم قبل أن يقوم ستالين في أربعينيات القرن الماضي بترحيل أعداد منهم إلى سيبيريا وآسيا الوسطى. ويشكلون في شبه جزيرة القرم المعارضة الأكثر صخبًا والأدق تنظيمًا ضد الضم الأحادي الروسي لشبه الجزيرة.
لماذا يكره التتار روسيا
منذ أمد بعيد استقر قياصرة الروس على قناعة مفادها أن من يحكم القرم يحكم البحر الأسود، وكانت الإمبراطورة كاثرين الثانية قد نجحت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في هزيمة العثمانيين، مُحكمة القبضة الروسية على القرم.
وهو الوقت الذي شهد بداية السعي الروسي الحثيث إلى محو الهوية الثقافية للقرم وتغيير تركيبتها الديموجرافية عبر عمليات الترحيل القسري للتتار وذلك بأعداد كبيرة إلى أرجاء الإمبراطورية العثمانية ككل، وهو ما يفسر انتشار أبناء القومية التتارية في عدد من البلدان.
وكان أحلك الأيام بالنسبة للتتار القرم ليلة الثامن عشر من مايو 1944 عندما قام الزعيم الروسي ستالين بالتصديق على قرار التهجير القسري للتتار، وعلى مدى ثلاثة أيام متتالية قام الجنود الروس بتجميعهم في الساحات ونقلهم عبر قطارات وناقلات ضخمة إلى جمهوريات آسيا الوسطى. وبالطبع كانت تهمة الترحيل جاهزة وهي تعاون التتار مع الألمان ضد روسيا.
ربما تدرك تركيا إذًا أن ملف تتار القرم لن يكون الورقة الرابحة في وجه موسكو، أو بمعنى أدق ليست الورقة الحاسمة في إجبار موسكو على اتخاذ سياسات مهادنة لها في بعض الملفات ولكن المدرسة التركية في السياسات الخارجية في عهد أردوغان لا تتوانى عن التلويح بأية أوراق للضغط على موسكو أو غيرها. ومع موسكو على وجه التحديد فإن أنقرة متأكدة أن العلاقات الدافئة بينها وبين كييف هي مصدر قلق كبير للدب الروسي الذي مازال ينظر إلى أوكرانيا بوصفها من أهم الجمهوريات السوفيتية السابقة.
باحث أول بالمرصد المصري