
زيارة قصيرة لرئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك إلى إثيوبيا كان مقررًا لها يومان، ليفاجئ الجميع باختصارها في عدة ساعات، أعرب خلالها الطرفان بأنها زيارة ناجحة ستؤتي ثمارها في استعادة العلاقات والمفاوضات حول سد النهضة والتدخل السوداني على طرف الأزمة بين الحكومةالفيدرالية وإقليم التيجراي من خلال عقد قمة مجموعة “إيجاد” المقرر لها الأحد المقبل، وذلك باعتبار السودان أول المتضررين من الحرب من خلال استقبال حدودها ما يزيد عن 50 ألف لاجئ من الإقليم الإثيوبي، والحديث عن استعادة السودان لبعض الأراضي الحدودية، ولكن كانت النتيجة الفعلية الأولى ما تعرضت له الحدود السودانية من هجوم على الحدود التي عانت من هجمات جماعات الشفتة الإثيوبية المدعومة من القوات المسلحة الإثيوبية في محاولة لاستعادة السيطرة على الأراضي الحدودية السودانية في ضربة ليست الأولى من نوعها.
فما هي خلفية النزاع والحالة الحالية للحدود الإثيوبية السودانية ووضع اللاجئين؟ وكيف تتناسب الهجمة مع أطماع قومية الأمهرة الداعم الأوحد لآبي أحمد في حربه ضد التيجراي في السيطرة على الأراضي الخصبة وسط الأزمات المتلاحقة للبلاد، وسط استمرار تصريحات آبي بالعلاقات الجيدة بين البلدين، وهي الأعمال التي استنكرتها الدولة المصرية، وشددت السودان على حماية السودان وشعبه، وقدرتها على حسم أي تحركات معادية داخل السودان ولن تسمح بغزو أراضيها وستدافع مع شعبها حتى آخر جندي.
زيارة حمدوك واتفاق على ترسيم الحدود يعقبه هجوم من الشفتة
في أعقاب زيارة رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك الأخيرة والتي كان مقررًا لها يومان، ولكن أعلن وزير الخارجية السوداني عمر قمر الدين عبر صفحته على موقع تويتر بعد عدة ساعات بانتهاء رحلة الوفد السوداني إلى إثيوبيا، وجاءت نتائج الزيارة تتعلق بالعودة للمفاوضات حول سد النهضة، والوساطة السودانية في أزمة التيجراي والحكومة الفيدرالية الإثيوبية من خلال عقد قمة عاجلة لمجموعة “إيجاد” ومقرها دولة جيبوتي، ومناقشة أوضاع اللاجئين الإثيوبين إثر الصراع للأراضي السودانية، وأخيرًا العودة للحديث عن ترسيم الحدود بين البلدين.
ولكن ما يلبث الحديث عن ترسيم الحدود إلا وتعاود المناوشات والتوترات الحدودية بين البلدين، في إقليم القضارف المتنازع عليه وهو الإقليم المستقبل للاجئين الإثيوبيين في ظروف قاسية بين البلدين، ولكن الموقف الآن مختلف من عدة نواحي.
لم تكن هذه الهجمات هي الأولى من نوعها خلال العام الحالي، ولكن كان هناك هجمتان من قبائل الشفتة على القوات المسلحة السودانية في شهري مايو ويونيو الماضي، وتم الإعلان مسبقًا على الاتفاق لترسيم الحدود بين البلدين، ولكن كعادة الحكومة الفيدرالية الإثيوبية فإنها تعلن عن دفء العلاقات بين البلدين ولكن التنفيذ على الأرض يكون دائمًا لأعمال الميلشيات في محاولة لعدم إلصاقها بالحكومة الفيدرالية.
ولكن ما هي جماعة الشفتة الإثيوبية وعلاقتها بقومية الأمهرة الحليف الأوحد لآبي أحمد؟
منذ توقيع اتفاقية أديس أبابا 1902 وتم ترسيم الحدود، وتبعت ولاية القضارف للأراضي السودانية، وهي الاتفاقية التي تم الاعتراف بها في أعوام 1972 وتم الترسيم الفعلي عام 2013، واعتزمت إثيوبيا إنشاء قنصلية إثيوبية بمنطقة الفشقة عام 2014، باعتبار أنها قريبة من أراضي سد النهضة، وتم الحديث عن تشكيل لجنة لحماية الحدود بين البلدين في عام 2018، لحماية الحدود من الميلشيات وهي الخطوة التي انتقدتها الميلشيات المدعومة من القوات الإثيوبية “الشفتة”؛ إلا أن الوجود الإثيوبي في منطقة الفشقة يتزايد من خلال استيلاء مزارعين إثيوبيين على المزارع السودانية منذ عام 1960.
وزادت حدة الأمر عام 1983، وبحلول عام 1995 وصلت مساحة الأراضي التي استولى عليها المزارعيين الإثيوبيين إلى 48 ألف فدان، والتي ترجع أهميتها لخصوبة أراضيها باعتبارها شبه جزيرة، حيث يحيطها نهرا العطبرة وسيتيت، وهي إحدى المحليات الخمس لولاية القضارف السودانية ويتم زراعتها بمحاصيل ذات قيمة نقدية عالية. وذلك على يد الميلشيات المسلحة من جماعة الشفتة ويمولها بالمال وهي تتبع الجيش النظامي في إثيوبيا ومعترف بها، التي تعتبر الأراضي الخصبة بولاية القضارف بمثابة ملكية القبيلة، والتي تلجأ لأسلوب العنف والهجمات المتعددة على الأراضي السودانية فيهجروها ويتم استبدالهم بمزارعين إثيوبيين من قومية الأمهرة.
كان دائمًا ما يُبرر النزاع الحدودي على أنه طبيعي في مواسم الحصاد، ولكن ما دافع النزاع الحالي؟
كان دائمًا ما يبرر الهجمات على الأراضي السودانية بأنها طبيعية ومستمرة والتي تتزامن مع موسم الحصاد فتتجدد الاشتباكات بين الطرفين، ولكن الهجمات كانت مدعومة من القوات الإثيوبية التي تدعم الميلشيات، وبالتالي لا يمكن وصف الأمر بأنه مجرد عمل إرهابي كما يروج البعض أو اختزاله في ميلشيات كما يحاول آبي أحمد الترويج له من خلال تغريدته على حسابه بموقع تويتر، والحديث عن أنها لن تؤثر على العلاقات التاريخية بين البلدين.
وتأتي حادثة تعرض القوات المسلحة السودانية لكمين من القوات والميليشيات الإثيوبية خلال دورية أمنية بالمنطقة الحدودية، وسط ظروف مختلفة فدفعت رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان إلى زيارة المنطقة الشرقية السودانية وتأكيد عودة القوات السودانية لتمشيط المنطقة حول جبل أبو طيور التي تعرضت لكمين من القوات والمليشيات الإثيوبية داخل الأراضي السودانية أدت لإحداث خسائر في الأرواح والمعدات”، وذلك يوم الثلاثاء الموافق 15 ديسمبر بحسب البيان السوداني.
وأكدت المصادر وقوع اشتباكات عنيفة بين القوات المسلحة السودانية ومليشيات وقوات إثيوبية على الشريط الحدودي، والتي أدت إلى سقوط قتلى وجرحى من الجانب السوداني، دفعت الجيش السوداني للتأهب لدخول منطقة خورشيد التي يعتبرها آخر نقطة في خط الحدود الدولية مع إثيوبيا، بعد سيطرته على منطقة جبل أبو طيور المتاخمة للحدود الإثيوبية بالكامل، في إطار محاولة لاستعادة الأراضي السودانية محل النزاع القائم منذ 25 عامًا من يد جماعة الشفتة وقومية الأمهرة المدعومة من الجيش الإثيوبي في إطار خطة لاستمرار السيطرة على الأراضي المتنازع عليها مع أديس أبابا.
ويمكن اعتبار الأمر تفوق سوداني في ظل وجود وجه آخر، حيث استفاد السودان من عملية نشر قوات إضافية على الحدود عقب تزايد أعداد النازحين والتي وصلت إلى أكثر من 50 ألف نازح بحسب مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، لمنع تسلل عناصر مسلحة، ومتابعة عملية نقل النازحين إلى الحدود السودانية.
كما أدى انشغال القوات الإثيوبية والتي سحبت بعض وحداتها من الصومال إلى الانشغال عن دعم قبائل الشفتة المسيطرة على الأراضي السودانية بولاية القضارف، وهو ما أدى إلى تقدم الجيش السوداني في “مساحة عرضها 5 كم2 بمحلية الفريشة”. وهو ما يعطينا على دلائل لنية القوات السودانية المسبقة في استعادة أراضيها، إلا أن العملية الأخيرة التي استهدفت القوات السودانية قد عجلت من الإعلان عن نيتها المسبقة.
وعلى الرغم من أن النزاع في التيجراي قد أفاد الجانب السوداني في استعادة جزء من أراضيه؛ إلا أنه عقب إعلان آبي أحمد عن ترسيم الحدود دفع قبائل الشفتة إلى الدخول لاستعادة تلك الأراضي التي سيطرت عليها القوات السودانية، في محاولة لإرضاء قومية الأمهرة وهي القومية الثانية الأكبر في إثيوبيا، وباعتبارها القومية الوحيدة التي تعاون آبي أحمد في حربه ضد التيجراي، وهو ما يفسر الموقف الدبلوماسي لاستدعاء السفير السوداني بإثيوبيا.
وتشير التقديرات الحالية إلى سيطرة الجيش السوداني على مساحة من (10 إلى 15 ألف فدان) فقط، في حين تسيطر المليشيات الإثيوبية على 300 ألف فدان من الفشقة الكبرى، إضافة إلى كامل أراضي الفشقة الصغرى (500 ألف فدان) وهي المنطقة التي استعاد الجيش بعض أراضيها.
وهو ما يضعنا أمام عدة سيناريوهات، أولها احتمال نشوب بوادر حرب حدودية كما كانت بين إريتريا واثيوبيا منذ عام 1991، والتي انتهت بتوقيع اتفاقية السلام بينهما؛ إلا أن قومية التيجراي أبت أن تنفذ الترسيم الحدودي المتفق عليه منذ اتفاقية الجزائر 2000 ومازال الخلاف قائمًا حول قرية بادمي، وهو ما يتطابق مع الوضع الحالي بين السودان وإثيوبيا والذي ترفضه قومية الأمهرة الحليف الأوحد لحكومة آبي أحمد والتي ستأجج من النزاع حتى في حال الاتفاق على الترسيم الحدودي والذي غالبًا ما يكون مجرد اتفاقية موقعة لن تنفذ أبدًا باعتبارها أساس السياسة الإثيوبية المراوغة في كافة المفاوضات.
السيناريو الثاني أن نشوب حرب حدودية بين السودان وإثيوبيا قد تضعف من موقف حكومة آبي أحمد المنشغل بالنزاع مع قومية التيجراي، وقد يفقده من تقدمه المزعوم في الإقليم، وهو ما يضعه أمام حتمية محاولة امتصاص الوضع الحالي من خلال الزيارات الدبلوماسية والمواقف المعلنة التي تؤكد على عمق العلاقات بين البلدين، وفي نفس الوقت استمرار الدعم الخفي لقوات الشفتة حتى يستمر الوضع كما هو عليه قبل التقدم السوداني.
وهو ما يضعنا أمام السيناريو الأخير الذي يشير إلى حتمية وجود اتفاق بين البلدين، خاصة في ظل وجود أوضاع مختلفة نتيجة وجود لاجئين في المنطقة مما يضع من وجود مراقبين للمساعدات الإنسانية من الأمم المتحدة ممكنًا، سيضفي له طابع رسمي للمراقبة الأممية للأوضاع الإنسانية، والتي تعاني من ضعف المخيمات وسط انتشار فيروس كورونا وضعف الامكانيات المتوفرة للاجئين، ودعوات آبي أحمد لاستعادة اللاجئين إلى موطنهم الأصلي والتي اعتبروها عودة قسرية للنازحين وسط تخوف من احتمال تجدد النزاع في الإقليم، مما سيدفع آبي بالتراجع النسبي لاستعادة السيطرة على الداخل الإثيوبي وألا يدخل في جبهة نزاع جديدة، خاصة في ظل محاولاته استقطاب الجانب السوداني الأكثر تضررًا من سد النهضة.
ولكن ستستمر عصابات الشفتة آلية جاهزة للاستخدام من جانب إثيوبيا، في الضغط على السودان والذي دائم التصريح باستطاعته حماية أراضيه، خاصة في ظل بداية رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب وبداية الانفراجة الداخلية.
باحثة بالمرصد المصري