ليبياتركيا

عبد الستار حتيتة يكتب: مستقبل أردوغان في ليبيا.. القفز للمجهول

قرر نظام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تمديد مهام قواته في ليبيا لمدة 18 شهرا، تبدأ يوم الثاني من يناير 2021. سيتوجب على البرلمان – في هذا البلد المثير للقلاقل في حوض البحر المتوسط، ومناطق أخرى من العالم – أن يصادق على طلب أردوغان، بغية مساعدته في تحقيق أهدافه في الاستحواذ على مزيد من مليارات الدولارات من ثروات الليبيين.  

يسعى أردوغان إلى فرض الوجود التركي على شمال غرب ليبيا، تمهيدا لبسط نفوذه على هذه الدولة النفطية، وهو يفعل ذلك بطريقة تشعر شركائه الغربيين في حلف الناتو بالشكوك. لقد كانت تركيا، العضو في الناتو، تعارض الإطاحة بنظام معمر القذافي في 2011، لسبب بسيط، وهو أن شركاتها كانت تستفيد من بوادر انفتاح القذافي على العالم، اقتصاديا على الأقل.

في الوقت الراهن، يقترن الاهتمام التركي بليبيا بقضايا محلية تخص المشاكل الاقتصادية لنظام أردوغان، وبقضايا خارجية قديمة تخص التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط، وتخص العلاقة التركية الملتبسة مع كل من قبرص واليونان.

إن مشاكل تركيا في البحر المتوسط كثيرة، وتعود إلى سبعينيات القرن الماضي. وحاليا وجد أردوغان أنه بالضغط في ليبيا يمكنه تحقيق مكاسب فيما يطلق عليه “الوطن الأزرق”، أي تركيز عمل تركيا في البحار المجاورة لها. والرئيس أردوغان، في الوقت الراهن، يستخدم الجماعات الإسلامية المتطرفة من مختلف الجنسيات لتحقيق هذا الغرض.   

مما لا شك فيه أن أردوغان يحاول كسب أوراق يناور بها للضغط على مصر وعلى الأوربيين وعلى الروس، وغيرهم. إن ما كان يعنيه من علاقته مع القذافي هو الأموال. وهو ما يعنيه بتحركاته اليوم. مع ذلك يبدو أن الرجل لم يقرأ صفحات الماضي، قبل أن يخطو تلك الخطوات المتهورة إلى المستقبل. وتعني موافقة البرلمان التركي على مطالبه، قفزة أردوغانية كبيرة إلى المجهول.

إن شمال غرب ليبيا منطقة خطرة للغاية، على الأتراك وغير الأتراك. ولا يمكن للتحالفات المحلية فيها أن تظل على وتيرة واحدة لفترة طويلة. وهي تحالفات يعتقد أردوغان ومستشاروه المتطرفون أنه يمكن البناء عليها. لهذا يظهر أن الأتراك، إذا أصروا على المضي في هذه الطريق، سيحتاجون إلى وقت مديد، ولقوات إضافية، للتعاطي مع المجموعات المسلحة الموجودة على الأرض. باختصار سيكرر الأتراك أخطاء ارتكبوها في ليبيا تعود إلى مائة سنة خلت.

في الماضي القديم، أي عقب الحرب العالمية الأولى، وبعد نحو أربعة أعوام من تسليمهم ليبيا لإيطاليا، عاد الأتراك لمناكفة المحتلين الإيطاليين، في محاولة منهم للتواجد في ليبيا مجددا، إلا أن زخم القوى الوطنية الليبية في محاربة الغزاة الأجانب حينذاك، كان أقوى من الأطماع الإيطالية والتركية معاً. لهذا ستجد في النشاط التركي في شمال غرب ليبيا، في ذلك الوقت، اعتمادا كبيرا على نسج المؤامرات بين القوى المحلية، سواء في مصراتة، أو ترهونة، أو طرابلس، أو الجبل الغربي.

إن هذا تقريبا ما يحدث اليوم في ليبيا على يد الأتراك. فأردوغان يزج بقواته وبطموحاته في أتون نيران مُستعرة. إنه أمام قوى متباينة التوجهات في تلك البقعة الغربية من ليبيا.

لقد دفع بطلب التمديد لقواته في ليبيا، وهو يعلم أنه لا يمكنه أن يلعب وحده. ولا يمكنه أن يستمر في احتلال قواعد عسكرية ليبية مثل “معيتيقة، والوطية، والخُمس، ومصراتة”. فحتى شركاء تركيا في حلف الناتو، مثل فرنسا، لديهم قلق من أطماع أردوغان الاقتصادية، ومن تواجده في ليبيا المرتبط بتغذية الصراعات والاعتماد على مرتزقة وجماعات إرهابية.      

إن أردوغان، إن كانت نواياه صادقة، في الحقيقة، في حاجة إلى تعاون إقليمي ودولي من أجل مساعدة الليبيين على استعادة دولتهم. وإن لم تكن لديه تلك النوايا، كما يبدو، فإنه في حاجة لمن يُخضعه للمقررات الدولية، للجم أطماعه في البحار وفي ليبيا. أو، على الأقل، يلزمه بمخرجات مؤتمر برلين التي صدرت مطلع 2020، بخصوص حل الأزمة الليبية.   

لكنه، وبدلا من مد يد التعاون مع الدول المعنية بالملف الليبي، خاصة الدول المجاورة لليبيا، يسعى أردوغان إلى العناد؛ فهو يعتقد أنه يمكنه تطويع الأرض الليبية لكي يستقر عليها، وحده، لوقت طويل. وهو أمر غير صحيح. فهذا لم يحدث في الماضي. “راجع مذكرات محمد فكيني 1858-1950، تأليف أنجلو ديل بوكا- دار برنتشي”. وبالتالي لن يحدث اليوم.

في الماضي، قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها، اعتمدت أطماع تركيا في ليبيا، على المؤامرات، ليس من أجل إحلال السلام وجلب الأمن والتنمية لليبيين، ولكن من أجل كسب أوراق سياسية للتفاوض مع الإيطاليين، والفرنسيين، وغيرهم من قوى استعمارية في ذلك الزمان. إن أردوغان، بعد كل هذه السنين، يريد أن يستفيد من المؤامرات التركية القديمة في المنطقة. وهي نوع من المؤامرات التي تجاوزها الزمن.  

في عهد القذافي، استفادت تركيا كثيرا من ليبيا، سياسيا واقتصاديا. فقد أيد النظام الليبي السابق، الغزو التركي لشمال قبرص في 1974. ودخلت الشركات التركية بالتدريج، منذ 2003، إلى الاستثمار في ليبيا بمليارات الدولارات. واستمر هذا الأمر إلى عام 2011. واليوم يسعى أردوغان لالتهام ليبيا وحده. فعلى من يراهن؟ يمكن تسليط الضوء على القوى المحلية الليبية، سواء أكانت قوى سياسية، أو قبلية، أو عسكرية، والأهم القوى الميليشياوية بمصالحها المتضاربة.

قوى سياسية بلا يقين

ترك القذافي ليبيا دون قوى سياسية صلبة. إن أهم فصيلين يمكن وضعهما في خانة السياسة، تجاوزاً، خضعا للتربية خارج ليبيا، أي في أحضان المخابرات الأجنبية منذ مطلع الثمانينيات، وهما فصيل تيار الإسلام السياسي، وفصيل التيار القومي. وتمكن الفصيل الأخير من التحلل من ارتباطاته بالمخابرات في بريطانيا وأمريكا، إلى حد ما. ولجأ كثيرٌ من قادته إلى الإقامة في دول عربية، قبل أن تفتح ليبيا أبوابها لهم في السنوات السبع التي سبقت عام 2011.

أما فصيل الإسلام السياسي، فقد واصل انخراطه، كعادته، في التآمر مع الأجانب ضد دولته الأم. إن كثيرا من قادة هذا التيار من الليبيين يحملون جنسيات أجنبية؛ أمريكية، أو كندية، أو بريطانية، أو تركية، أو غيرها. واعتمد حلف الناتو في قصف ليبيا وتخريب مؤسساتها، على مثل هؤلاء القادة وأتباعهم. وإذ أن تركيا، بحزب أردوغان الإخواني الحاكم، تعد من الدول الرئيسية في حلف الناتو، فقد وجد مثل هؤلاء القادة المتطرفين ملاذا للعمل تحت الملاءة التركية، دون مؤاخذة دولية تذكر.        

يعتمد نظام أردوغان على زعماء ليبيين معروفين بعلاقاتهم المشبوهة والقذرة مع جماعات إرهابية. من هؤلاء الزعماء، على سبيل المثال، “علي الصلابي، القيادي في جماعة الإخوان، وعبد الحكيم بلحاج، القيادي في الجماعة الليبية المقاتلة، والصادق الغرياني، المفتي الليبي المعزول. أو، كما يلقبه بعض الليبيين، مفتي الإرهاب”.   

إن هؤلاء الثلاثة، مع أسماء أخرى كثيرة، يقيمون منذ سنوات خارج ليبيا. وللعديد منهم مقار للسكن والاجتماعات قريبة من دوائر الحكم في أنقرة وإسطنبول. وانضم إليهم في السنوات الست الأخيرة، ليبيون متطرفون ممن كانوا في الماضي يقيمون في فيلات على شاطئ نهر بوتوماك، بولاية فرجينيا، قرب المقر المركزي للمخابرات الأمريكية.

إن غالبية هؤلاء القادة، ممن دخلوا ليبيا مع حلف الناتو في 2011، ارتكبوا أخطاء أمنية وسياسية واقتصادية في حق الليبيين. وفقدوا ثقة الشعب فأسقطهم في انتخابات مجلس النواب في 2014، وطردهم الجيش الوطني من الشرق، فلجأوا إلى تركيا. كما أن معظمهم مطلوب للتحقيق في نيابة طرابلس في قضايا سرقة واحتيال، وقضايا تخص علاقات مشبوهة بأعمال إرهابية.

من خلال تواجد أمثال الصلابي، وبلحاج، والغرياني، شبه الدائم، في تركيا، يبدو أن نظام أردوغان يعول عليهم من أجل بسط سلطانه على ليبيا، واستخدامهم لتنفيذ عمليات قذرة تخدم نظامه. يمكن لأردوغان أن يستمر في إثارة القلاقل ونشر الفوضى، إلا أنه لا يمكنه الوصول تهيئة ليبيا – أو على الأقل شمال غرب ليبيا – للاحتلال التركي الدائم.           

فالقوى التي يعتمد عليها أردوغان، ويدعمها، ويقدمها، على طبق السياسة، وبطرق التفافية، للبعثة الأممية في ليبيا، هي قوى تفتقر إلى اليقين، وليس لديها أهداف وطنية مقنعة لعامة الشعب الليبي الذي يبحث عن الاستقرار. إن شخصيات مثل الصلابي، وبلحاج، والغرياني، كشفت صراحة، عن وجهها القبيح، منذ 2014. وتم إدراج هذه الأسماء، مع عشرات آخرين، في قوائم الإرهاب المحلية والإقليمية منذ 2017.

إذن يسعى أردوغان لتمديد مهام قواته في ليبيا لمدة 18 شهرا، اعتمادا على قادة ليبيين يعتقد هو ونظامه الإخواني إنهم قادرون على خداع أبناء ليبيا. لقد ضغط أردوغان ومعه الإرهابيون الليبيون الذين يقيمون بجوار مقر حكمه في أنقرة وإسطنبول، لإدراج أسماء لها تاريخ يرتبط بالتآمر، في لقاءات الليبيين في تونس، وفي بوزنيقة وطنجة في المغرب. لهذا ما زالت تلك اللقاءات التي تشرف عليها البعثة الأممية في ليبيا، تراوح مكانها دون نتيجة تذكر.   

لقد لفظ الليبيون الأعمدة السياسية “إن صح هذا التعبير” التي يعول عليها النظام الأردوغاني في ليبيا، وأغلبهم من أعضاء تنظيم الإخوان الإرهابي في طرابلس، من “إبراهيم صهد، إلى منصور الحصادي، ومن عبد الرزاق العرادي، إلى فوزي العقاب”، وغيرهم. لهذا، كلما زاد إصرار الوطنيين الليبيين على رفض المؤامرة التركية، كلما زاد أردوغان من وتيرة إرسال المرتزقة والأسلحة، في محاولة منه لفرض الأمر الواقع بقوة السلاح.

قبائل تسعى للوحدة

يمكن لتركيا أن تستمر في حياكة المؤامرات بالاستعانة بقادة التنظيمات الإرهابية من الليبيين، خاصة أولئك المقيمين لديها. لكن الأمر يبدو صعبا بالنسبة لها، إذا ما حاولت فعل الأمر نفسه مع زعماء القبائل الليبية، بمن في ذلك الوطنيون من أبناء مدن شمال غرب ليبيا في طرابلس ومصراتة والزاوية والزنتان، وغيرها.

إن أسوأ ما حدث خلال السنوات القليلة الماضية، هو عملية اغتيال عميد بلدية مصراتة، “محمد إشتيوي”، في 2017 عقب خروجه من مطار مصراتة قادما من تركيا. وكذلك اغتيال وفد المصالحة القبلية، الذي انطلق من مدينة بني وليد في العام نفسه، في مسعى للم شمل قبائل غرب طرابلس. أصابع الاتهام لم تزل تشير إلى أنقرة وإلى الجماعات الإرهابية التي تأتمر بأوامرها، سواء في اغتيال إشتيوي، أو اغتيال وفد المصالحة المشار إليه.  

ما تقوم به تركيا من عملية إقصاء لزعماء قبائل، ومحاولة تفتيت القبيلة الليبية، وزرع الفتن بين أبنائها، مستمر منذ سنين، بيد أن وتيرته زادت في الشهور الأخيرة. إن أحد أضلاع مخطط ضرب القبائل، طبيب أمريكي من أصل ليبي، اسمه عصام عميش، وهو صديق لتركيا وقطر، ولديه فيلا قرب شاطئ بوتوماك في فرجينيا. ظل عميش، منذ سنوات، مسؤولا عن زرع الفتن بين القبائل الليبية، خاصة بعد أن أصدرت تلك القبائل بيانات تندد بالتدخل التركي في بلادها.

تعد القبائل في ليبيا بمثابة أحزاب سياسية لديها القدرة على تغيير الدفة متى أرادت ذلك. ما قامت به القبائل الليبية خلال الشهور الماضية، يؤخر تركيا عن تحقيق أطماعها في الداخل الليبي. لقد كانت الأخبار التي تصل إلى أردوغان والأحلاف التي معه، مثل قطر، وتنظيم الإخوان، والجماعة المقاتلة، أخبارا سيئة، بسبب المصالحات التي نجحت عدة قبائل في إبرامها بين بعضها بعضا في الجنوب والوسط الليبي.

يعلم أردوغان أن خططه في ليبيا تعتمد على إضعاف القبيلة. لهذا يعتمد، في كثير من الأحيان، على ألاعيب يعتقد أنها يمكن أن تؤدي الغرض. ومما لا شك فيه أن هناك من يساعده على ذلك في المنطقة.

يسود اعتقاد في اجتماعات غرف الضيافة القبلية، في عموم ليبيا، أن نظام أردوغان حاول شق الصف داخل قبيلة العبيدات التي ينتمي إليها رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح. كما حاول شق الصف بين أبناء قبيلة الفرجان التي ينتمي إليها المشير خليفة حفتر. بالإضافة إلى محاولات حثيثة لزرع الفتن بين مثل هذه القبائل، سواء في الشرق أو الغرب أو الجنوب.

بكل سهولة يمكن تحليل ما يشاع في اللوبي الإعلامي التركي القطري الإخواني، عن مزاعم تقول إن أبناء الشرق الليبي، يحاربون أبناء الغرب الليبي، بينما الحقيقة غير ذلك تماما. إن الجيش الوطني الليبي يتكون من ضباط وضباط صف وجنود، من كافة ربوع ليبيا.

معظم قادة القبائل الليبية يدركون هذه الحقيقة، ويعلمون أن الجيش جيشٌ نظامي يضم ليبيين من كل المدن ومن كل المكونات القبلية، وله أهداف واضحة، هي محاربة الإرهاب وتفكيك الميليشيات، وطرد الغزاة الأجانب من ليبيا؛ أي الغزاة الأتراك وألوف المرتزقة الذين جاءوا بهم.    

نظام أردوغان، وأعوانه، لم يحقق نجاحا يذكر لإقناع القبائل الليبية بمشروعه. وبالتالي لا بد للقوى التركية الحية أن تسأل نفسها: “إذا لم يكن هناك قبول لوجود تركي في ليبيا، فلماذا يُصرُّ أردوغان على مواصلة إرسال العسكريين الأتراك إلى هذا البلد”.         

محاولات لتهميش الجيش

تشيع الأبواق الإعلامية التي تدور في فلك أردوغان، وقطر، وتنظيم الإخوان، أن الجيش الوطني الليبي يستعين بمرتزقة روس، وأفارقة، وأنه يعطل تصدير النفط، وأنه ليس بجيش، ولكنه مجموعة من الميليشيات. لقد ازدادت منذ 2019 وتيرة نشر مثل هذه المواد الإعلامية المضللة، خاصة في وسائل إعلام موجودة في أوربا وأمريكا. الهدف: إخافة الدول الغربية من التواجد الروسي في ليبيا، أي على سواحل جنوب أوربا. واقترن التوسع في نشر مثل تلك الأنباء مع بدء محاولة الجيش الوطني هزيمة الميليشيات والجماعات الإرهابية في طرابلس.

بدأت عملية إعادة تجميع الجيش الليبي لمحاربة الميليشيات والجماعات المسلحة بطلب من القبائل الليبية خاصة في شرق البلاد، منذ 2014. وشارك في هذه العملية ألوف من الضباط وضباط الصف والجنود من كل ليبيا. وتمكن الجيش، بنهاية 2018، من تطهير شرق البلاد من المجموعات الإرهابية، مثل أنصار الشريعة، ومجلس شورى ثوار بنغازي، وسرايا الدفاع عن بنغازي، ومجلس شورى ثوار درنة، وغيرها. وتحرك بعد ذلك، بضوء أخضر من القبائل، لتطهير جنوب البلاد أيضا. ونفذ الخطة سريعا. ثم بدأ منذ أبريل 2019 في التوجه إلى طرابلس.

ينبغي لفت الانتباه، هنا، إلى أن تركيا، منذ بداية الحرب بين الجيش الوطني والجماعات الإرهابية في بنغازي ودرنة، لم تكن تظهر في الصورة بشكل مباشر، رغم الاتهامات المتكررة لها، من اللواء أحمد المسماري، الناطق باسم القيادة العامة للجيش الوطني الليبي، بأنها تدعم الإرهابيين. كان نظام أردوغان يغض الطرف عن نشاط قادة الجماعات الإرهابية الليبية المقيمين لديه، مثل الصلابي، وبلحاج، والغرياني، ولا يتدخل لمنع ما يقومون به من شحن للأسلحة وللإرهابيين، من جنسيات مختلفة، للتصدي للجيش في مدن الشرق الليبي. لقد فشلوا في نهاية المطاف.

في عامي 2017 و2018 لعبت مصر دورا كبيرا من أجل توحيد المؤسسة العسكرية الليبية. كان هناك حماس كبير وتوافقات غير مسبوقة بين العسكريين من كل مناطق ليبيا، لإنقاذ بلادهم. لقد جلسوا معا في القاهرة وتحدثوا كثيرا وجها لوجه حول فناجين الشاي.

هنا شعر اللوبي التركي القطري الإخواني بالخطر، وأنه قد يخسر ليبيا. فعمل هذا اللوبي على إفساد الأمر. وحاول سحب ملف إصلاح المؤسسة العسكرية الليبية، من مصر إلى تركيا. كانت تركيا تريد أن تضم الميلشيات للمؤسسة العسكرية، كميليشيات وليست كأفراد يخضعون لشروط العمل في مؤسسة نظامية أمنية كالجيش. كانت أنقرة تسعى، مع معاونيها، إلى تشكيل جيش على مقاس قادة الجماعات الإرهابية، يشبه الجيش السوري الحر، أو جيش جبهة النصرة.              

ببساطة بدأت أول محاولة للتدخل التركي المباشر والواسع في ليبيا، أثناء “مؤتمر باليرمو” الذي عقد في إيطاليا يومي 12 و13 نوفمبر 2018. وتصدت مصر لهذه المحاولة بفضل علاقاتها المتوازنة مع كثير من دول العالم. لقد شارك في المؤتمر وفود وقادة من 38 دولة، منها روسيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، والسعودية، والإمارات، وتونس بالإضافة إلى تركيا، وقطر.

كان الرئيس عبد الفتاح السيسي من أبرز المشاركين. وجمعه اجتماع مع زعماء الدول الكبرى حول ليبيا. ولم يُدع إلى هذا الاجتماع رئيس الوفد التركي ونائب أردوغان، وهو فؤاد أقطاي. فقرر وفد أردوغان الانسحاب، وقد أدرك أنه من الصعب نقل ملف المؤسسة العسكرية الليبية من القاهرة إلى أنقرة.

وبعد أن اقترب الجيش الوطني الليبي من طرابلس، شعر نظام أردوغان بالخطر. فاعتمد على وسائل الإعلام لإثارة الفزع، بشكل أكبر، في الدول الغربية من الوجود الروسي المزعوم مع الجيش القادم إلى العاصمة الليبية. وعلى هذا اعتقدَ أن لديه ضوء أخضر بالتدخل المباشر في ليبيا للتصدي للروس، فاستغل الموقف، وقام سريعا بتوقيع “مذكرة تفاهم” مع فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي، في نوفمبر 2019، باعتبار أن السراج ممثل لحكومة معترف بها دوليا.

“مذكرة التفاهم” تقضي بترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، وتقديم تركيا الدعم العسكري لحكومة الوفاق. ورفض مجلس النواب الليبي مذكرة التفاهم هذه، ووصم موقعيها من الليبيين بالخيانة، لكن مجلس النواب التركي صادق عليها في الثاني من يناير 2020، ويسعى أردوغان لتمديدها عاما آخر.

على الهامش، وبينما نتحدث عن الجيش الليبي، قد يتبادر سؤال عابر: من يقود الآخر؟ جماعة الإخوان تقود أردوغان، أم العكس. إذا رجعنا إلى أفكار الساسة في حزب أردوغان الإخواني، سنجد أن أغلبهم يعتمد على خطط وبرامج للتمدد في المنطقة، مبنية على أفكار علمانية صرفة، ولا علاقة لها بالجماعات المتطرفة. إن دور الجماعات الإرهابية، وقادتها مثل الصلابي، وبلحاج، والغرياني، يقتصر على إمداد النظام الأردوغاني بالحطب البشري. وهو يستخدم هذا الحطب في إشعال الفتن، وإثارة القلاقل، أملا في تحقيق مكاسب لصالح النظام التركي.

مثلا، فكرة “الوطن الأزرق” التي يبني عليها أردوغان واللوبي الإرهابي الذي يقوده، تحركاتهم في المنطقة، تعود أصلا إلى أحد العسكريين القوميين العلمانيين الأتراك، هو “الأدميرال جيم غوردينيز”. والهدف من الفكرة الهيمنة على البحار التي تطل عليها اليابسة التركية، ومنها البحر المتوسط، بالإضافة إلى البحر الأسود، وبحر إيجة. وتتطلب السيطرة على هذه البحار إخضاع الدول التي تطل عليها، كليبيا، أو، على الأقل، ابتزازها، كما تفعل تركيا مع قبرص واليونان ومصر.   

وجد نظام أردوغان فرصة في الخزينة الليبية لإنقاذ اقتصاده المتدهور، وجني مليارات الدولارات من بيع الأسلحة والطائرات المسيرة، والاستثمار في المقاتلين المرتزقة الذين كانت تركيا ترسلهم عبر سفن وطائرات إلى موانئ ومطارات شمال غرب ليبيا.   

منذ يونيو 2020 تراجع الجيش الوطني وترك مواقعه في الوطية وبعض ضواحي طرابلس وترهونة، وتمركز في سرت والجفرة، في وسط البلاد. وعلى هذا تمكنت مصر من إسكات صوت المدافع والحرب، وحقن دماء أبناء الشعب الليبي أمام آلة الدمار التركية، بما فيها من أسلحة وإرهابيين ومرتزقة. اعتمدت القاهرة في ذلك على ما طرحه كل من المستشار عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي، والمشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني، وعلى مخرجات مؤتمر برلين، وعلى اتفاق الصخيرات، وعلى رغبة القبائل وعموم الليبيين.  

وأعلن الرئيس السيسي عن “مبادرة القاهرة” والتقى كبار المسؤولين المصريين، طوال شهور، أي منذ يونيو، مع قادة ليبيين من مختلف مناطق ليبيا. كما جرى في مصر الإعلان عن أن “سرت والجفرة” خط أحمر غير مسوح بتجاوزه. وأنه خط يمكن، كذلك، البناء عليها لتحقيق السلام والاستقرار في ليبيا. وتم استئناف محاولات خلق قنوات لوقف دائم لإطلاق النار بين العسكريين الليبيين، برعاية الأمم المتحدة، وهو ما يعرف بمجموعة 5 زائد 5.

إن كل هذه الخطوات على الصعيد العسكري “ومعه بطبيعة الحال اللقاءات السياسية والقبلية” لا تصب في صالح المشروع التركي، وأطماع نظام أردوغان. لهذا يبدو أن الرئيس التركي يخرج أحيانا عن طوره، ويرتكب حماقات. ومنها سعيه لتمديد مهام قواته في ليبيا.. أي أنه يريد ليد العبث أن تستمر في إثارة الفوضى في المنطقة، سعيا منه لكسب مزيد من الوقت، على أمل أن يحقق ما يصبو إليه من احتلال وهيمنة، ومن فرض الأمر الواقع، وما ينتج عنه من الاستمرار في ابتزاز شركائه في حلف الناتو. وهو أمر مرفوض، بطبيعة الحال، من دول كثيرة، خاصة المطلة على البحر المتوسط. 

رغم مصادقة مجلس النواب الليبي المنتخب على عمل الجيش الوطني، في حربه ضد الميليشيات والإرهابيين، إلا أن أدبيات النظام التركي لم تتوقف عن وصف هذا الجيش بأنه مرتزقة، وأنه يحارب حكومة الوفاق الشرعية، رغم أنه بدأ حربه لفرض الاستقرار في البلاد قبل أن تتشكل هذه الحكومة أصلا. إن أردوغان يصر على أن ميليشيات الوفاق هي الجيش.

هذا خطاب يغري الجماعات الإرهابية على الانخراط في التوجهات التركية، وهي توجهات ترفض وجود سلطة مركزية ليبية قوية، وبالتالي ترفض وجود أي جيش موحد أو أي نظام حكم يمكن أن يرفض التغول التركي في ليبيا. إن حقيقة الهدف من طلب التمديد المقدم قبل أيام لمجلس النواب التركي، كما ورد في مذكرة أردوغان، هو “حماية المصالح الوطنية (التركية)، واتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة ضد المخاطر الأمنية، وللحفاظ على الأمن ضد المخاطر المحتملة الأخرى”.

هنا يتضح أن تركيا تسعى لـ”حماية مصالحها الوطنية”؛ أي أن الدور الحقيقي للجماعات الإرهابية في ليبيا، من وجهة نظر أردوغان، يقتصر على مساعدة الأتراك في تحقيق مآربهم في هذا البلد الغني بالنفط وذي الموقع المهم على البحر المتوسط.

أردوغان في الدوامة الليبية

ماذا عن القوى الميليشياوية والجماعات الإرهابية، التي تسيطر على شمال غرب ليبيا، والتي تعتمد عليها تركيا، حاليا، في التواجد هناك. إن هذه المسألة لا تتعلق بمجموعات يسهل التعامل معها من أي طرف. إنها مجموعات مغموسة في حساء ذي تركيبة معقدة.

توجد أربعة أنواع من الميليشيات. ولم يعرف عنها التفاهم على أي تنسيق فيما بينها إلا في حالة واحدة فقط، وهي محاربة الجيش الوطني. يمكن تلخيص هذه الميليشيات في الآتي:

أولا: ميليشيات مصراتة، وتتواجد في مصراتة “نحو 200 كلم شرق العاصمة” وفي بعض مناطق طرابلس. ويمتد نفوذها عموما على الشريط الساحلي الممتد من المدينة إلى العاصمة، مرورا ببلدات الخُمس ومسلاتة وزليتن. وهي الأقرب إلى خط سرت الجفرة. ويعول عليها الأتراك، لكن كثيرا من قادتها لا يثقون في سياسات أردوغان، ومنها ميليشيا الزوبي، القوية، والمعروفة بالكتيبة 301.

كانت ميليشيات مصراتة في حلف واحد مع ميليشيات طرابلس، إلى أن دخل الطرفان في حرب خاطفة في مايو 2017، ترتب عليها خروج معظم ميليشيات مصراتة من العاصمة.   

 ثانيا: ميليشيات طرابلس. وتتواجد في مناطق قريبة من الهضبة (طريق المطار)، وفي منطقة تاجوراء، وأبي سليم، وإمعيتيقة (قرب سوق الجمعة)، وعين زارة. باختصار تعتقد هذه الميليشيات أنها الأحق بالسيطرة على العاصمة، وتدخل بين وقت وآخر في مناكفة مع بعض ميليشيات مصراتة المتمركزة في طرابلس، مثل ميليشيا الصمود بقيادة صلاح بادي.. مناكفة تستخدم فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة، ويسقط فيها ضحايا.

ثالثا: ميليشيات الزنتان، وتتواجد في المدينة التي تحمل الاسم نفسه على بعد 130 كلم جنوب غرب العاصمة. وهي تضع يدها على الزناد دائما تخوفا من تمكُّن ميليشيات مصراتة من السيطرة الكاملة على طرابلس. وأحد أبرز قادتها هو أسامة الجويلي الملقب في حكومة الوفاق بقائد المنطقة العسكرية الغربية. لقد كانت ميليشيات الزنتان، حتى 2014، تفرض هيمنتها على منطقة مطار طرابلس العالمي. ونشبت حرب طاحنة وقتذاك، أدت لأمور شتى يطول شرحها، بيد أن أهمها شعور ميليشيات الزنتان بالهزيمة، والرغبة في الثأر من ميليشيات مصراتة.          

رابعا: ميليشيات الزاوية. يقال في الأمثلة العسكرية إن من يريد أن يسيطر على طرابلس عليه أن يسيطر على الزاوية أولا. وتقع الزاوية على بعد حوالي 50 كلم غرب العاصمة. والميليشيات التي فيها أقل رغبة في الاقتتال على النفوذ في طرابلس، لكنها في الشهور الأخيرة وجدت نفسها موزعة في الولاءات مرة مع ميليشيات مصراتة (في أبريل الماضي للسيطرة على بلدات الظهير البحري لقاعدة الوطية)، ومرة مع ميليشيات طرابلس (في أكتوبر الماضي، ضد وزير الداخلية في حكومة الوفاق، فتحي باشاغا) ومرة مع الزنتان (كما يحدث هذه الأيام، للتصدي لبوادر التغول المصراتي الجديد على العاصمة).   

معلوم أن كل هذه الميليشيات، ومعها الجماعات الإرهابية، والمرتزقة، حاربوا طوال أكثر من سنة، برعاية تركية، وكتفا لكتف، ضد الجيش الوطني في شمال غرب ليبيا. واليوم، بعد أن ترك الجيش تلك المنطقة، وتراجع إلى خط سرت الجفرة، أصبح الأتراك غير قادرين على منع كل تلك القوى الميليشياوية من السباق المسلح فيما بينها على النفوذ والثروة في العاصمة، وما حولها.

بل إن هناك ميليشيات تَصِمُ منافسيها بـ “العمالة للمحتل التركي”، مثل ميليشيا النواصي الطرابلسية، إحدى خصوم باشاغا. وهناك ميليشيات أخرى، من الزاوية ومن الزنتان، تتهم الأتراك بمحاباة ميليشيات مصراتة. وهناك ميليشيات في مصراتة تعتقد أن الأتراك يسعون لاستغلالها للقيام بحروب محلية تخدم أردوغان، لا مصراتة.    

هنا يمكنك أن تعود إلى مذكرات فكيني، وبالتالي ستتوقع إلى أي مدى سينزلق أردوغان في الوحل، دون أن يتعظ بالنتائج المأساوية للمؤامرات التركية القديمة في شمال غرب ليبيا. إنه يريد أن يقنع برلمان بلاده بصواب رأيه بالتمديد للقوات التركية في ليبيا، ويعتقد أنه سيهنأ بتواجده وسط هذا الخليط المسلح من مدينة مصراتة إلى مدينة الزاوية، بل إلى حدود تونس.

الأرض تحت قدمي أردوغان ملغمة بكل هذه الميليشيات، بالإضافة إلى الجماعات الإرهابية، من جنسيات مختلفة. وفوق كل ذلك هناك التنافس السياسي على المراكز القيادية، بين نائب رئيس المجلس الرئاسي “أحمد معيتيق، والسراج”، وبين “معيتيق وباشاغا”، وبين كل هؤلاء وزعماء آخرين يرون أنهم الأحق بشغل المراكز السياسية والمالية والعسكرية خلال المرحلة المقبلة، وفق حوارات ليبية جارية، برعاية دولية.

الخلاصة

تمثل ليبيا ورقة ضغط تركية في البحر المتوسط، وينظر إليها الأتراك كبوابة أيضا للتوغل في وسط أفريقيا، وهي كذلك مخزن أموال مهم لنظام أردوغان. لكن هذا يرتبط ببقاء الأمور على ما هي عليه في شمال غرب ليبيا؛ أي استمرار السراج، أو تنصيب زعيم جديد موالي للأتراك، أو الفوضى. لهذا يريد الرئيس التركي من برلمان بلاده أن يوافق له على ما ينسجه من مؤامرات خارجية.

إن أردوغان يسعى جاهدا لضمان وجود حكومة معترف بها دوليا في ليبيا، شرط أن تكون صديقة له، بيد أن هذا ربما يكون من الأحلام صعبة التحقق في الفترة المقبلة، خاصة إذا ما تمكن المجتمع الدولي من فرض الاستقرار، والدخول في انتخابات لكي يختار الليبيون، لا الأتراك، من يحكمهم في المرحلة المقبلة. وليضع الحاكم الليبي المنتظر المصلحة الوطنية، لا الأردوغانية، على رأس الأولويات.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى