
التحالف الثلاثي مصر العراق الأردن.. الأهمية وحدود التأثير
وقفت منظومة الأمن القومي العربي على جملة خروقات جسيمة تشكلت على إثر خروج العراق وسوريا من معادلة القوة العربية، وانتشار ظاهرة الإرهاب العابر للحدود بطول جغرافيا هاتين الدولتين، ما دفع إلى انخراط إقليمي ودولي متشابك وصل أحيانًا لنقاط تماس تجمع بين خمسة جيوش لخمسة قوى. الأمر الذي أفرز بدوره وصول تركيا وإيران ومشروعيهما لمرحلة الذروة، وتثبيت المكاسب الاستراتيجية التي بُنيت على إحداث تغيير ديموغرافي بطول الأراضي السورية والعراقية وطرق اتصالهما بكل من تركيا وإيران.
فإيران سعت لتثبيت رأس جسر لها على البحر المتوسط، من خلال طريق بري يربط طهران ببغداد ودمشق وحلب، انتهاء بالساحل السوري واللبناني. وتركيا انكفت على قضم مزيد من أراضي شمال سوريا من خلال 4 عمليات عسكرية تركية نظامية (درع الفرات – غصن الزيتون – نبع السلام – درع الربيع)، تمكنت من خلالهما من إحكام السيطرة على شريط حدود بطول 400 كلم، وبعمق يصل لـ 40 كلم. وسرعان ما بدأت أنقرة في تتريك هذه الأراضي، وإحلال المكون الكردي بآخر سني مهادن للمشروع التركي. فضلاً عن سعيها الحثيث لتثبيت أصول استراتيجية عسكرية لها في كل من قطر وليبيا والصومال.
وبدا واضحًا أن المنطقة العربية تعاني من مشاريع الهندسة الطائفية التي أبقت على محركات الصراعات دائرة دون هوادة، حتى وصل عدد قتلى الحرب السورية لقرابة 384 ألف شخص على الأقل، وبدأ العراق منذ العام 2014 يشهد ارتفاعًا في العمليات الانتحارية بأرقام قياسية وصلت في العام 2016 وحده 1664 تفجير. مع الأخذ في الاعتبار تدمير البنى التحتية بالمدن والبلدات الرئيسية في الشمال والغرب العراقي جراء صعود تنظيم داعش (2014-2018).
من هذا السياق، انطلقت مصر لإعادة هندسة المشهد الأمني بما يتوافق ومحددات الأمن القومي العربي، ورسمت سياساتها الخارجية بتدرج يراعي حجم قوتها الشاملة ونسبة تطوره بناءً على هذه الدفوع:
- تقديم مواجهة ظاهرة الإرهاب العابر للحدود على سياقات التنافس الإقليمي الحاد.
- تأمين مجالها الحيوي بشبكة تحالفات قائمة ضمن منظومة الاقتصاد المعولم.
- الموازنة بين الردع والاحتواء لتهديدات الدول المتنافسة على الدولة المركز في الإقليم “إسرائيل – تركيا – إيران”.
من هذه الدفوع، تبنت مصر سياسة إيجابية نشطة تجاه مختلف قضايا الإقليم، وظهر التحالف الثلاثي في المسرح البحري “شرق المتوسط”، بين مصر وقبرص واليونان. ليقدم نموذجًا للتعاون الإقليمي المثمر على أصعدة السياسة والاقتصاد والأمن والعسكرية والاستخبارات. حتى أفرز التحالف الثلاثي؛ منتدى شرق المتوسط للغاز –مقره القاهرة– والذي تحول لمنظمة إقليمية حكومية في سبتمبر الماضي بعدما تفاعل أعضاؤه السبع (مصر- قبرص – اليونان – إسرائيل – فلسطين – الأردن – إيطاليا)، ضمن أطر تعاونية على صعيد أمن الطاقة.
وأبرمت صفقات لنقل الطاقة من إسرائيل لمصر، ومن قبرص لمصر، وكذا اتفاقات ربط بين كل من إسرائيل وقبرص واليونان “ايسد ميد”، في يناير الماضي. صاغت هذه التحركات البنية التحتية الأولية للصناعة الغاز في شرق المتوسط، بما يُواكب التغير الحالي في خريطة الطاقة العالمية.
وعلى نفس النمط، وبنفس الاتجاه، الاستراتيجي الشمالي، ولكنه ينحدر قليلاً نحو الشرق، انتهجت مصر نفس نمط ودرجة السياسة الإيجابية النشطة، في المنطقة الممتدة من العراق للأردن. وهي منطقة وقعت كأولوية في فكر ورؤى منظري الاستراتيجية في كل من مصر والعراق والأردن، للربط الاقتصادي المتكامل، وتشكيل نواة تحالف عربي يصمد أمام رياح مد القوي الإقليمية غير العربية.
حتn انعقدت قمة ثلاثية بين مصر والعراق والأردن، أغسطس الماضي، في عمّان. وشهدت أعمال القمة طرح “الشام الجديد”، للتكامل الاقتصادي بين البلدان الثلاثة. بيد أن فكرة الربط الثلاثي لم تكن بجديدة، إذ يعد هذا التحالف تطويرًا لمجلس التعاون العربي الذي تأسس في فبراير 1989 ضمن مبادرة قدمتها الحكومة العراقية عقب انتهاء حربها مع إيران، وضمت ثلاث دول بجانب العراق وهي مصر واليمن الشمالي والأردن، مع فتح عضوية الدول الراغبة في الانضمام. لكن حرب الخليج الثانية عام 1990 أنهت التحالف الناشئ.
عادت الفكرة مرة اخري للطرح من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ العام 2014، إذ قدمتها حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وطرحتها حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، وأطلقت عليها “آلية التعاون الثلاثي”، كما عقد اجتماعان، كان الأول في مارس 2019 بالقاهرة، والثاني في سبتمبر على هامش اجتماعات الأمم المتحدة بنيويورك، حتى صاغ الكاظمي الفكرة بشكلها الذي قدمه وأعلن عنه خلال تصريحاته مع جريدة واشنطن بوست خلال زيارته الأخيرة للبيت الأبيض. ويرتكز مشروع الشام الجديد على ثلاثة ركائز “النفط وتداول الطاقة الكهربائية – الخدمات اللوجستية – العمالة”.
وبدأت مصر خطواتها التنفيذية الأولى ضمن “الشام الجديد” نهاية أكتوبر الماضي، بزيارة رئيس الوزراء مصطفي مدبولي للعاصمة العراقية بغداد مع وفد حكومي رفيع المستوي وأكثر من 80 مسؤولاً من كبريات الشركات المصرية. كما عُقدت اجتماعات اللجنة العليا المصرية العراقية المشتركة في العاصمة العراقية بغداد، والتي ترأس الجانب العراقي فيها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بمشاركة أعضاء الجانبين المصري والعراقي، وعدد من المسؤولين الحكوميين بالبلدين.
وأشار حينها الدكتور مصطفي مدبولي، إلى أن محاور التعاون الأساسية في إطار مشروع الشام الجديد والتي تستند إلى تنفيذ توجيهات القيادات السياسية بمصر والعراق والأردن، والصادرة في بيان القمة الثلاثية، التي استضافتها العاصمة الأردنية عمّان، وتضمنت:
- الربط بين شبكات الكهرباء والبترول والغاز، ومشروعات الطاقة، والمنطقة الاقتصادية المشتركة، والاستفادة من الإمكانات الوطنية والسعي لِتكامُل الموارد، مع التركيز على القطاعات الصحية، والطبية، والتعليم، والطاقة، والتجارة البينية وتشجيع الاستثمارات والتعاون الاقتصادي، والاستفادة من دروس جائحة كورونا، بما يعمق التعاون في مواجهة تبعات الجائحة.
- إعادة الإعمار ونقل تجربة مصر في الخطط العاجلة للنهوض بالبنية التحتية من كهرباء، وطرق، وموانئ، ومياه، وصرف صحيّ، وإنشاء الجيل الرابع من المدن الجديدة والمناطق الصناعية.
- مراكز لوجستية وتبادل تجاري، حيث ذكر رئيس الوزراء المصري أن الأمر يستدعي إعادة تفعيل اتفاقية التيسير العربية على المستوى الثنائي؛ لزيادة تدفق السلع، كما يجب أن نسعى للتعجيل بتسجيل الأدوية، والعمل على توحيد المواصفات والإجراءات الجمركية، قائلا: “هذا ما يجب أن نسعى إليه جميعاً أمس، واليوم قبل الغد”. وعليه، بدأ جسر جوي مصري على مدار أيام لنقل أدوية ومواد غذائية للشعب العراقي نقلتها طائرات سلاح الجو المصري.
تبرز أهمية التحالف الثلاثي، في كونه يعمل وفق الشرعية والقانون الدولي، فضلًا عن عدة اعتبارات غذت هذه الأهمية، ويمكن عدها كالاتي:
- تزايد الاعتماد على “الإقليمية” وتكتلاتها الاقتصادية، وخاصة بعدما أطاح فيروس كورونا بسلاسل التوريد العالمية والمنتشرة في نقاط بطول وعرض المعمورة. ما فاقم من حجم الخسائر الاقتصادية وشل حركة التجارة والطيران. وعزز من فرص الاعتماد على سلاسل توريد وتكامل في نطاق الإقليم.
- نجاح العراق في خلق توازن داخلي، بين المكونات السياسية، وإدارة دفة العلاقات مع كل من واشنطن وطهران. إذ يمكن إيعاز فشل محاولات طرح مشروع الشام الجديد من قبل، جراء انعدام حالة التوازن الداخلي في العراق المؤهل لإقامة توازن استراتيجي. حيث يعي مصطفى الكاظمي، حجم تغلغل النفوذ الإيراني في مؤسسات العراق، وحواضنه الشعبية. كما يسعى الكاظمي إلى تجسير الهوة مع دول الجوار، من دون أن تكون علاقته مع طرف على حساب آخر، تمامًا بقدر ما يسعى إلى إبعاد العراق عن أن يكون ساحة لتصفية الحسابات للصراع الأمريكي الإيراني، ما يجعل مهمته أكثر تعقيداً.
https://www.youtube.com/watch?v=zw83f6s5XRs&ab_channel=eXtranews
لكن مصر انخرطت في دور تكميلي لجسر الهوة، وتمثل في استقبال القيادات الشيعية العراقية وتعميق الارتباط بالمحيط العربي.
- كبح تسرب النشاط الإرهابي من غرب العراق وشماله، حيث مازال ينشط تنظيم داعش في البادية العراقية، وبعض الجيوب في محيط بغداد، فضلاً عن مثول القيادات العراقية في التنظيم أمام جملة استحقاقات كبري، منها توزيعهم لقيادة فروع التنظيم في العديد من البلدان، ولاسيما بلاد الساحل والصحراء وشرق افريقيا. يعمل التنسيق المصري العراقي، في أوجه تبادل المعلومات والتنسيق الاستخباراتي، ما يساهم في كبح جماح تسرب النشاط الإرهابي من العراق وسوريا إلى نقاط التماس المباشرة للمجال الحيوي المصري. وكذلك تزويد الأجهزة الأمنية المصرية بخبرات المواجهة الميدانية في التكتلات السكنية والمسارح الصحراوية.
- تحجيم الأدوار الهدامة لكل من تركيا وإيران، يقوم التحالف الثلاثي على قيم الشراكة الاقتصادية المتبادلة، عوضاً عن صراع الأيديولوجيات المذهبية والطائفية، ما يسهم في تعزيز مفاهيم المواطنة أمام ادبيات الأممية الإسلامية التي باتت تُوظف من كل من أنقرة وطهران لخدمة أهدافهما التوسعية، ما يدفع بدوره لتعزيز دور ومكانة الدولة الوطنية أمام أدبيات الحاكمية الإسلامية. وعليه، فإن استعادة العراق لهيبة دولته ومقدراته ستدفع بكل شك لجعل الخروقات الإيرانية والتركية في الساحة العراقية ذات تكلفة إقليمية أعلى، ولاسيما بعدما نسجت الأولى شبكة معقدة من الوكلاء المحليين والميليشيات والتنظيمات الإرهابية التي تعمل وفق القرار الاستراتيجي لطهران. وتقوم بتأجيج الصراعات الطائفية والتعامل مع الشبكة الإقليمية للتنظيمات الإرهابية وفق رؤية طهران المذهبية والعدوانية تجاه أبناء الشعب العراقي.
- إعادة دمج العراق في محيطه الإقليمي، حيث تشهد المنطقة تطورات ستغير من طريقة التحالفات التقليدية بها، ولاسيما بعد اتجاه دول الخليج لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وبزوغ مشاريع ربط اقتصادي، ستصل تل أبيب بضفة الخليج العربي الغربية، وتصل بدبي ومسقط برأس جسر على المتوسط عبر موانئ إسرائيل. ما يبرز أهمية أن يتبوأ العراق مكانه، ويشغل دورًا في محيطه العربي، لئلا يقع لفترات طويلة ضمن نفوذ إيراني كامل، يوظفه ضمن أهداف المشروع التوسعي الإيراني الأممي. ولعل توافق الرؤى بين دول الرباعي العربي في مواجهة مشروعي تركيا وإيران، قد يعجل بتعميق العلاقات العراقية السعودية قريبًا، ويدفع بحجز السعودية مكانًا لها في تحالف الشام الجديد، لتدعيم قدراتها البقائية وتوسيع هامش مناوراتها أمام طهران، وخاصة بعدما كثفت الأخيرة من هجماتها ضد أهداف بالغة القيمة داخل المملكة، وعن طريق وكلاء محليين – الحوثي في اليمن.
خاتمة، يملك تحالف الشام الجديد مقومات نجاحه على الرغم من وجود نقاط ضعف، تتمثل في تعاظم التهديدات الأمنية بالعراق ونشاط شبكة تضم العشرات من الفواعل العنيفة – ميليشيات مسلحة، تنظيمات – تعمل بالوكالة لصالح إيران، تجعل من استهداف مناطق الربط الطاقوي أمرًا محتملًا في حال خروج العراق عن توازنه الداخلي، والموازنة في علاقاته مع واشنطن وطهران، إلا أن التحالفات الاستراتيجية المصرية بعد 30 يونيو، بات واضحًا أنها تقوم على تخطيط اندماجي عالي التعقيد يراعي في تطوره تطور سقف القوة، والقدرة على الردع والاحتواء، وجعل تكلفة فك مصفوفة التحالف باهظة الثمن إقليميًا.
كما يبرهن الحرص المصري على متابعة الجهود الأولية التنفيذية للمشروع، على جدية حقيقية، كمثيلاتها التي ظهرت في القاهرة في نوفمبر من العام 2014، وشهدت الانطلاقة الأولى لنواة التحالف الخماسي الآن في شرق المتوسط “مصر اليونان قبرص فرنسا الإمارات”. حيث استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي أمس السبت الدكتور خالد بتال نائب رئيس الوزراء وزير التخطيط العراقي، وذلك على رأس وفد وزاري عراقي رفيع المستوى، وبحضور عدد من السادة الوزراء والمسؤولين المصريين نظراء الوفد الوزاري العراقي. ما قد يفسر سرعة إنجاز مصافي النفط قبالة خليج السويس بالتوازي مع رسم الإطار الأولي لخط النفط العراقي المصري الذي يمر عبر الأردن ويعد أيقونة مشروع التكامل.



