دول المشرق العربي

الشام الجديد.. الخطوة الأولى تبدأ في القاهرة

ربما يثير مصطلح (الشام الجديد)، في أذهان معظم المتابعين للشأن العربي، أفكارًا تتعلق بمبادرة الوحدة العربية المتلاحقة، أبان ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث يرى البعض أن التوجهات الوحدوية أو التكاملية العربية، أثبتت عدم فاعليتها وعدم مناعتها أمام التجاذبات الدولية، والتناقضات المحلية والإقليمية، لكن ظلت العلاقات المشتركة بين مصر والعراق والأردن، تتمتع بأهمية وخصوصية متفردة، وظلت أواصر العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الدول الثلاث، متجذرة ومستمرة خلال العقود الماضية، رغم المد والجزر الذي شاب العمل العربي المشترك منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اللحظة المعاشة. ورغم أن تجربة مهمة للشراكة بين الدول الثلاث ومعهم العراق، وهي (مجلس التعاون العربي)، أواخر الثمانينات الماضي، لم تكلل بالنجاح ولم يُكتب لها الاستمرار.

الجسر العربي … الواقع ليس بعيدًا عن المجاز

اليوم يزور القاهرة وفد عراقي – أردني، يتصدره وزير النقل الأردني مروان خيطان، ووزير النقل العراقي ناصر حسين، وذلك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العمومية لشركة الجسر العربي للملاحة، في دورتها الـ 75، والتي ترأسها وزير النقل المصري كامل الوزير. هذا الخبر ربما يمر مرور الكرام لدى أغلب المتابعين للأخبار اليومية، لكنه خبر له دلالات مهمة ترتبط من جانب بتاريخ التعاون بين الدول الثلاث، ومن جانب آخر ترتبط بمستقبل التكامل بينهم، والسير نحو تحقيق مشروع (الشام الجديد) على أرض الواقع.

هذه الشركة، التي تعد نموذجًا نادرًا لنجاح الشراكات العربية في المجال الاقتصادي، تأسست في أكتوبر 1985، بالشراكة بين الدول الثلاث، برأسمال يقدر بستة ملايين دولار أمريكي، تضاعف على مدار السنوات اللاحقة، ليتجاوز عام 2012 مائة مليون دولار أمريكي. تخصصت هذه الشركة منذ إنشائها في نقل الركاب والبضائع عبر ميناء نويبع المصري وميناء العقبة الأردني، ليكون كلا الميناءين بمثابة بوابة للربط الاقتصادي والبشري بين آسيا وأفريقيا، ونافذة لتنشيط التجارة والسياحة بين الدول الثلاث، عبر أسطول يتكون من ست بواخر عملاقة.

الاجتماع الذي تم اليوم للجمعية العمومية لهذه الشركة، وتضمن لقاءً بين الوزيرين العراقي والأردني، ووزير النقل المصري كامل الوزير، تطرق إلى تفعيل أكبر للشراكة بين البلدان الثلاث في هذه الشركة، عبر عدة تدابير أهمها إنشاء شركة للنقل البري تابعة لهذه الشركة، تعمل على تفعيل إحدى الآليات التي تتضمنها استراتيجية (الشام الجديد)، وهي تسهيل حركة المواطنين بين الدول الثلاث، والوصول إلى منظومة مثالية تضمن تنقلهم بشكل آمن وسلس، وبتذكرة واحدة فقط.

عقب هذا الاجتماع، ترأس رئيس مجلس الوزراء المصري، الاجتماع الوزاري الأردني المصري العراقي، ضمن آلية التعاون الثلاثي. بحضور الوفود الوزارية في الدول الثلاث، أكد فيها على دفع آفاق التعاون في إطار الآلية الثلاثية، وتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه من مشروعات مشتركة، في أسرع وقت ممكن. وقد تقابل الرئيس المصري عقب هذا الاجتماع، مع الوفد العراقي برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التخطيط خالد بتال.

التعاون بين بغداد والقاهرة وعمان.. تصاعد مستمر

اجتماع اليوم في القاهرة، يأتي تتويجًا لسلسلة من الاجتماعات واللقاءات رفيعة المستوى، التي جمعت بين قادة البلدان الثلاث، منذ إطلاق آلية التعاون والشراكة بينهم، في مارس 2019، خلال لقاء القمة الذي جمع بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والعراقي برهم صالح، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في القاهرة، وهي قمة تلاها اجتماع عالي المستوى تم في أغسطس من نفس العام، جمع بين وزراء خارجية الدول الثلاث، ثم اجتماع قمة جمع بين رؤساء الدول الثلاث في نيويورك في سبتمبر من نفس العام.

هذا العام تضمنت الأجندة المشتركة بين البلدين حدثين على قدر كبير من الأهمية، الأول كان في شهر أكتوبر الماضي، حين زار رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي العاصمة العراقية بغداد، وعقد سلسلة من الاجتماعات الهامة على المستوى السياسي والاقتصادي، والثاني احتضنته العاصمة الأردنية عمان في أغسطس الماضي، وهو لقاء القمة الثالث من نوعه بين رؤساء الدول الثلاث. في لقاء القمة هذا، تم البحث بشكل مفصل في كيفية تحويل مبدأ (الشام الجديد)، إلى حقيقة واقعة مبنية بشكل أساسي على التعاون الاقتصادي.

الشام الجديد … طرح جديد لمبدأ قديم

ورد سابقًا ذكر مشروع (الشام الجديد)، خلال فترة ولاية رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، وسبقه في هذا الطرح -وإن كان بشكل أكثر توسعًا- البنك الدولي في دراسة نشرها عام 2014 حول الدوائر الاقتصادية المتوقعة في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية. وهو مشروع يرتكز بشكل رئيسي على تبادل الموارد الطبيعية ذات القيمة العالية بين الدول الثلاث، حيث تخطط بغداد لإنشاء خط لنقل النفط، من مدينة البصرة جنوبي البلاد، إلى مصر مرورًا بميناء العقبة الأردني، مع إعطاء كل من القاهرة وعمان أسعارًا تفضيلية لبرميل النفط الواحد، تتراوح ما بين 14 و16 دولار للبرميل، في مقابل استيراد بغداد للطاقة الكهربائية من القاهرة وعمان، وفتح الأبواب أمام استثمارات كلا البلدين على الأراضي العراقية، خاصة في قطاع البناء والتعمير، وقطاع النفط، وهو ما ستكون محصلته فتح الأسواق العراقية أمام المنتجات المصرية بشكل أوسع، وهو ما سيساهم بشكل كبير في تحقيق تكامل اقتصادي بين البلدان الثلاث، الذين يبلغ مجموع ناتجهم المحلي الإجمالي نحو 570 مليار دولار.

فيما يتعلق بالنفط، فإن للعراق في هذه المعادلة الثلاثية اليد العليا، ومصر من جانبها سرعت خلال السنوات الماضية من تعاونها مع بغداد في هذا الإطار، خاصة بعد توقيع كلا البلدين في 20 مايو 2009، اتفاقية للتعاون المشترك في مجال النفط والغاز، تكللت في أبريل 2016، بتوقيع اتفاقية بين البلدين لتوريد نحو 12 مليون برميل من النفط الخام الوارد من حقول البصرة، لمدة عام قابل للتجديد، بشروط ميسرة، على أن تكرير النفط العراقي في معامل التكرير بمصر.

بالفعل بدأت مصر في تسلم شحنات النفط العراقي بانتظام منذ مايو 2017، وقد تم في أغسطس الماضي، التوافق بين مصر والعراق على استمرار سريان هذا الاتفاق، وذلك خلال لقاء جمع في القاهرة بين وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا، وسفير العراق في القاهرة. يضاف إلى ما سبق بدء الشركات المصرية في الدخول إلى حقل إعادة تأهيل المنشآت الخاصة بقطاع النفط العراقي، وذلك بموجب مذكرة تفاهم تم توقيعها في أكتوبر الماضي، بين وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية، ووزارة النفط العراقية، خلال زيارة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إلى العاصمة العراقية، علمًا أن الاستثمارات المصرية قائمة بالفعل في عدة حقول نفطية عراقية، مثل حقل (الفيحاء) جنوبي العراق، الذي تمتلك مصر فيه حصة تبلغ 15 بالمائة.

الأردن من جانبه يحاول إحياء اتفاقيات سابقة مع العراق في مجال النفط، على رأسها الاتفاق على مد خط لنقل النفط من حقل الرميلة جنوبي العراق إلى ميناء العقبة، كجزء من الخط الرابط بين الجنوب العراقي ومصر، لكن تعطل هذا المشروع بسبب تداعيات جائحة كورونا، وحاليًا تجري محاولات لدفع هذا الملف قدمًا للأمام.

من جانب آخر ترغب عمان في الاستفادة من القدرات المتوفرة لدى مصر في مجال تصدير الكهرباء، من أجل سد العجز الذي تعاني منه في مجال الطاقة، فمصر حسب البيانات المتوفرة من وزارة الكهرباء، حققت الاكتفاء الذاتي في قطاع الكهرباء منذ عام 2015، وبلغ إنتاجها عام 2019 نحو 58 ألف ميجاوات، وهو ما يفوق استهلاكها بنحو 53%، إلى جانب احتياطي يصل إلى 25%، مما جعلها تدخل في دائرة أبرز الدول المصدرة للطاقة الكهربائية، وترتبط حاليًا بعقود للربط الكهربائي مع عدة دول عربية منها الأردن وليبيا وفلسطين. 

الأردن في هذه المعادلة سيستفيد من خلال لعب دور ممر الطاقة ذهابًا وعودة بين القاهرة وبغداد، حيث سيمر خط أنابيب النفط من ميناء العقبة الأردني في اتجاه مصر، وستمر الطاقة الكهربائية المصدرة من مصر إلى العراق عبر الأراضي الأردنية.

على المستوى التجاري، يستهدف العراق من خلال البحث في تنفيذ خطة (الشام الجديد)، توسيع المنافذ المتاحة له لتصدير سلعه ونفطه، خاصة في ظل المصاعب التي تطرأ ما بين الفينة والأخرى على منافذه التجارية مع تركيا، وفي الجنوب العراقي حيث ميناء البصرة، وهو يمتلك في هذا الصدد الطاقة والموارد البشرية، ومصر لديها الخبرات الصناعية والإدارية التي يمكن أن تدير هذه الأصول، والأردن من جانبه لديها الخبرات المالية التي تتيح إدارة هذه الموارد، وبالتالي ستكون هذه الجهود مجتمعة، سببًا في انفتاح أسواق الدول الثلاث على بعضها البعض، خاصة السوق العراقي المتعطش للمنتجات المصرية، بجانب دورة تنقل العمالة بين البلدان الثلاثة، والتي ستفرضها عمليات إعادة تأهيل منشآت النفط العراقية، وعمليات إنشاء خط النفط بين الدول الثلاث، وكذا منشآت وآليات الربط الكهربائي بين مصر والعراق.

النقطة الأهم في هذا الصدد هي مشروع (النفط مقابل الإعمار)، وهو المشروع الذي تم التوافق عليه خلال زيارة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إلى العراق في أكتوبر الماضي، حيث أعلن مدبولي عن استعداد شركات المقاولات المصرية دخول السوق العراقي، للمساهمة في تطوير البنية الأساسية وجهود إعادة الإعمار، وتنمية وتطوير قطاع الإنشاءات والإسكان، بالإضافة إلى دعم القطاع الاستهلاكي العراقي، بعد أن بلغ التبادل التجاري بين القاهرة وبغداد عام 2019 1.650 مليار دولار.

لكن بدأ هذا المعدل يتناقص تدريجيًا، ليسجل عام 2019 نحو 486 مليون دولار فقط، منها 479 مليون دولار صادرات مصرية للعراق، أهمها الأثاث والأدوية والحاصلات الزراعية والملابس الجاهزة. لهذا السبب ولأسباب أخرى تتعلق بالرغبة المصرية في تنشيط العلاقات التجارية مع بغداد، تم خلال هذه الزيارة التوقيع على 15 اتفاقية متنوعة، بعد أن عادت اللجنة العليا المشتركة بين البلدين إلى الانعقاد، للمرة الأولى منذ عام 1990، وشملت الاتفاقيات مجالات النقل البحري وأسواق المال والبيئة والصحة والإسكان والتعمير والقضاء والتعاون الصناعي والاستثمار.

مصادر:

https://2u.pw/0cykH

https://2u.pw/7gVfR

https://2u.pw/Ksmnw

https://2u.pw/HPOgZ

https://2u.pw/T61Jp

https://2u.pw/DxhNI

https://2u.pw/DCF03

https://2u.pw/bAnMhhttps://2u.pw/IszHh

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى