
تُصنف منظمتي العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش دولة الصين على أنها ديكتاتورية قمعية، ورسمت لها وسائل الإعلام الغربية انطلاقا من تلك التقارير صورة شديدة السلبية، رغم أن الحقيقة عكس ذلك، فالصين من الدول التي ترعى حقوق الإنسان بمفهومها الشامل سواء داخل حدودها أو خارجها وخاصة الحق في الصحة، وصاحبة الفضل بتقدمها العلمي في الوصول إلى لقاح فعال ضد فيروس كورونا وتوفيره لسكان الدول النامية بعدما قررت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وهي دول تصنفها تلك المنظمات على أنها دول حرة وديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان أن يقتصر التطعيم ضد الفيروس القاتل على سكانها في البداية قبل تصديره للخارج.
وكان الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب قد وقع مرسومًا يمنح الولايات المتحدة أولوية في تسلم لقاحات كورونا من الشركات الأمريكية قبل تصديرها، وينص على أن تعطي الحكومة الأمريكية أولوية لتلقيح المواطنين الأمريكيين قبل إرسال اللقاحات إلى دول أخرى، فيما جدَدت الصين في بيان لخارجيتها، التزامها بالمساهمة في التوزيع العالمي للقاحات وتعزيز استدامة اللقاحات والقدرة على تحمل تكاليفها في البلدان النامية.
المقارنة حاضرة بين تصرف دولتين عظميين تدعي إحداها أنها تدافع عن حقوق الإنسان والأخرى متهمة بانتهاكات جسيمة ضد تلك الحقوق، وفي نفس الوقت تقوم بتوفير لقاح فعال لفيروس كوفيد19 توفر به فرصًا لحماية حياة الملايين وبذلك تحقق واحد من أسمى مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو الحفاظ على الإنسان في الحياة، بينما من فضل تلقيح مواطنيه قبل باقي دول العالم عصف بذلك الحق وعصف بمبدأ المساواة بين البشر.
بالتأكيد تصنيفات العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش تضعنا أمام معيار ظالم للحكم على حالة حقوق الإنسان في العالم بشكل عام بين دول توصف باحترام حقوق الإنسان لكنها في لحظة الاختبار الحقيقي فضلت مواطنيها عن باقي مواطني العالم ودولة توصف بأنها حقوق الإنسان قررت أن تعالج الجميع رغم الأوصاف الغير دقيقة التي تطلق عليها.
نفس الأمر ينسحب بالتأكيد على الحالة المصرية فقد حققت مصر قفزات كبيرة في مجال حقوق الإنسان على مستوى تمكين المرأة والشباب وتحسين أحوال السجون وأماكن الاحتجاز والحق في الصحة والحق في التعليم والحق في العمل وغيرها من الحقوق اللصيقة بالإنسان، ومع ذلك يرى الإعلام الغربي عكس ذلك على طول الخط ويلاحق مصر باتهامات عارية تمامًا من الصحة، بل إن الشطط في عداء منظمة مثل هيومان رايتس ووتش لمصر وصل بها إلى مطالبة البنك الدولي بوقف تمويل مشاريع الصحة التي تتشارك مع القاهرة في تنفيذها وهو ما قد يعرض حياة المصريين للخطر وينتقص من حقهم أيضا في الحصول على خدمة صحية جيدة.
هذا المشهد الغريب والملغم يقودنا إلى التساؤل عن غياب معيار عادل ونزيه في الحكم على حالة حقوق الإنسان في أي دولة، فكثير من الدول الغربية وعلي رأسها الولايات المتحدة تشهد صدامات عرقية وتنتشر بها حالات وعدم قبول الآخر، وتسمح بانتهاكات متكررة ضد مقدسات ديانات أخرى تحت ستار حرية الرأي والتعبير، فيما تتفوق الصين في معايير أخرى مثل إتاحة المناخ لتوفير فرص أفضل للعمل والتوظيف وهو ما يعرف بالحق في العمل والحق في التنمية ومكافحة الفقر والبطالة وهو ما حققت فيه الصين إنجازًا غير مسبوق، ومع ذلك تلاحقها المنظمات الحقوقية الدولية باتهامات تنطلق من نقطة انتهاكات حقوق الإنسان سواء ضد مسلمي ماينمار أو قضية انفصال هونج كونج بينما تتجاهل تلك المؤسسات تمامًا الانتهاكات ضد الامريكيين من أصل أفريقي وقضايا العنصرية المنتشرة فى المجتمع الأمريكي والغربي بشكل عام.
المعيار العادل الوحيد هو أنه لا توجد دولة في العالم خالية من انتهاكات حقوق الإنسان، فلا أحد يمكنه أن يصل إلى حد الكمال، وكل دولة تواجه تحديات مختلفة وهو ما قد يفرض عليها اتخاذ إجراءات استثنائية للحفاظ على حالة الاستقرار والأمن، وهو ما تفعله دولة مثل فرنسا في مواجهة تظاهرات السترات الصفراء أو المعترضين على قانون الأمن الشامل وتتجاهله تقارير العفو الدولية أو هيومان رايتس ووتش في تقاريرهم المطولة.
المتابع لتقارير هيومان رايتس ووتش حول مصر يكتشف أنها الدولة الوحيدة الموجودة في بؤرة اهتمام المنظمة بعدد لافت من التقارير والبيانات التي تستند إلى معلومات مغلوطة وربما تفاصيل يمكن التشكيك فيها لأنها دون دليل أو منقولة من مصدر محجوب هويته، فيما تتبنى هيومان رايتس والعفو الدولية حملات للضغط على الدول الإسلامية من أجل القبول بالممارسات المثلية، متجاهلين مبادئ وقيم تلك المجتمعات وحالة الرفض المتكررة لتلك الضغوط وغيرها.
والحقيقة أن الأمم المتحدة وهي المنظومة المسؤولة عن وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم تضع أي معيار لتصنيف الدول أو مراقبة حقوق الإنسان بها لكنها أنشأت آلية وهي مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، والذي يقوم بمراجعة دورية لملف حقوق الإنسان لكل دول العالم مع احترام سيادتها وتحفظاتها على مواثيق حقوق الإنسان، وبالتالي ما تقوم به تلك المنظمات هي أفكار تخصها وترتبط برؤيتها التي تتحكم فيها أهواء موظفيها ومموليها.
وربما يجب التوقف طويلًا للنقاش بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس عبد الفتاح السيسي في قصر الإليزيه حول حدود حرية الرأي والتعبير واحترام مشاعر المؤمنين ومقدساتهم من استخدام تلك الحرية دون سقف في إشارة لحادثة نشر رسوم مسيئة للرسول وهو ما عبر عن وجود تباين للنظر إلى حقوق الإنسان بين الشرق والغرب وأنه يجب احترام الاختلافات بين الثقافات والحضارات، وأن عالمية حقوق الإنسان لا تعنى انتهاك قيم وثوابت المجتمعات وإن فرض قيم الاحترام وعدم التدخل في السيادة وعدم استخدام حقوق الإنسان كأداة لفرض سياسات معينة أو لابتزاز الدول لان قضية حقوق الإنسان بالأساس قضية تقوم على الحوار ولا تقبل الإملاء.
المقارنة بين موقف أمريكا والصين فيما يخص لقاح كورونا وبين موقف مصر وفرنسا من حرية التعبير المنفلتة، تكشف عن وجود تباينات واختلافات في التعامل مع حقوق الإنسان بين الشرق والغرب تعمقها ممارسات المنظمات الحقوقية المسيسة غير المهنية، بما يهدد مصداقية تلك المنظومة وتراجع احترامها لغياب المعيار العادل للحكم على التزام الدول بتلك الحقوق واستخدام سلاح الاتهام للتخويف بينما يتم غض الطرف عن ممارسات دول أخرى لمجرد أنها قوة عظمى، إذ تحتاج منظومة حقوق الإنسان الدولية إلى مراجعات كثيرة أهمها مراجعة أداء منظمات مثل العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش وتصويبها للعودة إلى روح ومعنى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لقد كان للدكتور محمد السيد سعيد في كتابه حكمة المصريين تصور مهم لتطبيق منظومة حقوق الإنسان بشكل مثالي وهو ما وضعه تحت عنوان أسلوب حياة ينمى الشعور بالسعادة ويتضمن الوفاء بالحق في العمل ومن ثم القضاء على البطالة وأتاحه فرصة للترقي، مضيفًا أن السعادة والتحقق هما معنيان اجتماعيان يرتبطان إلى حد كبير بعملية بناء الأمن والشعور بالتضامن والتآخي بين عناصر وأفراد الأمة، ووفق تلك الرؤية فإن سعى دول مثل الصين ومصر لتوفير فرص عمل والحفاظ على الأمن والنسيج الاجتماعي يحقق جوهر حقوق الإنسان.