
محمد أبو الفضل يكتب : الرسالة الفرنسية- المصرية وصلت
أكدت القمة التي عقدها الرئيس عبدالفتاح السيسي مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، الاثنين، صمود العلاقات بين القاهرة وباريس أمام العواصف والرياح التي هبت لاختزال المصالح الاستراتيجية بينهما في ملف حقوق الإنسان.
وكانت الرسالة الفرنسية قوية في التوقيت والمعنى والمغزى والأهداف، ومنسجمة مع التوقعات المصرية بأن ما يجمع بين البلدين من مصالح يفوق ما يمكن أن يفرقهما.
أدار الرئيسان المصري والفرنسي في المؤتمر الصحفي المشترك حوارا حضاريا بامتياز، كشف عن حدود التوافق الكبيرة والاختلافات الطفيفة، وعبر كل منهما عن احترام خصوصية كل جانب بلا صخب أو تشنج، ومنحا إشارة كاملة لتطوير العلاقات الفترة المقبلة، استنادا إلى مجموعة مهمة من القواسم المشتركة على الساحة الإقليمية.
يصمم البلدان على وقف التدخلات الخارجية السافرة في ليبيا، ومنع تدفق المرتزقة والأسلحة التركية إلى هناك، التي تلعب دورا خطيرا في إطالة عمر الأزمة، بجانب التفاهم الواضح حول تحركات متقاربة لوضع حد للتوترات التي تتسبب فيها تحرشات سفن أنقرة في شرق البحر المتوسط، وتهديد الأمن الإقليمي، وقد كانت فرنسا من أكثر الدول تصديا للخروقات البحرية التي تقوم بها تركيا في هذه المنطقة.
فوت السيسي وماكرون الفرصة على المتربصين الذين اعتقدوا أن الوقت مناسب لتصفية بعض الحسابات السياسية مع مصر وإحراج رئيسها أمام المجتمع الدولي في ملف له صبغة أخلاقية، حيث خاطب الفرنسيين بلغة عميقة وبسيطة في آن واحد، تركت أثرا إيجابيا لدى من استمعوا إليها.
كما بدا مستعدا للرد على جميع التساؤلات التي تدور في ذهن وسائل الإعلام الغربية عن حالة ملف حقوق الإنسان أو غيرها من الملفات، وهو ما جاء متوافقا في جزء كبير منه مع خطاب الرئيس الفرنسي الذي صمد في مواجهة من حاولوا جره إلى فتنة سياسية مع مصر على قاعدة حقوقية.
تتعمد بعض الدوائر الغربية تسليط الأضواء على هذا الملف دون غيره، واختزال الكثير من القضايا الحيوية فيه، فإذا رضيت عن الأداء العام كان سجل الدولة المستهدفة جيدا، والعكس صحيح، وهو تقييم تشوبه التباسات، ويبطن أكثر مما يظهر، ويحرف الأنظار عن قضايا أخرى ربما تكون أشد وضوحا، فالملف الحقوقي مطاط في جوانبه وتفسيراته وحمال أوجه في بعض الأحيان، وقد يتخذ ذريعة لممارسة ضغوط سياسية.
وصلت رسالة ماكرون إلى من تصوروا أن رحيل الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعني كشف الغطاء الدولي عن مصر أو عدم وجود حلفاء أقوياء لها، وفوجئوا بأن الرجل يتبنى موقفا صارما لا يقل ضراوة أو شعبوية عن ترامب ضد من أرادوا فسخ عرى العلاقة الاستراتيجية بين باريس والقاهرة، ومن سعوا نحو الاستفادة من الحماس الذي أشاعه فوز جو بايدن في الانتخابات الأميركية مؤخرا وتقديمه على أنه عدو لدود لمصر، وأداة سوف تمكنهم من استعادة بريقهم السياسي.
كشفت زيارة الرئيس السيسي لباريس عن أهمية التحالفات التي نسجتها مصر مع دول في الشرق والغرب، واعتمدت فيها على تكوين شبكة قوية من العلاقات تنطلق من المصالح المتبادلة، وظهرت القيمة السياسية للصفقات العسكرية العملاقة التي عقدت خلال السنوات الماضية، ولم يتم الاعتماد فيها على دولة بعينها، كما تزايدت أهمية الانخراط في مستويات متباينة من التعاون والتنسيق مع دول عديدة.
لقد جرت عملية تنويع جغرافي وسياسي بالغة الدقة ومع قوى كبرى الفترة الماضية، أثمرت في دعم الركائز الرئيسية للدولة من وجوه متعددة، وأكدت جدوى عدم الرهان على جهة بعينها، أو وضع جميع الأوراق في سلة واحدة، فوق كل ذلك عززت صواب الرؤية الاستراتيجية والقدرة الذاتية التي تجاوزت كثير من العقبات خلال فترة وجيزة.
انعكست هذه المكونات في ارتفاع منسوب الثقة في التعامل مع المستجدات، بعد أن جرى سد الكثير من الثغرات التي مثلت صداعا للدولة في وقت سابق، وتفتح الباب لتطوير التحركات بما يمنحها درجة عالية من المبادرة لتعظيم المكاسب، فهناك صراعات تطوي صفحاتها، وترتيبات يمكن أن تظهر ملامحها، ومن المهم أن تكون مصر في قلب التسويات والترتيبات، بما تراكم لديها من إمكانيات.
أتت رسالة ماكرون حاسمة في ملف مكافحة الإرهاب واجتثاث القوى المتطرفة، والذي تزداد مساحة التفاهم الفرنسي فيه مع مصر يوما بعد آخر، وقد يشهد تطورات جديدة على الأرض التي بدأ الرئيس ماكرون في حرثها، وتتعلق بتنظيف بلاده من كل أنواع المتشددين المعروفين والمتخفين وراء ستار شفاف من الجمعيات الخيرية النشطة في فرنسا التي لها امتدادات خارجية وعابرة للحدود.
تملك مصر في هذا الفضاء خبرة طويلة تمكنها من كشف الكثير من ألاعيب من وظفوا المساحة الواسعة للحريات في فرنسا وغيرها، لأغراض خاصة بتنمية مشروعاتهم العقائدية، ومهدوا التربة كي تتحول بعض الدول الأوروبية إلى فناء خلفي لهم، وقد تكون لحظة المكاشفة التي قامت بها باريس ضرورية لتغيير النمط المتقاعس مع التنظيمات الإسلامية التي ترتدي عباءة سياسية، مغطاة بشعارات حقوقية.
صبت باريس إناء مليئا بالمياه الباردة على وجه من حاولوا تفشيل القمة المصرية الفرنسية وحرفها عن مساراتها الحقيقية لأجل أن تدخل في دروب ودهاليز عاطفية يصعب السيطرة عليها، وثمنت جهود القاهرة في مكافحة الإرهاب وتطويق أدواته وفلوله في المنطقة.
أثبت ماكرون أنه يستطيع إحداث توازن بين قناعاته السياسية ومصالح فرنسا الاستراتيجية، وعزز استنتاجات سابقة بأن الرجل يريد القيام بدور مؤثر في قضايا الشرق الأوسط، ومن يطمح إلى ذلك عليه أن يتحلى برشادة ورؤية واقعية للأمور، ولا ينساق وراء عواطف أو مهاترات يمكن أن تنعكس سلبا على مصالح بلاده.
تحمل الحصيلة التي وصلت إليها السياسة الخارجية لمصر قدرا كبيرا من التفاؤل، فهي لا تقتصر على فرنسا فقط، حيث مدت بصرها إلى دوائر عديدة، وقد حان وقت توظيفها، بما يدعم دورنا الإقليمي.
نقلا عن صحيفة “الأهرام” في عددها الصادر اليوم الخميس 10 ديسمبر 2020


