
د. محمد حسين أبوالحسن يكتب : آبى أحمد.. وانصهار إثيوبيا!
يثير المشهد الإثيوبي المضطرب زخات من الأسئلة، حول مآلاته الداخلية وتداعياته الإقليمية، الأسبوع الماضي، أعلن آبي أحمد رئيس الوزراء، سيطرة الجيش الاتحادي على ميكيلي، عاصمة إقليم تيجراي، بعد معارك عنيفة استمرت شهرا مع (جبهة تحرير تيجراي)، أسفرت عن مقتل عدة آلاف وفرار عشرات الآلاف من اللاجئين إلى السودان، وأشار آبي أحمد إلى أن معظم قادة التمرد مقتول أو مسجون، وتجري مطاردة الباقين. بعد يوم من هذا الإعلان أكد دبرصيون ميكائيل زعيم (الجبهة)- لرويترز- أن قواته ستواصل القتال؛ مشددا على أن الأمر يتعلق بالدفاع عن حق تقرير المصير. كثير من خبراء القرن الإفريقي يرون أن إثيوبيا تدفع الآن ثمن صعود آبي أحمد المدعوم من قوى عربية وإقليمية ودولية، جاء الرجل للسلطة أبريل 2018، متعهدا بمواصلة نهج ميليس زيناوي رئيس الوزراء الأسبق الزعيم التاريخي للتيجراي، لكنه نكث بوعوده محاولا نزع الطابع (الفيدرالي) عن الدولة المتعددة الإثنيات والثقافات؛ ساعيا لحلمه الامبراطوري بإحكام قبضته على السلطة وتعزيز (المركزية) من خلال أيديولوجية (الانصهار)، وهي عنوان كتابه، أي فرض (الاندماج الوطني) على العرقيات، أحل حزب (الازدهار) محل (الجبهة الديمقراطية لشعوب إثيوبيا)، أيدته عرقية الأمهرة وعارضته التيجراي والأورومو. ضيق آبي على المعارضين؛ وانتهج سياسات ثأرية وصولا إلى استخدام القوات المسلحة ضد التيجراي، فشل رجل (نوبل للسلام) في فرض مشروعه القسري على بقية القوميات، استقواؤه بالأمهرة وعناد التيجراي ينذر بانتقال شرارة الحرب من إقليم إلى آخر. بعض الخبراء يرون أن إثيوبيا ظلت موحدة على مضض، طوال تاريخها الحديث، فالتفكيك كان واردا منذ زمن الإمبراطور إلى عهد آبي أحمد، إنها بؤرة لحروب العصابات المزمنة، المادة الـ39 من الدستور الإثيوبي الراهن تتيح لكل قومية الانفصال وإعلان دولتها المستقلة، وذلك ما يحاول رئيس الوزراء التصدي له بقوة السلاح إلى حد التطهير العرقي والمذابح التي دفعت سكان تيجراي إلى مغادرة الإقليم؛ خوفا على حياتهم غير عابئين بممتلكاتهم. بعض التقديرات تذهب إلى أن الحرب لن تنتهي بعد 3 سنوات، وليس هناك منتصر أو خاسر، وأنها تضع (وحدة إثيوبيا) على المحك، وقد تدفعها إلى الانصهار، ليس بمعنى الاندماج، بل الذوبان والتفتت. تترك الحرب الراهنة تأثيرات خطيرة على دول الجوار والاستقرار الإقليمي في حوض النيل والقرن الإفريقي، لاسيما في الصومال وجنوب السودان وإريتريا التي ساندت آبي أحمد عسكريا حتى تستعيد مثلث بادمي الحدودي من التيجراي، كما أن السودان استعاد جانبا من أراضي الفشقة الحدودية، حتى يضمن آبي أحمد أن يكون محايدا في هذا النزاع وسد النهضة. كما كشفت حرب الجيش الإثيوبي على تيجراي عن الموقف المتخاذل للاتحاد الإفريقي، تجاه كل ما يخص إثيوبيا، دولة المقر، إذ يسلك الاتحاد في الحالات المماثلة نهجا ويتخذ خطوات حاسمة، لكن هذه المرة، جاء رد فعله مهادنا؛ حتى قال دبلوماسي كبير بالاتحاد الإفريقي: إن آبي أحمد يعتقد أن الاتحاد من أجل الآخرين، وليس من أجل إثيوبيا!. إن إثيوبيا بلد خارج من دورات عنف عرقية، كل جماعة تقتل أختها، من يغدر بمن، من يباغته, يهزمه, يقتله، كل شيء قابل للطعن، أصابت قذائف آبي أحمد التاريخ والعقيدة والثقافة والهوية في بلد فسيفسائي، فاستخدام القوة لحسم الخلافات السياسية يجعل هرولة إثيوبيا إلى التبعثر في المدي المتوسط أو البعيد احتمالا واردا، ما أكثر التحديات التي تحيط بإثيوبيا، لكن أخطرها ما يصنعه الإثيوبيون ببلدهم وبالآخرين. مواجهة تلك التحديات أشبه بالسير في حقل ألغام مبثوثة عشوائيا، صلب التحدي ومناط الأسئلة هو كيفية التحول من الهدم إلي البناء, ومن الاضطراب إلي الاستقرار، وتحقيق التوازن المفقود بين متطلبات الدولة وضرورات القوميات المشكلة لها، عبر شراكة حقيقية في السلطة والثروة؛ من أجل ذلك يصعب تصور استمرار آبي أحمد في سدة الحكم بأديس أبابا ما لم يكن قادرا على إحداث تغيير مفصلي في توجهاته الداخلية وسياساته الخارجية، وعليه إدراك أن فسحة الفرص تضيق وأن اللعب على الحبال ومساندة داعميه لا يمكن أن تمنحه قبلة الحياة كلما غرق في بحور الدماء بلا رادع، وأن تعنته في قضايا الداخل والخارج يظهر أن مشاهد العنف الواردة من إثيوبيا وراءها وحشية بلا مثيل وحاضر بلا مستقبل في منطقة عامرة بالحرائق ولا ينقصها المزيد، فهل يستمع رئيس الوزراء الإثيوبي إلى صوت العقل قبل (الانصهار)؟!.
نقلا عن صحيفة “الأهرام” في عددها الصادر غدا الأربعاء 9 ديسمبر 2020