الصحافة الدولية

تخصيب اليورانيوم والتصعيد بين طهران وواشنطن

تتراوح الأزمة بين واشنطن وطهران بين التهدئة تارة والتصعيد تارة أخرى، الأمر الذي يفرض ضرورةالوقوف على أبرز التطورات بشأن الأزمة الخليجية وذلك بغرض الوقوف على المسارات المحتملة في ظل التطورات الأخيرة بين الجانبين.

أجواء مشحونة واتجاهات متباينة

أثار إعلان طهران بوقف تنفيذ التزامها بعدم تخطي نسبة 3.76% في تخصيب اليورانيوم التي يمكن أن تمتلكها إيران بموجب اتفاق لوزان عام 2015 بشأن البرنامج النووي الإيراني حالة من الجدل حول تطلعات طهران النووية خاصة بعدما أعرب “علي أكبر ولايتي” مستشار المرشد الأعلى للشئون الخارجية عن حاجة طهران لتخصيب نحو 5 % من اليورانيوم من أجل الأنشطة والاستخدامات السلمية. وعلى الرغم من تجاوز طهران للنسبة المحددة سلفا، إلا أن ذلك لا يؤهلها للإنتاج الفوري للسلاح النووي، إذ أن ذلك يحتاج إلى مستويات أعلى من التخصيب تصل إلى نحو 90%، وهو ما يعني أن تخلي إيران عن التزاماتها بشأن تخصيب اليورانيوم لا يمثل تهديداً على الأقل في المدى القصير، ومع ذلك فقد تسببت هذه الإجراءات في خلق أجواء مشحونة ومتوترة بين عدد من الأطراف الدولية ذات الارتباط المباشر بالاتفاق النووي مع إيران.

وبناء على ما سبق تشكلت ردود الأفعال على هذا التحرك وفقاً لاتجاهين متباينين:

  • الاتجاه الأول، وتمثله طهران حيث ترى أن تجاوزها نسبة التخصيب المُحددة في الاتفاق لا تمثل اختراقاً لقواعد الاتفاق النووي مستنده بذلك على أن تقليص إيران لالتزاماتها يتوافق مع بنود آلية حل المنازعات الضابطة للاتفاق النووي والتي يمكن اللجوء إليه حال تخلي طرف من أطراف الاتفاق عن تعهداته تجاه الآخر، وعليه ترى إيران أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي والعودة لتطبيق وفرض العقوبات وتوسيع نطاقها يعتبر مبرراً منطقياً لتحركات طهران الأخيرة نحو زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، الأمر الذي رجحة ” على شمخاني” أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بتأكيده على أن خطة تقليص التعهدات النووية تعتبر استراتيجية إيرانية غير قابلة للتغيير، في الوقت ذاته أعلنت طهران عن الاستمرار في تقليص التزاماتها كل 60 يوما إذ لم تتحرك الدول الموقعة على الاتفاق لضمان توفير إجراءات حمائية ضد العقوبات الأمريكية الموجه لإيران. 
  • الاتجاه الثاني، هو اتجاه تشكل على أساس مزيد من الرفض والترقب والحذرالشديد تجاه التحركات الإيرانية الذاهبة الي مزيد من تخصيب اليورانيوم، وقد تشكلت مُجمل الآراء المُعبرة عن هذا النهج في إطار أن مثل هذه الخطوات من شأنها أنتؤدي إلى عواقب وخيمة، إذ وصف ترامب هذا الإجراء على أنه لعب بالنار، فضلاً عن ذلك فقد عبرت المجموعة الأوروبية والمُمثلة في فرنسا، المانيا، بريطانيا والاتحاد الأوروبي عن قلقها الشديد حيال الخطوات التصعيدية لطهران، وطالبت هذه الدول بضرورة وضع حد لهذه الأنشطة مع وقف عملية تخصيب اليورانيوم وأي نشاط لا يتوافق مع الاتفاق، وكذا فقد أعربت كل من روسيا والصين عن قلقها من التصعيد الإيراني، مطالبة بضرورة البحث عن حلول دبلوماسية عبر الحوار والتفاوض بين الأطراف المتشابكة في الأزمة، ورغم ذلك فقد وجهت موسكو وبكين الاتهامات المباشرة لواشنطن وأعربت عن مسئولية الأخير في التوترات الحالية، وأن الضغوط القصوى التي مارستها واشنطن تجاه طهران هي السبب الرئيسي في نشوب الأزمة.

دوافع ورهانات إيرانية 

يأتي قرار إيران بالتراجع التدريجي عن عدد من التزاماتها رداً على الانسحاب الأمريكي أحادي الجانب من الاتفاقالنووي والذي أعلنت عنه واشنطن في مايو 2018، ومن بعدها البدء في فرض جملة من العقوبات الاقتصادية التي مثلت عاملاً ضاغطاً على طهران، ويُعد التحرك الإيراني تراجعاً مؤقتاً عن مبدأ “الصبر الاستراتيجي” التي تبنته إيران لمواجهة سياسة ترامب القائمة على ممارسة أقصى الضغوط على النظام الإيراني، وقد بدت مؤشرات التخلي عن الصبر الاستراتيجي في عدد من التحركات الإيرانية من بينها العودة لاستئناف تخصيب اليورانيوم، فضلا عن قيام الحرس الثوري الإيراني ( 20 يونيو 2019)، بإسقاط طائرة مسيرة أمريكية من طراز ” غلوبال هوك” بسبب اختراقها للمجال الجوي الإيراني، ناهيك عن الهجمات المنسوبة لإيران على أربع ناقلات قبالة ميناء الفجيرة، بالإضافة إلى تفعيل دور الحوثيين كوكيل نشط يمكنه أن يستهدف حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وتأتي هذه التحركات مدفوعة بعدد من الدوافع والرهانات وهي:

  • ممارسة الضغط على الحلفاء، يُنظر إلى عودة طهران لتخصيب اليورانيوم باعتباره تصعيدا محسوباً من قبل الإيرانيين، إذ أن استئناف تخصيب اليورانيوم لا يعني بالضرورة رغبة إيران في التخلي عن التزاماتها بشأن برنامجها النووي، بل يأتي ذلك في إطار ممارسة الضغط على حلفاء واشنطن الأوربيين من أجل تخفيف حدة المعاناةعلى الاقتصاد الإيراني والذي تكبد خسائر كبيرة على أثر استمرار العقوبات الأمريكية، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال ملاحظة انخفاض صادرات إيران من النفط والتي قد وصلت إلى 300 ألف برميل، مقارنة بحجم صادراتها الذي بلع نحو 2.5 مليون برميل في إبريل2018 قبل انسحاب ترامب من الاتفاق النووي.
  • رهانات إيرانية متعددة، تعمل طهران على إظهار ما لديها من أدوات ضغط يمكن أن تواجه بها الضغوط الأمريكية المتصاعدة، وفي هذا السياق تأتي تجاوزات طهران لالتزاماتها النووية وتتحرك الأخيرة في هذا الصدد ولديها عدد من الرهانات المحسوبة، حيث ينظر قادة إيران إلى أن اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية وإطلاق ترامب لحملة إعادة انتخابه ستضع جزء من القيود والمحاذير في تعامل ترامب مع طهران والذي قد يمنعه من التصعيد والمواجهة، كما أن طهران تعول كثيراً على تباين وجهات النظر بين الدول الأوروبية وواشنطن بشأن التعامل مع إيران خاصة وأن الدول الأوروبية تسعى لاحتواء إيران وتخفيف وطأة العقوبات عليه، من ناحية أخرى تجد إيران نفسها في مأمن بسبب الموقف الصيني الروسي الرافض لتوجه ترامب حيال إيران وهو ما يعني أن طهران مطمئنة من عدم تمرير إي قرار في مجلس الأمن من شأنه أن يرتب عقوبات علي ظهران بسبب تخليها عن جزء من التزاماتها النووية.

احتمالات قائمة

ثمة احتمالات يمكن أن تنجم عن التفاعلات والتطورات المتلاحقة بشأن التوتر بين طهران وواشنطن خاصة في ظل التصريحات المتضاربة من الطرفين بشأن التعامل مع الآخر وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:

  • الاحتمال الأول: استمرار التصعيد، ينطلق هذا الاحتمال من استمرار سياسة واشنطن في “ممارسة اقصى الضغوط” مقابل تخلي طهران عن مبدأ “الصبر الاستراتيجي”، وعليه تعمل الأخيرة على مواصلة خروقاتها للاتفاق النووي مقابل استمرار واشنطن في فرض مزيد من العقوبات على طهران والعمل على حشد المجتمع الدولي ضدها ومن ثم عزلها عن محيطها الإقليمي والدولي، وقد يؤدي هذا التصعيد إلى مواجهة محدودة بين الطرفين تلجأ فيها إيران إلى أحد وكلائها في المنطقة وقد يكون الحوثيون هم الأجدر والأكثر فاعلية للقيام بهذه المهمة من خلال استهداف مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في منطقة الخليج، كما قد تدعم الولايات المتحدة عمل عسكري محدود ضد أهداف إيرانية سواء في سوريا أو اليمن، ورغم بقاء احتمالية المواجهة، إلا أن تبعات هذه الخطوة تجعل من الصعب الذهاب اليها، إذ أن الطرفين قد يفضلان مزيد من التصعيد والحرب الكلامية وتأجيل المواجهة المباشرة.
  • التهدئة عبر الوساطات، ينطلق هذا الاحتمال فرضية أن الطرفين لا يريدان الذهاب للحرب ولا يفضلان استمرارية التصعيد، وعليه فقد تتنامى الرغبة لدى الطرفين في خفض حد التوتر انطلاقاً من أن التصعيد لن يُجدي نفعاً، خاصة في ظل تصريحات إيرانية وأمريكية تؤكد الحاجة إلى القبول بالتفاوض حتى وأن كان هذا التفاوض مشروط، وهنا يمكن أن تقوم عدد من الدول بطرح مبادرات للوساطة والمساعي الحميدة بين الطرفين من أجل تقريب وجهات النظر والتوافق حول حاجة كل طرف من الجلوس على طاولة المفاوضات، وما يعزز هذا الاحتمال حجم الزيارات الأوروبية وكثرة الوساطات التي شهدتها الساحة مؤخرا، وقد يكون الوسيط الأوروبي هو الأجدر على لعب هذا الدور نظراً لما يتمتع به من قبول لدى الطرفين، ويستند هذا الاحتمال إلى ما أعلنت عنه طهران بشأن إمكانية التراجع عن التصعيد إذا وجدت تقدماً في قضية رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، من ناحية أخرى تصب تصريحات ترامب حول ما وصفه عن وجود “”تقدم كبير” بشأن القضايا العالقة مع إيران” ليؤكد على تزايد احتمالات التهدئة عبر الوساطة.

كاتب

محمود قاسم

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى