أوروبا

ثنائية “الهجرة غير الشرعية” و”مكافحة الإرهاب”.. القاهرة وباريس إلى أين؟

غيرت ثورة “الثلاثين من يونيو 2013” مصفوفة القوى الإقليمية بشكل “حاد” و”سريع”؛ فالثورة التي أسقطت مشروع جماعة “الإخوان المسلمين” في أهم دولة بالعالم العربي والإسلامي، وضعت الأمة المصرية ومن خلفها أجهزتها الحكومية الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية والأمنية والاستخباراتية أمام “لحظة حقيقة” لا تتكرر في التاريخ المصري على نحو متقارب.

وتمثلت “لحظة الحقيقة” في بلورة استحقاق تاريخي للأمة المصرية، يقدم فرصا لاستعادة الدور والمكانة، ويحمل “تحديات وتهديدات” تتراوح بين مستويين “تكتيكي” و”استراتيجي” متفاوتي الخطورة، لكن جملة التحديات والتهديدات التي صاحبت بلورة الاستحقاق التاريخي يمكن وصفها بغير المسبوقة في التاريخ المصري المعاصر. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعرضت وتتعرض مصر لتهديدات من جميع اتجاهاتها الاستراتيجية دفعة واحدة، وهو أمر لم يتكرر منذ عهد الملوك المصريين المحاربين في عهد الدولة الوسطى قبل ثلاثة آلاف عام.

وعليه، جاءت الاستجابة المصرية مغايرة وغير نمطية، تراعي تنوع مسارح المواجهة، وتطور القوة الشاملة للدولة المصرية، واعتمدت الاستجابة المصرية على مزج أدوات القوة الناعمة بالأدوات الدبلوماسية والسياسية والاستخباراتية بغية نيل الاستحقاق التاريخي بأقل قدر من الخسائر الممكنة.

هذا المزج دفع باتجاه استراتيجي عريض للدولة المصرية تمثل في تنويع الشراكات الاستراتيجية مع أقطاب المناطق المختلفة. واتجهت مصر نحو أوروبا مركزة على تدشين ارتباطات استراتيجية مع كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. لكن ثمة خصوصية تمايزت بها العلاقة المصرية الفرنسية في سياقها الحالي والتاريخي. فالدولة الفرنسية إبان حقبة محمد علي كانت مصدر الخبرات الحيوية المطلوبة لتأسيس “الدولة الحديثة” ونقلها من المكوث بين غياهب العصور الوسطى للحداثة والتمدن. فتأسس جيش “محمد علي” بخبرات فرنسية، كذلك الدواوين والهيئات الحكومية، وكانت فرنسا وجهة ابتعاث الطلاب والدارسين المصريين كي يصبحوا كوادر وركائز للدولة المصرية الناشئة حديثا آنذاك.

وفي عام 2013، بدت فرنسا أكثر قبولاً للتعاطي مع الحكومة المصرية الجديدة في ذروة تسويق المحور المعادي وآلاته الإعلامية ذات التأثير الكبير لسردية تزييف الواقع المصري، وخدمة الأجندة الاخوانية وداعميها. الأمر الذي دفع بتعزيز القاهرة لعلاقاتها مع باريس، فكانت الزيارة الأولى للرئيس السيسي لفرنسا نوفمبر 2014، تبعتها خمسة لقاءات متبادلة على المستوى الرئاسي والتي كان آخرها زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لمصر في يناير 2019، وزيارة الرئيس السيسي الحالية التي تنتهي في الثامن من ديسمبر الجاري.

والثابت في الستة لقاءات على المستوي الرئاسي بين مصر وفرنسا؛ بنكُ من الأهداف أبرز ما فيه ملفي الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب.. فكيف جمع الملفين القاهرة وباريس وإلى أين يمضي بهما؟

مسارات الهجرة غير الشرعية والوجهة فرنسا

تعتبر فرنسا نقطة نهاية في الغالبية من مسارات الهجرة غير الشرعية المنطلقة من العمق الافريقي وجناحيه الشرقي والغربي. فطبقاً لأحدث التقديرات المعلنة من خلال وزير الداخلية السابق جيرار كولومب، فإن المهاجرين غير الشرعيين في فرنسا وحدها وصلت أعدادهم لـ 300 ألف شخص، يمثلون نحو 0.5% من السكان. ويعيش هؤلاء وفق أوضاع غير قانونية ما يرفع من المخاطر الأمنية بالبلاد التي تنخرط عسكريا في أكثر من بؤرة صراع بالساحل والصحراء وشرق المتوسط.

ومع اندلاع موجات “الربيع العربي” بكل ما خلفه من تداعيات جسيمة على الأمن الإقليمي، ومع انتقال ظاهرة الإرهاب العابر للحدود من آسيا لإفريقيا وتحديدا شرق وغرب القارة، ارتفعت معدلات التهريب والهجرة غير الشرعية بشكل غير مسبوق منذ 2014 حسبما صرح وزير الداخلية الفرنسي الأسبق كولومب في 2017.

 كما استقبل الاتحاد الأوروبي نحو 890 ألف مهاجر في 2015، مما وضع الهجرة في أعلى أولويات الجدل السياسي في برلين وباريس. وما زاد من هذا الجدل، التجربة المريرة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، حيث ما انفكت الأولى كي تفتح حدودها أمام عشرات الاف من اللاجئين صوب أوروبا بحراً وبراً، كلما تصادمت الرؤى السياسية لأنقرة وعواصم الاتحاد الأوروبي سوريا وشرق المتوسط. حيث عبَر الحدود التركية قرابة مليون شخص على الأقدام باتجاه أوروبا في العام 2015.

وما عاظم من المخاوف الفرنسية تجاه موجات الهجرة غير الشرعية انخراط تركيا العسكري في غرب ليبيا. حيث تعتبر ليبيا هي عقدة خطوط مسارات الهجرة غير الشرعية القادمة من إفريقيا صوب الاتحاد الأوروبي.

كما قال رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، العقيد المبروك عبدالحفيظ، في سبتمبر 2019، إن عدد المهاجرين غير الشرعيين داخل الأراضي الليبية يبلغ 700 ألف مهاجر غير شرعي خارج مراكز الإيواء وسبعة آلاف مهاجر داخل هذه المراكز. ومع اشتباك الجغرافيا السياسية بين كل من فرنسا وتركيا، تخشى باريس من أن توظف أنقرة موقع ليبيا في الدفع بهجرات غير شرعية باتجاهها جنوب المتوسط.

ومع خطة التحديث الشاملة للقوات المسلحة، وخاصة سلاح البحرية، انتقلت بحرية القاهرة من بحرية تأمين سواحل لبحرية زرقاء قادرة على ارتياد أعالي البحار، كما برهن الميدان الليبي على الجدية المصرية في تجفيف منابع الإرهاب والنشاط الميليشياوي الذي يعد ركيزة لإشكالية الهجرة غير الشرعية.

إذ أعلنت مصر إعادة بناء مؤسسات الدولة الليبية بما يتوافق والشرعية الدولية على سياسات الانخراط العسكري المباشر والتنافس الإقليمي الحاد. وأصبح الشرق الليبي نموذجا يحظى بالهدوء والاستقرار أمام غرب ليبي مفعم بالاضطرابات الأمنية والسياسية وتحول موانئه لنقاط انطلاق لقوارب الهجرة غير الشرعية صوب الجزر الإيطالية ومن ثم على سائر عواصم القارة العجوز ولاسيما باريس.

ولعل حادثة كنيسة “نوتردام” في مدينة نيس بفرنسا أوضح مثال عما قد يصيب باريس من المهاجرين غير الشرعيين في حال توظيف أبناء الجالية الشرق أوسطية في عمليات إرهابية تدخل ضمن سياقات التراشق والتنافس بين تركيا وفرنسا. فمنفذ الهجوم كان تونسياً دخل فرنسا عبر إيطاليا بطريقة غير شرعية.

وتأتي المقاربة المصرية والفرنسية حيال ملفات الهجرة بتوافق كبير، يتبنى حلولاً بتسكين مناطق الصراعات وبؤر الانطلاق عوضاً عن حصرها فقط في التعرض لقوارب المهاجرين في عرض البحر.

مكافحة الإرهاب

 “على الغرب أن ينتبه لما يدور في العالم وخريطة التطرف التي تنمو وتزداد، هذه الخريطة ستمسكم لا محاله”. بهذه الكلمات والثواني الثلاثة عشر وجه الرئيس السيسي تحذيره للغرب عام 2015، وهو العام الذي واجهت فيه مصر أشد موجة إرهاب.

لم يستغرق الأمر سوى عدة أشهر من تحذير السيسي، وشهدت فرنسا واحدة من أكبر الهجمات الإرهابية في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية، هجوم داعش على أهداف متفرقة في العاصمة باريس، والمعروف إعلامياً بهجمات باريس 2015. حيث أودي الهجوم بحياة 137 شخصا وأصاب المئات. واللافت في هذا الهجوم انه كان بواسطة مسلحين منتمين لتنظيم داعش، ومنهم من يحمل الجنسية الفرنسية.

أصاب الهجوم المؤسسات الأمنية والسياسية في فرنسا بالصدمة، فباريس التي اعتادت على مواجهة التنظيمات الإرهابية على بعد آلاف الاميال من حدودها، في مالي وتشاد والنيجر وسوريا، باتت الان تواجه ارهاباً ينبع من داخل أراضيها.

وسرعان ما تبنت باريس استراتيجية لمواجهة التطرف داخل مجتمعها، تبلورت اخيراً في خطة المواجهة المعروفة باسم “الانفصال الشعوري” والتي أعلن عنها “ماكرون” قبل شهرين، وهدفت لتصفية أصول حركات وتنظيمات الإسلام السياسي التي تكشفت علاقاتها بالنشاط المتطرف والمزاج الانعزالي للشرائح المسلمة في فرنسا، بل وتكشفت علاقاتها أيضا بالإرهابيين الذين نفذوا عمليات إرهابية داخل فرنسا، وهؤلاء الذين سافروا للحاق بتنظيم داعش.

وقدم “المرصد المصري” ورقات عدة تتناول على نحو تفصيلي طبيعة المواجهة بين فرنسا والإسلام السياسي في الأونة الأخيرة، منها : مواجهة حتمية.. كيف تواجه فرنسا شبكات الإسلام السياسي وداعميها؟، إلى أين يصل التحريض والتوظيف التركي للإسلام الحركي في فرنسا وأوروبا؟.

وقال وزير الداخلية جيرالد دارمانان، إن فرنسا أحبطت خلال الثلاث سنوات الماضية نحو 30 هجوما إرهابيا بمعدل هجوم جديد كل شهر. كما فككت فرنسا وأغلقت نحو 250 منظمة ومركزا إسلاميا ومدرسة جراء نشر الأيديولوجيا المتطرفة.

وواجهت فرنسا “ردات فعل” قوية جراء إعلانها عن مشروعها لمواجهة الانعزالية الإسلامية، وأزمة الرسوم الكاريكاتورية، وذلك بسبب توظيف تركيا لخطاب الإسلاموفوبيا، والحرب على الإسلام، وانتقاد السياسات الفرنسية على أساس ديني من دون التطرق لحسابات الجغرافيا السياسية.

فكانت العاصمة الأولى التي يقصدها المسؤولون الحكوميون في باريس لمخاطبة العالم الإسلامي؛ القاهرة. حيث التقى وزير الخارجية الفرنسي لودريان، شيخ الأزهر 8 نوفمبر الماضي، لتصحيح الصورة التي رسختها الألة الإعلامية التركية التي عكست هواجس صناع القرار في إسطنبول حيال فقدانهم للكثير من النفوذ من خلال تضييق الخناق على المراكز الإسلامية والمنظمات التابعة لجماعة الإخوان.

وعليه، يمكن القول بأن محفزات انطلاقة مصر نحو استحقاقها في الإقليم، قد جاءت من مواجهة تيار الإسلام السياسي وجماعته الأم “الاخوان المسلمين” المصنفة إرهابيا لدى دول الرباعي العربي.

وعانت مصر مما تعانيه فرنسا الآن، وأصبحت مصداقية الخطاب المصري الرسمي في هذا الشأن لها وقعها الخاص ولاسيما وأن باريس في خضم معركة مع ذات التيار الأصولي الذي سقط في القاهرة بالعام 2013.

ولذا، فإن ملف مكافحة الإرهاب والذي بدأ مبكراً في القاهرة، سيشهد كثيرا من قنوات التنسيق الدبلوماسي والاستخباراتي والعملياتي في مناطق عدة تبدأ من شرق المتوسط، وتنتهي عند دول الساحل والصحراء، فهناك تعرضت فرنسا منذ شهرين لحادثة إرهابية تعتبر الأبرز منذ سنوات، حيث قُتِل 6 عمال إغاثة فرنسيين في النيجر بينهم امرأة ذبحت على ايدي مسلحين متطرفين، كما بدأ يتشكل مشهد جهادي جديد بالمنطقة يتبنى بصورة أكثر نظامية مناكفة وطرد الوجود الفرنسي، ما يثير التساؤلات حول “ماهية” الارتباطات بين هذه التطورات والنشاط التركي الأخير في منطقة الساحل والصحراء وزيارات كبار المسؤولين لعواصم الإقليم، وكذا بين اشتداد حدة الاشتباك بين تركيا وأوروبا وتعرضها لعدة عمليات إرهابية بنمط “الذئاب المنفردة”.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى