
“شرق المتوسط”.. ساحة حيوية للتقارب المصري الفرنسي
تفرض التطورات الجارية في منطقة شرق البحر الأبيض نفسها بقوة على أجندة اللقاء المرتقب بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الفرنسي “إيمانويل ماكرون” والذي يأتي في سياق زيارة تهدف إلى تعزيز العلاقة بين البلدين على مختلف الأصعدة، خاصة منطقة شرق المتوسط لما تمثله من أهمية استراتيجية للطرفين خاصة فيما يرتبط بتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي. الأمر الذي يستدعي الوقوف على مصالح البلدين شرق المتوسط، وصولًا للجهود المشتركة والأدوات التي يمكن توظيفها للحفاظ على تلك المصالح وذلك على النحو التالي
“المتوسط”.. مصالح حيوية للطرفين
تدخل منطقة “شرق المتوسط” ضمن الميادين والساحات الأساسية التي تتقارب فيها العلاقات المصرية الفرنسية انطلاقًا من مصالح البلدين ومساعيهما لتأمينها في ظل تنامي وتصاعد الأعمال العدائية لتركيا والمرتبطة بالتنقيب عن الغاز الطبيعي شرق المتوسط، وفي هذا الإطار يمكننا تحديد المصالح المصرية والفرنسية في تلك المنطقة من أجل الوقوف على ملامح وآليات التحرك المشترك للحفاظ على تلك المصالح.
فيما يتعلق بالتوجهات المصرية في منطقة شرق المتوسط، يمكننا تأكيد ما تمثله المنطقة من أهمية بالنسبة للدولة المصرية باعتبارها جزءا من أمنها القومي، ومن هنا عملت مصر على تعزيز البعد المتوسطي في سياستها الخارجية عبر تعزيز وتطوير التعاون المشترك بين دول المنطقة، كما سعت مصر للتحول لمركز إقليمي للطاقة انطلاٌقًا من امتلاكها لعدة مزايا نوعية: أولها، امتلاك مصر لأكبر احتياطي من الغاز الطبيعي ممثل في حقل ظهر باحتياطات تقدر بنحو 30 تريليون قدم مكعب. ثانيها، توافر البنية التحتية اللازمة لتسييل الغاز الطبيعي عبر محطتي ” دمياط وادكو” والتي تصل قدرتهما الاستيعابية لنحو 19 مليار متر مكعب سنويًا، وهو ما يمثل تقريبًا ضعف سعة خط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي.
ومن هنا رأت مصر أن الحفاظ على الاستقرار وتعزيز الأمن شرق المتوسط يدخل ضمن مجالات الأمن القومي المصري، خاصة بعدما نجحت مصر في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي عام 2018، إذ وصل حجم الإنتاج اليومي لنحو 7.2 مليار قدم مكعب، وعليه فقد تحولت مصر من دولة مستوردة للغاز لدولة منتجة ولديها فائض كبير يسمح بالتصدير للخارج، فوفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، فقد بلغت صادرات مصر من الغاز الطبيعي 1.2 مليار دولار عام 2019 مقابل 479 مليون دولار عام2018، وقد نتج عن إيقاف استيراد الغاز توفير نحو 1.5 مليار دولار سنويًا.
على صعيد آخر، تمثل منطقة شرق المتوسط أهمية حيوية لفرنسا وقد تزايد الاهتمام الفرنسي بالمتوسط في أعقاب وصول “ماكرون” للحكم الذي تبنى سياسة متوسطية أكثر نشاطًا، وقد دلل على قيمة ومحورية منطقة المتوسط في توجهات “ماكرون” في خطاب الاحتفال بالعيد الوطني (يوليو2020) حيث أكد أن منطقة المتوسط يجتمع فيها كل مقومات وعناصر الأزمة التي يمكن أن تضر بالمصالح الأوروبية وفي القلب منها فرنسا.
ومن هنا عملت فرنسا على تكثيف انخراطها في المتوسط لتحقيق جملة من الأهداف من بينها:
أولًا: رغبة فرنسا في تولي زمام الأمور في منطقة المتوسط حيث رأى ماكرون أن بلاده لديها المقومات العسكرية والأدوات والركائز التي تمكنها من قيادة المنطقة ما يمكن ملاحظته من خلال مساعيه لتصدر المشهد في لبنان في اعقاب انفجار مرفأ بيروت ومحاولته لفرض رؤيته في المشهد السياسي والترتيبات المحتملة في الداخل اللبناني.
ثانيًا: تعمل فرنسا على تأمين والحفاظ على مصالحها الاقتصادية، خاصة وأن بعض التقديرات تشير إلى أن حجم اكتشافات الغاز في المتوسط يعادل استهلاك فرنسا من الغاز الطبيعي لمدة 50 عامًا ومن هنا ترى فرنسا في غاز المتوسط فرصة واعدة لتأمين احتياجاتها ومن ثم تقليل الاعتماد الأوروبي والفرنسي على الغاز الروسي، من ناحية أخرى يعتبر الحفاظ على مصالح الشركات الفرنسية – توتال- العاملة في مجال التنقيب في المتوسط كجزء من أهداف الوجود الفرنسي في المنطقة.
ثالثًا: تعمل فرنسا عبر وجودها في المتوسط على مواجهة التحديات غير التقليدية كالهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب وغيرها من التهديدات التي تضر بالأمن الإقليمي.
تحركات مشتركة
ترتيبًا على ما سبق، تعمل مصر وفرنسا على تأمين مصالحهم في المتوسط، إلا أن هناك مجموعة من التهديدات والتحديات التي قد تعرقل هذه المساعي وهو ما يمكن تحديده فيما يلي:
- التهديدات التركية، تمثل التحركات التركية شرق المتوسط وانتهاكها المتواصل لقواعد القانون الدولي ورفضها لكافة الاتفاقيات البحرية في المنطقة مصدرًا لإثارة الفوضى وزعزعة الاستقرار في المتوسط، خاصة في ظل مواصلة اعمال التنقيب في المياه الإقليمي لقبرص واليونان، علاوة على محاولاتها لفرض أمر واقع يتجاوز القواعد والأعراف الدولية، فضلًا عن العسكرة المستمرة للمتوسط من قبل أنقرة سواء من خلال التحرش بالسفن الحربية على غرار التحرش بفرقاطة فرنسية في يونيو 2020 أو الاصطدام بسفينة يونانية في أغسطس 2020 ، ناهيك عن تكثيف المناورات العسكرية في البحار الثلاثة المحيطة بتركيا.
- استمرار الصراع في ليبيا، تعتبر ليبيا واستقرارها مدخلًا مهمًا لاستقرار شرق المتوسط، خاصة أن تركيا اتخذت من الصراع الليبي مجالًا للتمدد شرق المتوسط، الأمر الذي يمكن الوقوف عليها من خلال توقيع الاتفاقية البحرية بين أردوغان والسراج في نوفمبر 2019، والذي عملت تركيا من خلالها على محاولة شرعنة تحركاتها وتعزيز نفوذها البحري في المتوسط، إلا أن هذه الاتفاقية قد قوبلت باعتراض واسع من دول المنطقة وفي مقدمتهم مصر وفرنسا واليونان خاصة أنها تتجاهل الحقوق البحرية لعدد من الجزر اليونانية. وعليه يعتبر النفوذ التركي في غرب ليبيا -ودعمها للميليشيات المسلحة ومساعيها الدائمة لعرقلة التسوية وتأجيج الصراع- ضمن التهديدات التي تؤثر على المصالح المصرية الفرنسية شرق المتوسط.
ومن أجل مواجهة تلك التحديات عملت البلدان على ردع تركيا ومحاولة عزلها في المتوسط عبر عدد من الخطوات يمكن تحديدها فيما يلي:
- الردع السياسي، في سبيل مواجهة تلك التهديدات سعت مصر لفرض ترتيبات جماعية بين دول المتوسط لردع السلوك والتحركات التركية، وقد مثل تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط “عام 2019 وتحويلها لمنظمة إقليمية في سبتمبر 2020 أحد الأدوات الفاعلة لتطويق النفوذ التركي، وتعمل فرنسا على تعزيز حضورها في هذا التجمع، من خلال اعلان رغبتها في الانضمام للمنظمة، ما يعني مزيدا من التنسيق بين مصر وفرنسا ودول المنظمة بهدف دعم المصالح المشتركة بعيدًا عن التحركات العدائية والصدامية لتركيا.
- الردع العسكري، عملت مصر وفرنسا على ردع تركيا عسكريًا من خلال عقد عدد من المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة، فقد عقد الطرفان ما يزيد عن 5 تدريبات مشتركة في شرق المتوسط
خلال عام 2020، وشهد شهر نوفمبر من العام نفسه مناورتين بحريتين ما يدل على رغبة الطرفين في تعزيز ورفع قدراتهم البحرية لمواجهة الاعمال العدائية التركية، من ناحية أخرى شهدت مناورات ميدوزا 10 والتي انطلقت في 30 نوفمبر، مشاركة فرنسا للمرة الأولى بعدما كانت المناورات تتم بين الجانب المصري واليوناني، إلا أن اتساع نطاق وعدد الدول المشاركة في المناورات الأخيرة تشير لعدة دلالات أبرزها إدراك مصر وفرنسا لحجم التهديدات التي تؤثر على مصالحهم في منطقة المتوسط.
في الأخير، تُعبر الزيارة الراهنة للرئيس عبد الفتاح السيسي لفرنسا عن عمق الروابط والعلاقات بين الطرفين، وتأتي منطقة شرق المتوسط وما تحمله من أهمية للبلدين لتضفي مزيدًا من الزخم والأهمية لهذه الزيارة، خاصة أنها تأتي بعد نحو ثلاثة أشهر من تحول منتدى غاز شرق المتوسط لمنظمة إقليمية وهو ما يشير إلى إمكانية التفاهم حول عدد من الترتيبات والسياسات الرامية لتفعيل عمل المنظمة.
كما تأتي الزيارة قبل أيام من القمة الأوروبية المرتقبة الرامية لفرض عقوبات على تركيا بسبب أعمال التنقيب عن الغاز في المتوسط، ومن هنا يمكن أن يقود الطرفان في الفترات القادمة جهودًا جماعية لتطويق نفوذ تركيا، سواء من خلال منظمة شرق المتوسط أو عبر الجهود الفرنسية في توحيد الموقف الأوروبي الساعي لتمرير العقوبات على تركيا.
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع