
“حديث الإصلاح في تركيا”.. دوافع خارجية وفرص تطبيق محدودة
في مناورة جديدة، خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطاب أمام مجموعة من أعضاء حزبه في مقاطعة تكيرداغ الشمالية الغربية يوم 18 نوفمبر الجاري ليعلن عن اعتزامه البدء في إجراء إصلاحات بعيدة المدى في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان لتهيئة مناخ حاضن للاستثمار وضمان النمو والتنمية والرفاهية والاستقرار.
لكن لا يصعب على أي مراقب للشأن التركي أن يجزم بأن هذا الحديث ما هو إلا مناورة سياسية ومحاولة جديدة لخداع المجتمع الدولي؛ فالتوقيت يثير تساؤلات؛ هل تذكر أردوغان -القابع على رأس السلطة في بلاده منذ 17 عامًا رئيسًا للوزراء ثم رئيسًا للدولة- فجأة أن بلاده بحاجة إلى إصلاح سياسي واقتصادي؟ لماذا لم يطرح أردوغان مثل تلك الإصلاحات المزعومة طوال السنوات الماضية التي شهدت تراجعًا غير مسبوق في أداء الاقتصاد وتصاعد للاحتجاجات الشعبية المناهضة للنظام وسياساته الداخلية والخارجية؟ لماذا لم تأتِ تلك الإصلاحات كاستجابة لمطالبات كررتها المعارضة مرارًا؟ كل هذه التساؤلات المشروعة نجيب عليها بكلمة واحدة “التوقيت”.
الظرف الزمني الآن مختلف عن كل مرة، أردوغان متورط خارجيًا على أكثر من جبهة، واقتصاده يعاني من حالة من الترنح، شعبيته وحزبه تهاوت إلى درجة غير مسبوقة، سيد البيت الأبيض تغير لم يعد هناك المزيد من “صمت ترامب الحليف الشخصي” فلن يتجاوز بايدن عن الأنشطة التركية المزعزعة للاستقرار، ويُمكن أن يطلب من أنقرة إدخال إصلاحات بشأن الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية مثل حرية الصحافة وحرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات، وإيجاد آلية تحمي بشكل فعال الحقوق والحريات الأساسية وتعديل قوانين مكافحة الإرهاب لتتوافق مع المعايير الدولية، وفوق هذا وذاك صوت الكونجرس على فرض عقوبات إلزامية على أنقرة بشأن شرائها نظام الدفاع الصاروخي الروسي “إس-400” في غضون 30 يومًا، كما يستعد الاتحاد الأوروبي لعقد قمة يوم 10 ديسمبر المقبل يتوقع أن تشهد فرض عقوبات على أنقرة.
لذا، أراد أردوغان أن يقدم السبت، ويبعث برسالة لواشنطن وبروكسل مفادها أن تركيا تهتم بالحريات وحقوق الإنسان وتحرص على رعايتهما واحترامهما، فالملفان سيكونان أساسيان على أجندة العلاقات مع أنقرة خلال المرحلة المقبلة.
نستطيع أن نستشف هذا بوضوح من مفردات خطاب أردوغان، حيث قال: “نحن نرى أنفسنا في أوروبا، وليس في أي مكان آخر، ونتصور بناء مستقبلنا مع أوروبا”، مدعيًا تيقنه من عدم فرض عقوبات على تركيا خلال قمة بروكسل بقوله: “لا نعتقد أن هناك مشكلة بيننا وبين أي دولة أو مؤسسة لا يمكن حلها من خلال السياسة والدبلوماسية والحوار، لقد أبقينا دائمًا هذه القنوات مفتوحة، وسنفعل ذلك دائمًا.”، في مغازلة واضحة للزعماء الأوروبيين قبل قمة 10 ديسمبر، وفي تناقض حاد مع تصريحات سابقة قال فيها “الاتحاد الأوروبي يسير بطريقته الخاصة، ونحن نذهب في طريقنا”.
وقد أكدت تصريحات إبراهيم كالين المتحدث باسم الرئاسة التركية التي أدلى بها في حوار تلفزيوني في أعقاب مباحثات أجراها في بروكسل مؤخرًا، الغرض الأوروبي لخطاب أردوغان، عندما قال “نحن بحاجة إلى اعتماد تغييرات، نحتاج إلى إدخال قوانين جديدة، منظور الاتحاد الأوروبي لا يزال حاسمًا، سيتم تقديم تشريعات جديدة من شأنها تعزيز الحقوق والحريات لمواطنينا”.
وفي مغازلة للإدارة الأمريكية الجديدة، قال “نرغب في استخدام علاقات التحالف الطويلة والوثيقة مع الولايات المتحدة بنشاط لحل جميع القضايا الإقليمية والعالمية”. ومع ذلك، أراد أردوغان تأكيد أن العلاقات القوية مع روسيا ستسمر في المرحلة المقبلة بقوله “لا يمكننا أبدًا تجاهل دول مثل روسيا وإيران التي تربطنا بها علاقات تاريخية عميقة الجذور”، وأضاف: “لقد أتيحت لي الفرصة لمناقشة قضايا أذربيجان وناجورنو قره باغ مع السيد بوتين. تحدثنا عن الخطوات التي يمكننا اتخاذها”.
الأولوية الأولى الآن بالنسبة لأردوغان هي انقاذ الوضع الاقتصادي المتداعي، فاستمراره يهدد فرص بقائه في السلطة ويقضي تمامًا على مشروعاته التوسعية، لكن هذا لن يتحقق في ظل علاقات خارجية مضطربة أو احتمالات فرض عقوبات أوروبية أو أمريكية تزيد من تفاقم الأزمة، لذا كان لزامًا عليه السعي تأمين علاقات هادئة مع واشنطن وبروكسل خلال الفترة المقبلة.
نلحظ هذا بوضوح في بعض الخطوات التي اتخذها للخلف، والتي لا تقتصر فقط على حديثه عن إصلاح سياسي واقتصادي، وإنما تظهر أيضًا في سحب سفينة المسح الزلزالي “عروج ريس” من المياه المتنازع عليها في شرق المتوسط. ويبدو أن أنقرة ستضطر إلى اتخاذ خطوات للخلف في عدد من الملفات خلال المرحلة المقبلة، ارتباطًا بالتحولات العالمية، وللتخفيف من حدة التوترات الجيوسياسية المحيطة.
الأفعال عكس الأقوال
على الرغم من حديث أردوغان إلا أن الممارسات القمعية وغير الدستورية تواصلت، مخلفة حالة من خيبة الأمل بأن شيئًا لن يتغير بشكل أساسي بالنسبة للحكومة التركية، وأن أردوغان ليس لديه أي نية لتحقيق الوعود التي أطلقها، ومن ذلك:
• استمرار الاعتقالات والمحاكمات السياسية: أثار حديث أردوغان عن إصلاحات سياسية توقعات بإطلاق سراح محتمل للسياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان المعتقلين، حتى أولئك الكتاب الأكثر موالاه له، أمثال جيم كوجوك وناجحان ألجي، أفردوا مقالاتهم للحديث عن ضرورة الإفراج عن السجناء السياسيين كعثمان كافالا الناشط الحقوقي البارز والمتهم بالاشتراك في محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، وصلاح الدين دميرطاش الرئيس المشارك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد القابع خلف الأسوار منذ 4 سنوات، وأحمد ألتان الكاتب البارز، لكن سرعان ما تبددت تلك الآمال، بعدما وصف أردوغان كافالا ودميرطاش بالإرهابيين، فيما رفضت المحكمة الدستورية التركية في 3 ديسمبر الاستئناف الذي قدمه ألتان ضد اعتقاله بتهمة مساعدة منظمة إرهابية.
واستمرارًا لمسلسل التضييق على الصحافة والصحفيين، حُكم على الصحفي الاستقصائي محمد بارانسو، بالسجن 17 عامًا وشهرًا، يوم 23 نوفمبر، بتهمة الكشف عن معلومات سرية في مقال كتبه عام 2013، فضلًا عن التهمة المتكررة دائمًا التي تلصقها السلطات التركية بكل من تريد التنكيل به والمتعلقة بوجود صلات له بحركة فتح الله جولن الذي يتهمه أردوغان بالتورط في انقلاب 2016 الفاشل.
ليس هذا فحسب، إذ انطلقت السلطات التركية في تنفيذ حملة اعتقالات واسعة، أسفرت عن احتجاز ما لا يقل عن 415 شخصًا من أحزاب المعارضة وهيئات المجتمع المدني، من بينهم رئيس بلدية منطقة سور التاريخية في محافظة ديار بكر، جمال أوزدمير، المنتمي لحزب الشعب الديمقراطي المعارض المؤيد للأكراد، إضافة إلى عدد من السياسيين المنتمين للحزب بمن فيهم الرئيسان الإقليميان إردال أفجي وإيليف بولوت، فضلًا عن أشخاص ينتمون لحزب “مؤتمر المجتمع الديمقراطي” المؤيد للأكراد.
وعلى صعيد المحاكمات السياسية، قررت اللجنة التنفيذية المركزية لحزب العدالة والتنمية، برئاسة أردوغان، إحالة محمد إحسان أرسلان، الذي عمل بشكل متقطع كنائب عن محافظة ديار بكر بين عامي 2002 و2011، إلى اللجنة التأديبية، على إثر تصريحات له لقناة “بي بي سي التركية” في 17 نوفمبر قال فيها إن تركيا ستنتقل قريبًا إلى النظام البرلماني، وأن حزب العدالة والتنمية رأى في عملية السلام الكردية تهديدًا لبقائه السياسي. وقد تقود تلك الخطوة إلى فصله من الحزب الحاكم.
كما فتحت هيئة الرقابة الإعلامية تحقيقًا مع نائب حزب الشعب الجمهوري المعارض عن مقاطعة مرسين الجنوبية، علي ماهر باشاريير، على خلفيه تصريحات له خلال برنامج نقاشي على محطة هابرتورك التلفزيونية، قال فيها إنه لأول مرة يتم بيع الجيش التركي لحليف، في إشارة إلى استحواذ قطر على مصنع صفائح الدبابات التركي بمدينة سكاريا، وهددت وزارة الدفاع التركية أيضًا بإجراء تحقيق في تصريحات باشاريير.
وتمتد التهم الزائفة إلى زعيم المعارض كمال كليتشدار أوغلو، إذ أعلن مكتب المدعي العام في أنقرة أنه أعد ملخصًا للإجراءات التي من شأنها أن تؤدي إلى رفع الحصانة البرلمانية عنه استعدادًا لمحاكمته بتهمة “الإشادة بجريمة”، على خلفية انتقاده سجن دميرطاش ومطالبته بالإفراج عنه. ليس هذا فحسب بل وصل الأمر إلى حد تهديده بالقتل بعد فترة وجيزة من هذا الخطاب، من قبل رجل العصابات الشهير علاء الدين جاكيجي، الذي اتهمه بالخيانة لدفاعه عن دميرطاش.
• تجاهل حقوق الأكراد: في ذات الخطاب الذي تحدث فيه أردوغان عن إصلاحات حقوقية وقضائية، أغلق الباب بشأن حقوق الأكراد على الرغم من كونها قضية جوهرية تقع في قلب أي إصلاح حقوقي مزعوم، ودافع عن إقالة رؤساء البلديات المنتخبين الموالين للأكراد من مناصبهم في الجنوب الشرقي، بقوله: “يسمون المشكلة الكردية. ما المشكلة الكردية؟ لا توجد مشكلة كردية في هذا البلد. لقد حللناها”. وفي ذات السياق، تواصلت حملات الاعتقالات بحق أشخاص تزعم الحكومة أنهم على علاقة بحزب العمال الكردستاني، إذ اعتقلت الشرطة 641 شخصًا في 42 مقاطعة خلال 48 ساعة فقط.
ولا تزال عناصر كردية معرضة لعقوبات جزافية بالسجن لأعوام طويلة بتهم ملفقة وغير حقيقية، ومن ذلك مطالبة ممثلي الادعاء الأتراك، يوم 18 نوفمبر الماضي، بالسجن ما بين 9 إلى 41 عامًا لثلاثة من النائبات الكرديات السابقات المنتميات لحزب “مؤتمر المجتمع الديمقراطي” وهن، ليلى جوفين، وسبحات تونسل، وجولتان كيشاناك، وتواجه جوفين تهمًا بإنشاء منظمة إرهابية، والانتماء إلى منظمة إرهابية، والتحريض على الاحتجاجات، وعدم إنهاء الاحتجاج عندما تطلبه الشرطة، حيث طالب المدعي العام لمحافظة ديار بكر بسجنها لمدة تصل إلى 25 عامًا، فيما تواجه تونسل وكيشاناك تهمًا تتعلق بإدارة والانتماء لمنظمة إرهابية ونشر دعاية إرهابية، وعليه طالب المدعي العام لمقاطعة ملاطية المجاورة بسجن الأولى 15 عامًا، والثانية 22 عامًا ونصف العام، مدعيًا أن حزب “مؤتمر المجتمع الديمقراطي” على صله بحزب العمال الكردستاني.
• تبعية السلطة القضائية لأردوغان: تتعلق الإصلاحات التي تحدث بشأنها الرئيس التركي في جزء كبير منها بالنظام القضائي، لكن كيف يحدث هذا في ظل خضوعه بشكل كامل للحكومة؟ فبعد محاولة الانقلاب قاد أردوغان حملة تطهير للقضاة والمدعين العامين واستبدالهم بشخصيات موالية له. ويلقي عدد من التطورات القضائية الأخيرة بشكوك مضاعفة على الآمال في تحسين نظام العدالة في الدولة، وهي تتعلق بتأجيل انتخابات كان من المقرر إجراؤها يوم 8 ديسمبر في محكمة الاستئناف العليا لاختيار عضو يحل محل العضو المنتهية ولايته برهان أوستون حتى 17 ديسمبر.
ويبدو أن سبب التأجيل هو رغبة النظام في الدفع بعرفان فيدان الذي يشغل منصب المدعي العام في إسطنبول حاليًا، والمعروف بعلاقاته الوثيقة مع أردوغان وحزب العدالة والتنمية، كما أنه أشرف على عدد من القضايا البارزة، بما في ذلك قضية عثمان كافالا. وفي حال فاز فيدان بهذا المنصب يعني أنه سيكون عضوًا في المحكمة الدستورية العليا حيث تضم في عضويتها اثنين من أعضاء محكمة الاستئناف العليا. ويعتقد جلال جيليك، محامي زعيم المعارضة الرئيسية كمال كليتشدار أوغلو، أن 8 من المرشحين سيُجبرون على الانسحاب قبل 17 ديسمبر لإفساح المجال أمام عرفان.
ومن الجدير بالذكر، أن هذه ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها النظام عن إصلاح قضائي، فقد تم الإعلان عن وثيقة استراتيجية إصلاحية عام 2009. وتكرر الأمر عام 2015، لكن دون جدوى بل استمر التراجع في العديد من الحقوق. وفي هذا الشأن، يرى جيهان أيدين رئيس نقابة المحامين في ديار بكر، أن الإصلاح الحقيقي لا يتعلق بالأنظمة والقوانين فقط، لكن لابد أن يشمل عقلية المنفذين، مشددًا على ضرورة محاسبة القضاة والمدعين العامين الذين يرفضون الامتثال لأحكام المحكمة الدستورية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ويقومون بإصدار أحكام غير قانونية، لكن دون ذلك لن يكون أي إصلاح.
• إصلاحات شكلية: وضع أردوغان خلال خطابه المشار إليه سلفًا حدودًا للإصلاح المزعوم، بحيث يجعل منه مجرد حديث للاستهلاك الإعلامي، لكنه لا يمس جوهر العملية الديمقراطية، إذ تجاهل تمامًا المطالبات المتعددة التي رفعتها المعارضة في الآونة الأخيرة ومنها العودة إلى النظام البرلماني، بعد تجربة مريرة عانت فيها تركيا على مدار عامين من التبعات السلبية للصلاحيات غير المحدودة المتركزة في يد أردوغان، وذلك في قوله “لا يزال هناك من يدافع عن النظام البرلماني. ألم تجرب هذه الدولة هذا النظام لسنوات؟ لقد قمنا بهذا الإصلاح التاريخي بما يتماشى مع آمال ومطالب أمتنا”.
ويبدو أن أردوغان سيستمر أيضًا في إبعاد أحزاب المعارضة عن المشاركة في العملية السياسية، معتبرًا أن الإصلاح لن يتم إلا في وجود حزب العدالة والتنمية، رافعًا شعار “إما أنا أو الفوضى”، وذلك بقوله “إذا خسر حزب العدالة والتنمية، ستقع تركيا في حفرة من عدم اليقين وعدم الاستقرار والنير السياسي والمالي”.
وعبّر رئيس مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، برهان الدين دوران، الموالي لأردوغان في مقال له بصحيفة “ديلي صباح” عن مدى شكلية الإصلاحات المزعومة، إذ كتب: “لا توجد عملية سلام جديدة (يقصد مع حزب العمال الكردستاني)، ولا عودة إلى البرلمانية، ولا تخفيف من إجراءات مكافحة الإرهاب، بما في ذلك إطلاق سراح المحكوم عليهم. بل ستنفذ الحكومة إصلاحات بهدف تعزيز النظام الرئاسي، بالتعاون مع شركاء حزب العدالة والتنمية تحت مظلة تحالف الشعب”. وأضاف: “لقد تشكل موقف تركيا تجاه الديمقراطية من خلال الاحتجاجات الضخمة المناهضة للحكومة (احتجاجات غيزي بارك) عام 2013، والاحتجاجات الدامية ضد الجيش التركي على خلفية هجوم تنظيم داعش الإرهابي على مدينة كوباني السورية عام 2014 ومحاولة الانقلاب عام 2016.
الخبرة التاريخية أيضًا تعطينا مؤشرات لحجم الإصلاح المزعوم، ففي العام الماضي أقر البرلمان “حزمة إصلاحات قضائية”. فماذا كانت النتيجة؟ تم الإفراج عن 90 ألف سجين من أصل 300 ألف بمن فيهم مجرمين خطرين (على سبيل المثال علاء الدين تشاكيجي)، لكن لم يطل العفو السجناء السياسيين وأولئك المحتجزين احتياطيًا بتهم ذات دوافع سياسية.
بما تخبرنا المؤشرات؟
تكشف التقارير الدولية ومؤشرات الاقتصاد حجم تدهور الأوضاع الداخلية التركية، وهو ما يتطلب إصلاحات جذرية وجدية لا يبدو أن حكومة أردوغان ستمتلك القدرة والإرادة لتنفيذها، ومن ذلك:
• مرتبة متأخرة على المؤشرات العالمية: تتذيل تركيا قائمة الدول على المؤشرات الدولية، إذ احتلت المرتبة 109 من 126 في مؤشر سيادة القانون لعام 2019 الصادر عن مشروع العدالة العالمية. فيما صنفها تقرير “فريدوم هاوس” السنوي بشأن الحريات الأساسية الصادر في مارس 2020 “دولة غير حرة”، كاشفًا أنها تراجعت 31 مركزًا خلال السنوات العشر الأخيرة لتسجل ثاني أكبر تراجع على مستوى العالم. أما مؤشر الديمقراطية الذي تصدره جامعة “غوتنبرغ” السويدية سنويًا فيضع أنقرة في المرتبة 142 من أصل 179 دولة، وأخيرًا وضع تقرير مؤشر الديمقراطية الصادر عن مجموعة “الإيكونوميست البريطانية” تركيا في المركز 110 من 167 دولة.
• تدهور الوضع الاقتصادي: ادعى أردوغان في خطابه موضوع الحديث أن تلك الإصلاحات غرضها تحقيق رؤية 2023، التي تضمن وضع تركيا ضمن أكبر 10 اقتصادات في العالم، ورفع دخل الفرد إلى 25 ألف دولار، وخفض البطالة إلى 5% ورفع التوظيف إلى 50%. لكن بنظرة سريعة عن حال الاقتصاد التركي سنكتشف حجم الفجوة بين الوضع الحالي والمأمول، بحيث يكون من الصعب تحقيقه خلال عامين فقط، فقد بلغ نصيب الفرد من الدخل في تركيا 9042 دولارًا عام 2019، هبط إلى 8934 دولارًا خلال الربع الثاني من عام الحالي متأثرًا بأزمة جائحة كورونا، كما احتلت تركيا المرتبة 19 بين أكبر اقتصادات في العالم وفقًا لإجمالي الناتج المحلي عام 2019، فيما بلغت نسبة البطالة 13.4% في أكتوبر الماضي، ونسبة بطالة الشباب 25.9%.
• الأمر ليس بيد أردوغان وحده: يجادل البعض ومن بينهم حميد بوزرسلان من كلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية بباريس، بأن قرار الإصلاح من عدمه وحدوده ليس في يد أردوغان وحده، لكن هناك شخصيات يُمكن اعتبارهم ممثلين للدولة العميقة هم المحركون الحقيقيون للسياسة التركية الداخلية والخارجية، ومن ضمنهم دولت بهتشلي زعيم حزب الحركة القومية الشريك في الائتلاف الحكومي، وعلاء الدين تشاكجي الذي يُعرف بأنه زعيم مافيا وأُفرج عنه في أبريل الماضي؛ فهما يعتبران نفسهما “ليسا فوق القانون، ولكن القانون نفسه”. وبحسب بوزرسلان، تشاكجي هو الذي يقرر مصير تركيا وسياستها الخارجية، كما أن سبب عدم منافسة بهتشلي لأردوغان على منصب الرئاسة راجع إلى رغبة الأول في عدم اختزال نفسه في أن يكون رئيسًا، فالرئاسة بالنسبة له مجرد وظيفة، لكن دوره الحقيقي في تحريك السياسة التركية أكبر من هذا بكثير.
ويتفق مع وجهة النظر تلك الكاتب ذو الفقار دوجان الذي رأى –في مقال بموقع أحوال- أن أكبر معضلة تواجه أردوغان في تنفيذ تلك الوعود هي ارتباطه بحزب الحركة القومية وزعيمه دولت بهتشلي، حيث يشير إلى أنه لا يؤيد تلك الخطوات، مستشهدًا بانتقاد أردوغان لمستشاره المستقيل بولنت أرينتش بسبب مطالباته بالإفراج عن كافالا ودميرطاش، بعد تهديدات من حزب الحركة القومية.
“ليس لديك إرادة سياسية”.. المعارضة ترد على أردوغان
لم تخل إصلاحات أردوغان المزعومة على المعارضة التركية التي أكدت أنها مجرد مناورة سياسية موجهة للخارج ولن يسفر عنها خطوات حقيقية وجوهرية، فقط مجموعة من الإجراءات الشكلية إذ حدثت، بينما سيبقى الوضع كما هو عليه. نجد ذلك في تصريحات لإنجين أوزكوتش نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري، التي تعجب فيها من المفارقة بين حديث أردوغان ووزير العدل عن إصلاح قضائي وتعزيز حكم القانون بينما هما نفسهما من خرباه وانتهكاه، متسائلًا: “كيف ستؤسسون دولة القانون لم تتمكنوا من إقامتها منذ 18 عاما في غضون أشهر قليلة؟ وهل يمكن الحديث عن أن هناك قانونًا في بلد لا يتم فيه تنفيذ قرارات المحكمة الدستورية؟
فيما شككت ميرال أكشنار، زعيمة حزب الخير القومي المعارض في قدرة أردوغان على إجراء الإصلاحات المزعومة، وأكدت أنه لا يمتلك الإرادة الكافية ولا تتمتع حكومته بالكفاءة اللازمة لتنفيذها، معتبرة أنها مجرد محاولة جديدة لتثبيت بقاؤه في السلطة وخداع الشعب تحت مسمى الإصلاحات.
حتى حلفاء أردوغان القدامى لا يثقون به، فلا يعتقد إرغون أوزبودون، عضو المجلس الاستشاري لحزب المستقبل الذي أسسه رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، أن الحكومة التركية صادقة بشأن إجراء إصلاح قضائي؛ فهذا يعني تراجع حزب العدالة والتنمية الحاكم عن سياسات اتبعها على مدار سنوات، متوقعًا أن يقتصر الأمر على إطلاق صراح رمزي لمجموعة صغيرة من السجناء غير المؤثرين. ورأى أن حديث أردوغان ما هو إلا محاولة أخيرة لجذب المستثمرين الأجانب في ظل حالة الانهيار الاقتصادي الحالية.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية