آسيا

“التردد بين الاندماج وعدم الانحياز”.. كيف تنظر الهند للتحولات الإقليمية والدولية الأخيرة؟

خلال هذا العام، روج رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ووزير خارجيته لتعدد الشراكات الخارجية للهند كمقياس لاستقلاليتها الاستراتيجية. كان ذلك خلال “حوار رايسينا” الذي يناقش قضايا السياسة الدولية، وفرص التعاون والاندماج في الشأن الآسيوي، ويعد تعبيرًا منها عن سعيها للمساهمة في الجهود العالمية لتوفير حلول تمهد لخلق الاستقرار والفرص. يفتح هذا الأمر مجالا للتساؤلات عن طبيعة التفاعل الهندي مع التحولات الإقليمية والدولية، وهل هي تعبّر فعلا عن شراكات متعددة أم غير ذلك؟

الانسحاب من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP

عُقدت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP بين دول “رابطة الآسيان” بالإضافة للصين وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا ونيوزلندا، مما جعله أكبر تكتل تجاري في العالم يشكل حوالي ثلث الاقتصاد العالمي. لكن انسحبت الهند من المفاوضات الخاصة بهذه الاتفاقية رغم ما قاله الخبراء بأن تجربة الهند مع اتفاقيات التجارة الحرة ساهمت في زيادة صادراتها، وزيادة قيمتها في سلاسل التوريد العالمية وجذب الاستثمار الأجنبي.

اتبعت الهند سياسات حمائية تركز على التصنيع عبر مبادرة “صنع في الهند”، والرغبة في الاعتماد على الذات. من جانب آخر، كان هناك عجز تجاري بين الهند والدول الأعضاء في هذه الاتفاقية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية. كما أن الصين عضو كبير في هذه الاتفاقية ويدور بينهما العديد من الخلافات الاقتصادية والحدودية، وترى الهند أن انضمامها للاتفاقية سيضعها في موقف غير عادل.

كذلك، لا تثق الأحزاب الكبرى في الهند بالسوق الحرة، بالإضافة إلى أن سرعة إلغاء الحواجز الجمركية سيكون مكلّفًا للهند، كما أن هناك ضغطا من المزارعين الذين يرون أن إدخال المنتجات الزراعية الأجنبية سيؤدي إلى القضاء على المزارع الصغيرة التي تملكها العائلات.

من الميزات النسبية للهند والتي قد تساعدها إذا ما انضمت للاتفاقية هو مسألة تحرير قطاع الخدمات الذي لم تقدم الدول المشاركة في الاتفاقية تنازلات كبيرة، وهو ما سيصب في مصلحة الهند. كما أن انضمامها للاتفاقية قد يوفر لها الفرصة كي تساهم في وضع معايير التجارة الإلكترونية على سبيل المثال.

تذهب التحليلات إلى أن الهند تريد التحول باتفاقيات التجارة الحرة من آسيا للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكن هذا الأمر ليس بالسهولة المتوقعة لأن هناك معايير أعلى بكثير من تلك الموجودة على المستوى الآسيوي، أو حتى الانضمام إلى الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ CPTPP.

الموقف الهندي من مبادرة “الحزام والطريق”

تخشى الهند من تزايد عجز الميزان التجاري لصالح الصين، خاصة على المستوى التكنولوجي الذي يتنافس فيه البلدان. يضاف إلى ذلك، تشعر الهند أن الصين تحيط بها عبر سياسة الموانئ بما يفرض على نيودلهي تحديات أمنية، وتعتبر أن الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان يتضمن مواقع من إقليم كشمير التي تسيطر عليها باكستان في الإقليم وتتنازع عليه مع الهند، وسيساهم هذا الممر في خلق واقع سياسي واقتصادي ترفضه الهند.

تتعدد الاتجاهات الهندية الخاصة برؤية مبادرة الحزام والطريق، فيرى الفريق المؤيد لها أنه من الحكمة الانضمام للمبادرة لأنها فرصة لاستكشاف قدرات الهند، وفي نفس الوقت الحصول على فوائد اقتصادية كبيرة على المدى الطويل، ينطلق هذا الاتجاه من أن الهند لن يمكنها التغلب على الصين.

أما الاتجاه الثاني، فهو يتشكك في المبادرة ويعتبرها محاولة صينية للهيمنة على منطقة المحيط الهندي، ووسيلة للتعبير عن طموح الصين كقائد اقتصادي. ويتبع الاتجاه الثالث نبرة تحذيرية مفادها أنه لا مانع من الدخول في المبادرة لكسب مزايا اقتصادية، لكن هذا لا ينفي توجه الهند لإقامة شراكات اقتصادية مع دول أخرى للتحوط من الصعود الصيني.

التخوف من كسر مبدأ عدم الانحياز

مثلما امتلكت الهند تحفظات حول مبادرة الحزام والطريق، فقد حدث نفس الأمر فيما يخص الدخول في النزاع التجاري الأمريكي الصيني، والتي تم اعتبارها التزامًا من الهند بمبدأ عدم الانحياز. لكن من ناحية أخرى فُرض عليها اتباع بعض المرونة نظرًا لطول الحدود التي تملكها مع الصين، التي باتت مؤخرًا محل مواجهة بينهما، وبات أكثر الأسباب الدافعة لإضعاف التزام الهند بعدم الانحياز. ترى الهند أن الصين تهدد الملاحة في بحر الصين الجنوبي، وتحمي الإرهابيين الباكستانيين من عقوبات الأمم المتحدة، والتخوف من الانتقام في حالة توثيق العلاقات مع تايوان.  

كانت الهند تخشى من كسر مبدأ عدم الانحياز والانجرار إلى صراعات الدول الأخرى، لكن أدى التهديد الحدودي الذي فرضته الصين في ستينيات القرن الماضي، ثم حربها مع باكستان للتراجع عن هذا المبدأ. البعض يرى أن انخراط الهند في اتفاقيات دفاعية مع الولايات المتحدة يفقدها تقاليدها الخاصة بالحكم الذاتي، ويؤدي تدريجيًا إلى أن تزايد ضعف الهند تجاه الولايات المتحدة في مجالات الدفاع والأمن القومي. ويرى البعض الآخر أن هذا ليست تقييدًا للاستقلال الهندي بل تعزيزًا له، وأشار رئيس الوزراء الهندي إلى أن الولايات المتحدة “حليف طبيعي” يمتلكان سويًا وجهات نظر متقاربة بشأن بعض القضايا الإقليمية في السنوات الأخيرة بجانب الاتفاقيات الاستراتيجية وصفقات التسليح. وتعتبر الولايات المتحدة أن التحالف لا يستهدف تغيير تقاليد الهند، بل محاولة استكشاف كيفية تمكينها من الدفاع عن سيادتها وديمقراطيتها.

رأس حربة أمريكية في مواجهة الصين

ارتباطًا بذلك، يمكن ذكر لقطات عن العلاقات الهندية الأمريكية مؤخرًا وما وراءها من أهداف. حين انسحبت الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني والبدء في فرض عقوبات على إيران، أبدت الهند قلقها على وارداتها النفطية من الدولة التي تعد ثالث مورد لها بعد العراق والسعودية، وظهرت تقارير بأن نيودلهي تدرس تخفيض وارداتها من طهران بمقدار النصف لضمان الحصول على استثناء أمريكي لمواصلة تعاملها مع إيران.

على مدار سنوات، تنظر الولايات المتحدة للهند على أنها شريك عسكري قوي، وبناءً على ذلك تعمل على توطيد علاقتها بها في ملفات على رأسها التصنيع العسكري، إذ تم إطلاق برنامج أمريكي هندي مشترك للأبحاث والتكنولوجيا العسكرية، وذلك خلال إدارة أوباما. لكن لا تزال هناك تخوفات هندية على المكون الروسي في شبكة التسليح الهندي على أن يتم إحلاله ومن ثم إفساد علاقتها القوية بموسكو، أو تطبيق قانون “كاتسا” التي يقضي بتطبيق عقوبات على من تعتبرهم الولايات المتحدة أعداء لأنهم يستوردون أسلحة من روسيا.

استمرارًا لذلك، سعى ترامب خلال فترة رئاسته الماضية لمحاولة استغلال الهند وبناء شراكة استراتيجية معها من منطلق أمني يستهدف أن تصبح نيودلهي نقطة انطلاق سياسة الاحتواء الأمريكية للصين، وموازنة نفوذها على الساحة الآسيوية. بدأ الأمر بالاشتراك في مناورات عسكرية كان آخرها مناورات مالابار، بجانب التعاون الأمني والعسكري الذي كان آخر أشكاله توقيع الاتفاقيات التأسيسية الأربع التي تقيمها الولايات المتحدة مع شركائها الدفاعيين، التي تشمل تأمين الاتصالات العسكرية وتبادل البيانات الجغرافية وتوفير الوصول المتبادل للمرافق العسكرية. فقد أكد تقرير وزارة الدفاع الأمريكية عام 2019 بخصوص منطقة المحيط الهندي- الهادئ، أن الهند ضمن أهم الشراكات المطلوب تقويتها، وكذلك اليابان وأستراليا لمواجهة الصين.

على الرغم من وجود إرهاصات لشراكة البلدين وتدشين رؤية استراتيجية مشتركة حول منطقة المحيط الهندي- الهادي، لكن في ذلك الحين، كانت هناك اختلافات في وجهة نظر كل منهما حول هذه الشراكة. فقد أكدت الهند على أنها لا تستهدف من دولة بعينها من هذه الشراكة، لكن الولايات المتحدة تعتبر أنها نقطة انطلاق لاحتواء الصين.

يؤكد وجهة النظر الهندية ما يراه خبراء في الداخل بأن الهند لن تستطيع الاستمرار في الضغط على الصين، لأن الدخول في نزاع عسكري معها سيستمر لسنوات، بجانب أن خبرة المواجهة السابقة لم تكن في صالح الهند. وهذا ما يدفع الهند لعدم الاندماج الكامل في الاستراتيجية الأمريكية حتى لا يتم إغلاق كل أبواب التفاهمات المستقبلية مع الصين خاصة إذا تم النظر للملفات محل الالتقاء بينهما مثل الموقف من مواجهة الإرهاب في وسط آسيا حيث تنظيم خراسان، ومسألة تقليل المواجهة مع إيران.

أزمة سلاسل التوريد العالمية

في هذا الإطار، يُطرح تساؤل عما إذا الهند قادرة على الدخول في سلاسل التوريد العالمية إذا كانت بعيدة عن الشراكات الاقتصادية الجديدة المحيطة بها التي قد تساهم في تنويع سلاسل التوريد التي شكلت فيها الصين 28% عام 2018 وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة. وقد مثّلت أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) فرصة للهند للحصول على الكثير من الفوائد كوجهة تصنيع قابلة للاستمرار بعد الإغلاق الذي تسبب في صدمة قوية للشركات الكبرى، وأدت لتصفية العديد من الأصول الأجنبية في بكين. كما أن استمرار المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة والصين قد تجعل الهند أمام فرصة لتطوير صناعتها وإنشاء سلسلة توريد قوية يمكن أن تحل محل الصين.

يُمثّل هذا فرصة للهند التي تمتلك القدرة على الارتقاء في سلاسل التوريد العالمية نظرًا لما تمتلكه من تركيبة سكانية جيدة للاستهلاك، وتوجهات كبيرة لريادة الأعمال ساهمت في خلق العديد من الشركات، وتتميز عن العديد من الدول الآسيوية بتدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة. بجانب أنها أقامت العديد من المبادرات لتعزيز الموارد البشرية الماهرة لخلق فرص عمل لملايين الهنود، فهي تمتلك خبرات واسعة في مجال تكنولوجيا المعلومات والناطقين بالإنجليزية.

على الرغم من هذه المميزات، هناك مجموعة من المعوقات أمام الهند كي تصبح بديلًا للصين في سلاسل التوريد العالمية، منها القيود المفروضة على النقد ورأس المال بسبب الوباء. كما أنها انسحبت من اتفاقية الشراكة الاقتصادية RCEP مما يصعّب على المصدّرين الحصول على إعفاءات جمركية. كذلك، فقد نقلت العديد من الشركات متعددة الجنسيات بنقل إنتاجها من الصين قبل الحرب التجارية، إلى دول مثل فيتنام وبنجلاديش وكوريا الجنوبية وتايوان. التعديل المستمر لقواعد الاستثمار الأجنبي المباشر، بجانب تكامل البنية التحتية الصينية من حيث الطرق والموانئ والعمالة الماهرة والخدمات اللوجستية، التي تعد بمثابة نقاط محورية لدى الشركات الكبرى.

بمعنى آخر، تحتاج الهند لخلق بيئة مواتية للتصنيع العالمي كي تنظر لها الشركات الكبرى والمنظمات الدولية كشريك موثوق به للتوريد يحمي الملكية الفكرية ويتيح سهولة ممارسة الأعمال التجارية، وإقامة بنية تحتية على مستوى عالمي، وتقديم خدمات لوجستية.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

فردوس عبد الباقي

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى