
العنف في بلاد رجل السلام.. استمرار العمليات العسكرية في التيجراي وتفكك الفيدرالية الإثيوبية
لم يكن من المفاجئ الهجمات العسكرية الأخيرة التي شنتها الحكومة الفيدرالية الإثيوبية على إقليم التيجراي، وذلك عقب سلسلة من التصريحات المتبادلة بين قادة الإقليم والحكومة الفيدرالية والاستعراضات العسكرية بين الطرفين، والتصريحات الرسمية حول سماح الدستور الإثيوبي باستخدام العنف لكل من يشكل خطرًا على النظام الدستوري، وهي التصريحات التي سبق ونفاها آبي قائلًا “إنه لن يكون هناك استخدام للقوة”، وذلك عقب تحدي حكومة إقليم التيجراي للحكومة الفيدرالية بإجراء الانتخابات داخل الإقليم بالرغم من تأجيلها أكثر من مرة من الحكومة الفيدرالية وآخرها لمدة عام، مما اعتبرها البعض تمديدًا لحكم آبي احمد، الذي خسر شعبيته عقب اتخاذ اجراءات قمعية عملت على تقييد المعارضة من أجل إبراز فكرته الوحدوية التي تتنافى وطبيعة الدولة الإثنية الإثيوبية.
وحتى مع تراجع حكومة آبي بالإعلان عن إجراء الانتخابات ولكن دون تحديد موعد كان اقليم التيجراي قد أعلن عن نتائج الانتخابات بالإقليم ورفض إجراء انتخابات أخرى، ودعا آبي إلى تقبل الأمر وإجراء الانتخابات على مستوى الأقاليم والاعتراف بالحكومة المنتخبة، والدعوة لحكومة فيدرالية انتقالية تقود البلاد حتى موعد الانتخابات.
ولكن كعادة التصريحات الرسمية الإثيوبية فإنها دائمة المراوغة وتتسم بعدم المصداقية فقد أدى التراشق بالتصريحات وعدم الثقة في وعود الحكومة الفيدرالية التي عادةً ما تعدلها بتصديق من البرلمان الإثيوبي إلى تفاقم الأمر الذي أدى لإنزلاق الدولة الإثيوبية نحو مزيد من عدم الاستقرار للحد الذي وصفه البعض بالوصول للحرب الاهلية.
إلا أن آبي أحمد استمر في النفي واتخذ اجراءات لتغيير قيادات الجيش واعتقال العديد من أبناء الإقليم، وتصديق البرلمان على قرارات تشكيل الحكومة الانتقالية بإقليم التيجراي وتجريد حاكم الاقليم ديبرتصيون جبرميكائيل الفائز في الانتخابات المحلية من حصانته وتعيين حاكم جديد بمعرفة الحكومة الفيدرالية، مما يضعنا أمام سيناريو نزوح العديد من الإثيوبين وسط تحذيرات من الأمم المتحدة، وتخوف الدول الأوروبية مما تؤول له الأوضاع مما سيهدد مصالحهم، إلى جانب المشاكل الحدودية التي ستعاني منها دول الجوار وخاصة إريتريا المتنازعة مع إقليم التيجراي على قرية “بادمي”، والسودان في الحدود الغربية، وتزايد أعمال العنف الداخلي، ولن ننسى قومية الأورومو القومية الاكبر في الدولة الإثيوبية، والتي تمتلك جماعات ضغط دولية فيوجد اكثر من مليوني ونصف من الشتات الإثيوبي في الخارج، وأكثرهم يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.
التصعيد العسكري بين قرار البرلمان وخطة آبي أحمد لتفريغ قومية التيجراي من سلطاتها
عناوين كثيرة متصارعة حول الأوضاع في إقليم التيجراي، وسط تصريحات رسمية متبادلة بين رئيس الوزراء الحاصل على جائزة نوبل للسلام آبي احمد، وحاكم ولاية التيجراي ديبراتصيون جبرميكائيل، وذلك في أعقاب إعلان آبي أحمد عن شن حملة عسكرية تحت مظلة ما أسماه “إنقاذ البلاد” مدعيًا قيام جبهة تحرير شعب تيجراي بمهاجمة الحكومة الفيدرالية في المنطقة، والتى دخلت الإقليم عقب تصديق البرلمان على قرار إعادة الانتخابات به وعدم الإعتراف بالحكومة المحلية المنتخبة، بينما اتهم رئيس الإقليم الحكومة الفيدرالية بمحاولة غزو الإقليم.
وعقب الحملة العسكرية وتعهد آبي بشن غارات جوية على الإقليم يوم الجمعة 6 نوفمبر ودافع عن قراره بضراوة لإطلاق عملية عسكرية محدودة لاستعادة النظام ومواصلة الطائرات الإثيوبية قصف الإقليم، والتعهد بشن المزيد من الضربات الجوية في الصراع الآخذ في التصاعد على الحدود مع الأمهرة، وورود تقارير عن سيطرة قوات الإقليم على مواقع عسكرية اتحادية مهمة وأسلحة.
صوت نواب البرلمان الإثيوبي يوم السبت 7 نوفمبر على حل الحكومة المحلية الحالية في إقليم تيجراي، وتعيين حكومة تصريف أعمال لدحض نتائج الانتخابات المحلية التى وضعت حكومة آبي في حرج نتيجة استطاعة قادة الإقليم من إجراء الانتخابات في ظل أزمة كورونا والتي تمت في 9 سبتمبر 2020، وتم حسمها لصالح “جبهة تحرير التيجراي بنسبة 98.5 ٪ ، وبلغت نسبة المشاركة 97٪ وفقًا للجنة الانتخابية في تيجراي، والتي تأسست قبل ثلاثة أشهر بعد أن قررت الحكومة الفيدرالية تأجيل الانتخابات الوطنية لفترة غير محددة من الوقت بسبب فيروس كورونا وصدق عليها البرلمان وأعلنها المجلس الوطني للانتخابات. واعتبرت الحكومة الفيدرالية أن وجود حكومة انتقالية في الإقليم ستمنحها صلاحية تطبيق القرارات الفيدرالية التي تتخذها للسيطرة على الأقلية الأكثر تأثيرًا في إثيوبيا.
ويرجع تفاقم الوضع في الإقليم واضطهاد آبي لقومية التيجراي، نتيجة سيطرة التيجراي الأقلية الأكثر تأثيرًا على المناصب العليا في الدولة والتي كانت مسيطرة على الحكم في البلاد منذ تولي ميليس زيناوي الحكم واستمرت سيطرتها حتى وصول آبي أحمد لسدة الحكم في أبريل 2018، والذي انتهج سياسة”تجريد التيجراي من قوتها تدريجيًا” وهو ما ظهر بوضوح في إقالة العديد من أصحاب المناصب العليا في الجيش الإثيوبي.
وأعلن رئيس الوزراء الإثيوبي عن حزمة تغييرات شملت قادة أركان الجيش والأمن والمخابرات، فقد قام بتعيين “سيري مكونن” واللي تم اغتياله فيما بعد في محاولة الانقلاب الفاشل خلفًا لرئيس أركان الجيش الجنرال “سامورا يونس” الذي أحاله للتقاعد، والذي بدوره لعب دورًا منذ فجر الثورة الأولى لجبهة تحرير شعب تيجراي التي بدأت نضالها ضد الحكم العسكري في منتصف الستينيات من القرن الماضي.
كما تمت إقالة ”جيتاتشوا أسفا” مدير عام الأمن والمخابرات والمنحدر من قومية تيجراي، وتعيين الجنرال “آدم محمد” خلفًا له، وهو ما قابله محاولة للوقوف ضد محاولات آبي أحمد الاستئثار بالحكم، فتم اتهام الجبهة في محاولة التفجير الذي استهدف أبي أحمد في أديس أبابا في يونيو 2018.
وانسحبت جبهة تحرير التيجراي من الائتلاف الحاكم “الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا”. عقب إعلان رئيس الوزراء آبي أحمد عن تدشين حزب “الازدهار” الموحد في ديسمبر 2019؛ ليخدم الترويج لفكرته “ميديمير أو التآزر” في محاولة لإيجاد نوع من التأييد العالمي، ولكن الدولة الإثنية الفيدرالية القائمة على الحكم الفيدرالي ومركزية السلطة، اعتبرت الأمر غير دستوري لأنه قد تم انتخاب الائتلاف للوصول إلى السلطة وليس الحزب، كما تم وصفه بأنه يختلف مع الطبيعة الإثنية القائم عليها الفيدرالية الإثيوبية.
ورأت جبهة تحرير شعب تيجراي أن آبي أحمد يحاول الانفراد بالسلطة، والإطاحة بها من المشهد السياسي، فدعت لضرورة قيام حوار وطني يجمع كافة المعارضة قبل إجراء الانتخابات.
وربما لم تكن هذه السياسات التي انتهجها آبي أحمد لتقييد وضع التيجراي في البلاد كافية، بل أثبتت نتائج الحملة العسكرية التي يشنها حاليًا عدم قدرته على السيطرة على أرض الواقع في الإقليم، وأنه لم يستطيع السيطرة على نفوذ قومية التيجراي بالإطاحات السابقة؛ فقام بالإطاحة برئيس أركان القوات المسلحة الإثيوبية اللواء آدم محمد ونائب المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني ديميلاش جبريمائيل والمفوض العام للشرطة الاتحادية إنديشو تاسيو، كما أبعد رئيس الوزراء الإثيوبي وزير الخارجية جيدو أندارجاتشو، وعينه مستشارا للأمن القومي لدى رئيس الوزراء.
كما أجرى رئيس الوزراء الإثيوبي مجموعة من التعيينات بعدد من المناصب الأمنية أبرزها تعيين الجنرال برهانو جولا رئيسا لأركان القوات المسلحة، و تعيين ديميكي ميكونين نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، والفريق أباباو تاديسي نائبًا لرئيس أركان القوات المسلحة، وأتو تمسجين تيرونه مديرًا عامًا لجهاز الإغاثة والأمن الوطني، وتعيين ديميلاش جي مايكل مفوضا للشرطة الفيدرالية، هذا إلى جانب مزيد من الاعتقالات فقد نقلت وكالة رويترز اعتقال السلطات الإثيوبية 17 ضابطًا بتهمة التواطؤ مع سلطات إقليم التيجراي وقطع الاتصالات عن قادة الجيش، وانشقاق العديد من الجيش النظامي والانضمام للقوات الشعبية.
وفي الوقت الذي اتهمت الحكومة الفيدرالية الجبهة بقطع الاتصالات، قطعت الحكومة اتصالات الهاتف والإنترنت في المنطقة وحثت المدنيين في المنطقة الشمالية بتفادي التجمع في أماكن مفتوحة.
نتائج الحملة العسكرية الفيدرالية وسيناريو تصاعد العنف في الإقليم
ملف الوساطة واحتمال الانزلاق في حرب أهلية: ففي الوقت الذي دعا فيه ديبرتصيون الاتحاد الإفريقي للتدخل لمنع انزلاق الدولة الإثيوبية في حرب أهلية، عقب تصريحاته “بالاستعداد للشهادة”، وفي ظل القوى العسكرية التي يتمتع بها الإقليم والخبرة القتالية وامتلاك المقاتلين، بدد آبي أحمد المخاوف الدولية مدافعًا عن قراره، مشيرًا إلى أن تلك المخاوف لا أساس لها من الصحة ونتاج عدم فهم للوضع السائد، وهي الوساطة التي عجزت مسبقًا عن الحل عندما لجأ إليها آبي لردع التيجراي عن إجراء الانتخابات.
تهديد دول الجوار: بدايةً من تهديد السلام مع إريتريا، والذي ظهر في توارد الأنباء حول اجتماع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي مع قادة الجيش للاستعداد بأن إريتريا لا يوجد لديها بديل من التعاون مع إثيوبيا لمواجهة الصراع الدائر وهوما نفته الحكومة الإريترية، مما يظهر مخاوف من انتقال الصراع لإريتريا، وفي ظل اتهام حكومة إقليم تيجراي للرئيس الاريتري بالتعاون مع آبي أحمد ضد قادة الإقليم على خلفية الصراع الحدودي القديم بين قومية التيجراي والتي ترفض تسليم قرية “بادمي” المتنازع عليها، مما أعاد للسطح مصطلح “إقليم تيجراي الكبرى”، والذي سعت إليه التيجراي من خلال التعاون مع المعارضة الإريترية اللذان قاما بزيارات متبادلة مسبقًا. وهو الأمر الذي قد يؤدي لاحتمال انتقال عدوى الحرب الأهلية إلى دول الجوار. هذا إلى جانب استقبال السودان لآلاف من النازحين من النزاع في إثيوبيا.
امتداد الصراع للأقاليم الداخلية: فقد تظهر الأزمة الإثيوبية بأنها صراع على السلطة بين التيجراي وآبي احمد، يتجلى في رغبة انفصالية لإقليم التيجراي واحتفاظ آبي أحمد بالسلطة؛ إلا أن هناك دعوات داخلية تؤجج عدم الاستقرار والدولة الوحدوية كما يهدف آبي. فهناك تهديد في ولاية ولايتا الجنوبية بالانفصال، وبالرغم من المظاهرات السلمية إلا أنها عانت من التدخلات الأمنية.
وعلى النقيض هناك اتجاه لتكوين الإقليم الـ 11 بعد موافقة المجلس الفيدرالي الإثيوبي على طلب 6 قوميات بإقليم منطقة شعوب جنوب إثيوبيا بإجراء استفتاء من قبل المجلس الوطني للانتخابات للحصول على الحكم الذاتي في إقليم خاص بها تحت مسمى “شعوب غرب إثيوبيا”.
واستمرار تأجيج الاحتجاجات في قومية الأورمو على خلفية مقتل المطرب هاشالو هونديسا وحملة الاعتقالات ضد قادة المعارضة في الإقليم، هذا إلى جانب الصراع بين قومية العفر ومسلحين من إقليم أوجادين الصومالي والتي اسفرت عن مقتل 27ما يزيد عن 100 شخص خلال صراع عرقي على مدار عامين، ومحاولة قبائل العيساوية الانفصال عن الإقليم الصومالي، وفي الغرب وبجانب هجمات قومية الشفتة على إقليم الشفقة السوداني، والهجمات العسكرية وخاصة في مواسم الحصاد، جاء تعرض إقليم بني شنقول “السوداني الأصل” للضربات والهجمات المتكررة على الإقليم.
تزايد أعداد النازحين: يعانى الداخل الإثيوبي من النزوح بحثًا عن الموارد نتيجة تهديدات الفيضانات والجراد الذي تشهده البلاد مؤخرًا، إلا أن النزاع العسكري الحالي قد زاد من مخاوف الأمم المتحدة التي صرحت بأن 9 ملايين مواطن إثيوبي مهددون بالنزوح عن بيوتهم، وحرمان مليون و600 ألف شخص من إقليم التيجراي من المساعدات جراء إعلان حالة الطوارئ، وتزايد الصراع على حدود الإقليم وأمهرة. وكان السودان أكثر الدول معاناة مما دفعه للإعلان عن غلق الحدود مع إثيوبيا، نتيجة هروب الآلاف من الإثيوبين إلى السودان، والذي استقبل ما يزيد عن ١١ الاف من الإثيوبيين الفارين من النزاع معظمهم من الأطفال والنساء، إلى جانب الخلافات الحدودية مع جماعة الشفتة.
تهديد الاستثمار: قد يؤدي النزاع الداخلي إلى تعميق مخاوف المستثمرين من تعطل التحول الديمقراطي في البلاد، والذي يصاحبه نزاعات عرقية، خاصة في ظل ما تهدف إليه الدولة من الشراكة مع القطاع الخاص وخصخصة القطاعات وخاصة الاتصالات، ورأت “فايننشال تايمز” أن المستثمرين الأجانب سيتخذوا من نهج الانتظار والترقب سبيلًا لهم باعتبار الاستثمار في إثيوبيا عالي الخطورة، وذلك عقب الانفتاح الاقتصادي “الموجه” الذي انتهجته إثيوبيا.
وهو ما يضعنا أمام سيناريو الانزلاق لأزمات متشعبة داخل الدولة الإثيوبية، يجرها لمزيد من عدم الاستقرار في ظل تمسك المعارضة من التيجراي بعدم عقد مباحثات سلام في ظل حكم آبي أحمد، ورفض الأخير المطالبات الدولية بوقف القتال حتى يستسلم كافة قيادات الإقليم وتسليم الاسلحة، وبالتالي فإن تدخل الاتحاد الأفريقي من جانب قومية التيجراي أو الحكومة الفدرالية، لن يكون فاعلًا بالقدر الكافي نتيجة تورط حكومة آبي.
مما يعيدنا لمشهد المطالبة بحكومة انتقالية من كافة القوى المسيطرة للدولة الإثيوبية للجلوس على مائدة المفاوضات من أجل التوصل لما أسموه “تداول سلمي للسلطة” في ظل فقد الثقة في حكومة آبي أحمد التي شنت حملات اعتقال للمعارضة، وبالتالي التخوف من الوصول لمسار ديمقراطي في ظل التشبث بشعار دولة موحدة وأفعال تزيد من التشرذم، واحتمال التدخل الخارجي في ظل الحفاظ على مصالح الدول الكبرى في البحر الأحمر ودول القرن الإفريقي والتي لم تحقق نجاحًا في مطالباتها.
فقد دعا بعض أعضاء الكونجرس إلى التوقيع على وثيقة للمطالبة بضرورة الانتقال السلمي للسلطة، وفي ظل وجود الشتات الإثيوبي الأكبر في العالم والذي يمثل جماعة ضغط على التحركات الإثيوبية بالداخل حيث يمثل نحو 2,5 مليون إثيوبي ويتركز الغالب الأعظم في الولايات المتحدة، وقادت قومية الأورومو مظاهرات عدة في كافة أنحاء العالم ضد حكومة آبي أحمد، وقد يضعنا أمام سيناريو عقوبات دولية في حال الاستمرار في نهج العنف واستخدام الأسلحة الثقيلة.
باحثة بالمرصد المصري