مقالات رأي

جلال نصار يكتب: العلاقات المصرية الأمريكية.. خيارات بايدن بين رؤية المؤسسات وضغوط المستشارين

كثر اللغط والجدل حول مصير العلاقات المصرية الأمريكية حال فوز المرشح عن الحزب الديموقراطي جو بايدن وصلت بالبعض إلى تصور سيناريوهات تصادمية والبعض منها كان متحفظا ويدعو للتمهل في الحكم على فترة حكم بايدن، في حين يرى البعض الآخر أنه لا فرق بين بايدن وترامب أو بين الجمهوريين والديموقراطيين إلا في بعض التكتيكات والسياسات..

والحقيقة أن الأمر أكثر تعقيدا من اختصاره في فقرة أو جملة عبارات إنشائية تصب في صالح هذا التيار أو ذاك، وأن هناك أمور واقعية وتاريخية وملابسات أحاطت بالعلاقة ومرت بها وهناك تجارب قريبة وبعيدة تؤكد أن هناك فروق واضحة تؤثر على طبيعة العلاقة وتطورها والصراع بين ما تراه المؤسسات وما يحاول أن يدفع به دائرة المقربين من الرئيس ومستشاريه فضلا عن شخصية الرئيس وقناعاته ومدى معرفته بملف العلاقات.

فعليا تخضع العلاقات المصرية الأمريكية لرؤية المؤسسات في البلدين التي تكونت بناء على مجموعة من القناعات وطبيعة المصالح المتبادلة وإدراك أهمية الدور، إضافة إلى تعدد الرؤى المؤسسية التي تحكم تلك العلاقة ما بين وزارة الخارجية والبنتاجون وأجهزة المخابرات، ولكن يظل الدور الأكبر للقيادة المركزية الأمريكية ووزير الدفاع الأمريكي وتأتى في المرتبة الثانية أجهزة المخابرات فى البلدين ثم العلاقات السياسية والتجارية في المرتبة الثالثة؛ حيث يعتبر التواصل الدائم والمباشر بين البنتاجون والقيادة المركزية الأمريكية مع الإدارة المصرية هو ترمومتر قياس قدرة العلاقة على تجاوز أى عقبات واختلافات في وجهات النظر والسياسات؛ وقد تشكلت تلك العلاقة والدور نظرا لطبيعة منطقة الشرق الأوسط وما شهدته وتشهده من صراعات وحروب مستمرة حتى الآن والدور القيادي لمصر على مدار العقود الماضية في مقابل الاهتمام الأمريكي ونظرتها للمنطقة ورعايتها لبعض الحلفاء الذين دخلوا في صدام عسكري مع مصر، إضافة إلى وجود البترول ومصادر الطاقة وتأمين الملاحة والحركة في المضايق والممرات المائية وتأمين الدعم اللوجيستي للقوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة برا وبحرا إضافة لأهمية المنطقة في معادلة الصراع مع الدول الكبرى الفاعلة وفى مقدمتها الاتحاد السوفيتي ووريثته روسيا الاتحادية ثم الصين وعدد من القوى الغربية. أضف إلى هذا التنسيق الأمني بين أجهزة المخابرات والمعلومات في ملف مكافحة الإرهاب والدور الذى تلعبه مصر فى المواجهة المباشرة.

إذا الأمر يخضع بالنسبة للأمريكيين لرؤية استراتيجية عسكرية أمنية ولا يمكن تجاوز القيادات المسئولة عن تلك العلاقات في الضغط أو فرض سياسات إلا بعد الرجوع لها والتأكد من عدم الإضرار بجوهر العلاقة، وهذا الأمر ثابت ولا يخضع للتغيير مع تناوب الرؤساء والأحزاب على الحكم في البيت الأبيض والكونجرس وهذا ما دعم وجهة نظر البعض أن تغير الرئيس غير مؤثر وأن هناك مؤسسات تدير الملف.

ولكن ما حدث من إدارة اوباما تحديدا جعل البعض يؤكد على أن هذا الأمر يخضع لمجموعة من المتغيرات وفقا لشخصية الرئيس وقناعاته؛ ولكن الواقع يشير إلى أنه كان هناك تيار ضاغط من قبل دائرة قريبة من أذن اوباما وقريبة من قناعاته في دوائر الإدارة معظمهم من الشباب الذى تشبه أفكاره كثيرا أفكار الشباب حول العالم عن مفهوم الثورة والديموقراطية وتمكين الشباب وحتمية التغيير، وأنه لا مانع من بعض الفوضى التي تدعم أى تغيير، وكانوا على تواصل دائم من خلال العالم الافتراضي والسوشيال ميديا مع مجموعات شبابية وحركات حول العالم تتبادل معهم الأفكار والتوجهات وتقدم لهم الدعم وتسعى جاهدة لإحاطة اوباما ووزيرة خارجيته وبعض مراكز صنع القرار بحتمية التغيير والتخلي عن كل الأنظمة فى منطقة الشرق الأوسط التي كانت تصفها “بالديكتاتورية”، وترى أنها تقمع الحريات والقوى السياسية والجماعات، وكانت ترى أن تيار الإسلام السياسي وجماعة الأخوان المسلمين وكوادره الشابة قادرة على إحداث هذا التغيير، وهذا يفسر لنا عدد كبير من المشاهد والمواقف والقرارات والضغوط والصدامات التي تم احتواؤها على مستوى القنوات المؤسسية لاحقا ولكنها كانت مؤثرة في بداية الصدام الى خضع لاحقا لقواعد المنطق التي تحكم العلاقة.

ولكن هناك من يرى أيضا أن ما حدث يعكس رؤية مؤسسات وليس فقط بسبب رؤية هؤلاء الشباب والنشطاء داخل إدارة اوباما وحول هيلارى كلينتون وداخل السفارات الأمريكية في المنطقة واروقة وسائل الإعلام الامريكية وداخل مراكز الأبحاث الداعمة للقرار؛ وإحقاقا للحق هذا أيضا أمر واقعى ويعكس جانب من رؤية المؤسسات للمنطقة وقد ذكرت فى أكثر من مقال برنامج إعداد كوادر تيار الإسلام السياسي لتصدر المشهد في المنطقة الذى تبنته بعض المؤسسات الأمنية فى الولايات المتحدة وقامت بتنفيذه عدد من مراكز الأبحاث القريبة من دوائر الحكم مثل مركز راند RAND،حيث كنت في زيارة للمركز عام1994 وشهدت عن قرب الإعداد والتجهيز لهذا البرنامج وأنه كان خاضعا لرؤية أن الدول التي تشهد أغلبية مسلمة يجب أن تحكم من قبل هذا التيار البراجماتي الذى أثبتت مواقفه وكوادره أنه لا يتناقض مع المصالح الغربية ويستطيع خدمة تلك المصالح ودعمها فى المنطقة وهو ما يتطابق مع الرؤية الأمنية والسياسية للحليف البريطاني صاحب النفوذ والخبرات المميزة فى المنطقة والراعي الرسمي لهذا التيار. وأغرب ما سمعته حينذاك من أحد خبراء المركز هو ما قاله صراحة وبين السطور أن عليهم دعم التيار الليبرالي واليساري المدني لأنه سيكون بمثابة الحاضنة والداعم لصعود كوادر تيار الإسلام السياسي اتساقا مع  قناعاتهم السياسية التي تدعو إلى حرية الرأي والتعبير لأى إتجاه سياسي وتدافع عنه وتسانده. إضافة لما ذكره إيميل نخلة مسئول تيار الإسلام السياسي داخل السي أى أيه لسنوات طويلة في أكثر من محاضرة ومناسبة موجودة  على اليوتيوب أن المؤسسات الأمريكية  خاصة الأمنية تؤيد صعود هذا التيار فى الدول ذات الأغلبية المسلمة.

وتخضع رؤية الخبير في مركز راند عن حماية التيار الليبرالي واليساري المدني والقوى المدنية لهذا التيار لرؤية شاملة وآليات تدفع فى سبيل وضع بنود وأجندة مرجعية للعلاقة بين البلدين تقيس من خلالها مدى تمتع تلك القوى بمساحات حركة وعدم تضييق وضمان وصول الدعم المادي ومظلة الحماية السياسية لها إذا لا يمكنه أن يسعى لصعود تيار الإسلام السياسي للحكم دون وجود مناخ وبيئة داعمة وحاضنة وهذا ما يدركه عدد قليل من النخبة المصرية التي ترفض أى تدخل أمريكي في الشأن المصري من أى باب لأنه من وجهة نظرها لا يحمل خيرا مطلقا لمصر شعبا وجيشا وارضا ويخدم رؤية أمريكية بحتة.

واقع الحال أن تلك التوجهات داخل الأروقة الامريكية تأرجحت بين من يريد الدفع بهذا التيار إلى صدارة الحكم وتأمين بقاءه لسنوات طويلة وبين رؤية متحفظة ترى الاكتفاء بوجوده على الساحة ممثلا في البرلمان والمجتمع المدني وكل مؤسسات المجتمع المصري السياسية والمدنية، وتمت ممارسة الضغوط التي جعلت حسنى مبارك ذات يوم يوافق على دخول نسبة منهم إلى مجلس الشعب تم هندستها خدمة لهذا الغرض، ثم كانت موجة ما أطلق عليه الربيع العربى التي سمحت بالضغط كاملا للدفع بالتيار لصدارة المشهد، وصولا إلى مشهد 30 يونيو 2013 الذى توج كفاح شعبي أعقب الإعلان غير الدستوري الذى أصدره الرئيس الإخواني محمد مرسى فى نوفمبر 2012 حين دخل الشعب طرفا فى معادلة العلاقات، حيث شكل الرفض الشعبي الكبير لحكم دولة المرشد والجماعة ومندبهم واقعا جديدا مدعوما ومحميا من المؤسسة العسكرية التي انحازت للشعب ومنح قائدها تفويضا للتعامل مع عملية تطهير المشهد المصري من ذلك التيار وجماعات العنف المسلح الإرهابية التي تسانده، وهو الأمر الذى جعل إدارة اوباما حينذاك تتراجع خطوات للخلف مع بعض البرود فى العلاقات التجارية والسياسية الذى لم يمنع تواصل القنوات المؤسسية التي كما ذكرنا تتمثل في البنتاجون والقيادة المركزية الأمريكية والسي أى أيه، وربما يتذكر البعض منا التواصل المباشر والدائم الذى كان بين وزير الدفاع الأمريكي والفريق أول عبد الفتاح السيسى حينذاك. ثم كانت فترة حكم ترامب التي شهدت فترة دفء لعلها بسبب عدم وجود احد فى دائرة الحكم القريبة منه يضغط أو يشير عليه بأي مما كان يشيروا عليه داخل إدارة اوباما فضلا عن أن الرجل لا يهتم بتفاصيل الشأن الداخلي للدول إلا فى ما يخص المواطنين الذين يحملون الجنسية الأمريكية.

إذن الأمر مع بايدن سيكون مختلف عن ترامب وسيخضع لطبيعة دائرة المحيطين به وبنائبة الرئيس ووزير خارجيته ومراكز الأبحاث الداعمة لقرار الحزب الديموقراطي، وستكون شخصية بايدن وقناعاته حاسمة في التوازن بين رؤية المؤسسات التي تدفع في إتجاه استقرار العلاقات مع مصر مع الأخذ في الاعتبار كل ما طرا على تغيير في الواقع المصري وتنوع علاقاتها الخارجية وتنوع مصادر تسليحها ومساحات الحركة المتعددة كي لا تبتعد القاهرة عن واشنطن بما يضر بالمصلحة الأمريكية، وبين رؤية مستشارين يدفعون باتجاه ممارسة الضغوط الدائمة والدفع بكوادر وتيارات وكيانات تخدم المصلحة الأمريكية ولكن بطريقة أخرى.

الأمر المؤكد في هذا الإطار أن الصلابة والإرادة المصرية في الداخل وفى الإقليم ستكون حاسمة في تحديد خيارات بايدن أو غيره؛ وأن ما تم من بناء للقدرات الذاتية المصرية يحتاج إلى بعض الرتوش في الحياة السياسية والإعلام والحريات العامة يقلل من مساحات الضغط والحركة والتدخل في الشأن المصري وفقا لرؤى وأجندات تبدو بديهية ولكن جوهرها ونواياها غالبا لا تصب في المصلحة المصرية، وهو ما يستدعى دراسة ومراجعة لكل بنود العلاقة والظروف المحيطة بحيث تكون المبادرة دائما من القاهرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى