السد الإثيوبي

مآلات المواجهة العسكرية بين الجيش الإثيوبي وجبهة تحرير “تجراي”

أعلن مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي” آبي أحمد” صباح الأربعاء 4 نوفمبر، عن دعوته لقوات الدفاع الوطني الإثيوبية بالانتشار والاستعداد، بعد قيام قوات “جبهة تحريرشعب التيجراي”، في شمال البلاد، بسرقة مدفعية ومعدات أخرى من القوات الفيدرالية المعنية بأمن الإقليم، وهو التحرك الذي وصفه آبي أحمد بتجاوز الخطوط الحمراء. وبحسب ما أعلنته وكالة الأنباء الإثيوبية، قامت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي بمهاجمة القيادة الشمالية لقوات الدفاع الوطني الإثيوبية المتمركزة في مدينة “ميكيلي بولاية تيجراي”، فضلًا عن رفض الإقليم الاعتراف بمسؤول عسكري تمّ تعيينه من جانب الحكومة الفيدرالية الأسبوع الماضي؛ وذلك على خلفية التصعيدات الأخيرة بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم التيجراي، وعدم اعتراف كل منهما بالآخر. 

تأتي هذه التحركات الأخيرة، بعد سلسلة من التوترات العرقية والانقسامات الداخلية سادت كافة الأقاليم الإثيوبية، إلا أنها اتخذت طابعًا إجرائيًا وترجمت لتحركات، مع توجه إقليم التيجراي إلى تنظيم انتخابات إقليمية بشكل مستقل عن الحكومة الفيدرالية في سبتمبر 2020، كأبرز خطوة تصعيدية بين الجانبين. 

ومنذ مجيئه للحكم، اتخذ آبي أحمد مجموعة من الإجراءات الثورية والتحولات الجذرية بزعم إجراء الإصلاحات السياسية والمجتمعية التي جاء من أجلها، وذلك بعد أن واجهت البلاد احتجاجات شعبية على سياسات “الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي” المسيطر عليها “جبهة تحرير التيجراي” منذ عام 1991، والتي تبنت سياسات تهميشية لكافة الأقاليم الفيدرالية مع تمكين أقلية التيجراي من كافة مفاصل الحكم، على النحو الذي شهدت معه البلاد احتجاجات واسعة في الأقاليم الإثيوبية بما فيها إقليم “أورومو” المنحدر منه آبي أحمد. ولتهدئة الاحتجاجات العرقية استقرت الجبهة على استقالة سلفه “هايلي مريام ديسالين” وتصعيد آبي أحمد للحكم.

ومنذ صعوده إلى سُدة الحكم وتوليه رئاسة الحكومة في أبريل 2018، تبنى مجموعة من الإصلاحات الداخلية والخارجية بزعم إنهاء المظالم التاريخية التي عانت منها كافة الأقاليم الفيدرالية الإثيوبية، ما أدى إلى سيادة حالة من التوقعات والأمال؛ مع الاتجاه إلى الإفراج عن معتقلي الرأي والتصالح من الميليشيات المسلحة، إضافة إلى تبنيه “سياسة إقليمية قائمة على تصفير المشكلات”. فقام بإجراء سلام تاريخي مع جارته الشمالية إريتريا، بعد حالة من القطيعة الدبلوماسية دامت قرابة العقدين بعد المواجهات التي شهدها البلدين بين عامي (1998-2000). 

أزمة التيجراي

C:\Users\DELL\Desktop\55495460_303.jpg

في واقع الأمر لم تكن سياسات آبي أحمد تستهدف إحداث إصلاحات حقيقية، بقدر ما استهدف تهيئة المناخ لتثبيت دعائم حكمه في البلاد، مما أدى إلى تبنيه “سياسات إقصائية للحرس القديم”، التي كان التيجراي أول من عانى منها؛ فقام باستهدافهم في محاكمات غير عادلة وعزلهم من مناصبهم، على نحو أثار غضب قيادات التيجراي التي لديها رصيد من النفوذ والسيطرة على الحكم.

وفي المقابل، استغل إقليم التيجراي موقعه الجغرافي الهام والمجاور لإريتريا، في عرقلة اتفاق السلام الذي وقعّه آبي أحمد مع الرئيس الإريتري “أسياس أفورقي”، والذي حاز في ضوئه على جائزة “نوبل للسلام”، إلا أنه في واقع الأمر ظلّ هذا الاتفاق حبر على ورق حبيس الأدراج، مع رفض التيجراي بتسلم ” مثلث بادمي” لإريتريا واستمرار إغلاق الحدود بين الجانبين، مما ساهم في تصاعد الانتقادات ضدّ فوز ” آبي أحمد” على نوبل للسلام في وقت تعاني منه بلادي من الانقسامات والمواجهات العرقية، الأمر الذي ساهم في إخفاق سياساته الإقليمية التي حاول من خلالها الهروب من تحدياته الداخلية، والترويج لسلام هش وصورة مغلوطة تختبئ خلفها حالة أمنية ومجتمعية متشرذمة.

وإمعانًا في مواجهة سياسات آبي أحمد المتجاوزة “لطبيعة الحكم القائم على الفيدرالية العرقية“، والاتجاه نحو تبني سياسات قومية لا تراعي الاعتبارات العرقية؛ عارضت جبهة تحرير التيجراي خطوته نحو تفكيك ” الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي” لصالح تشكيل حزب موحد يرأسه آبي أحمد ” حزب الإزدهار” لتنصهر خلاله كافة العرقيات والأحزاب على أساس قومي، يتجاوز الفيدرالية التي تعد المأزق الذي واجه البلاد ويخوض من خلاله الانتخابات القادمة. غير أن تلك الخطوة، كانت دافعًا لمزيد من المواجهة بين آبي أحمد والتيجراي.

كانت أبرز مظاهر هذه المواجهة، هي الخطوة الاستثنائية التي أقبل عليها الإقليم بتشكيل انتخابات إقليمية دون موافقة الحكومة الفيدرالية، وذلك اعتراضًا على قرار المجلس الفيدرالي في يونيو الماضي بتأجيل الانتخابات التي كان مقررًا عقدها في أغسطس الماضي.  وفي التاسع من سبتمبر، أجرى الإقليم انتخابات لتشكيل أعضاء المجلس التشريعي الإقليمي وممثلي الإقليم في المجلس التشريعي الفيدرالي وهي الخطوة التي عارضها آبي أحمد، وأصدر البرلمان الإثيوبي قرارًا بتجميد العلاقات مع منطقة التيجراي.

ومع تفاقم الأزمة بين الجانبين، ظهرت مؤشرات عدة لاحتمالية التصعيد والمواجهة العسكرية بين الجانبين؛ مع العروض العسكرية التي قام بها جيش تحرير التيجراي واعتبار أي تحرك من الحكومة الفيدرالية هو بمثابة إعلان حرب. وعلى الرغم من محاولات التهدئة، إلا أن الأمور أدت إلى تصعيد، إذ تتصاعد مؤشرات انجرار البلاد إلى مواجهة مفتوحة بين القوات الفيدرالية وجبهة تحرير التيجراي. والتي يخشى الخبراء من تلك المواجهات، في ظل كون جيش التيجراي قوة إقليمية مدربة ومنضبطة يعود تاريخها إلى الثمانينات، عندما قاد حركة حرب العصابات التي أوصلت تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية إلى السلطة. هذا فضلًا عن النظام الفيدرالي الذي سمح بتراكم القوة في أيدي عناصر التيجراي منذ سيطرتها على الحكم عام 1991.  

أزمة الفيدرالية

لم تقف أزمة سياسات آبي أحمد المناهضة لطبيعة النظام الإثيوبي القائم على الفيدرالية العرقية عند إقليم التيجراي، بل إن الأزمات القائمة قبل قدومه لم تبق نارًا تحت رماد مع تصاعد شظاياها إلى السطح، جرّاء سياساته المؤججة لمزيد من الانقسام على المستوى الفيدرالي. فتزامنًا مع أزمة إقليم التيجراي، شهد إقليم أوروميا هو الآخر تصاعد حدة العنف في الإقليم هذا الإسبوع، بعد مقتل جماعة من سكان الأمهرا في الإقليم بعد مهاجمة ثلاث قرى في منطقة غرب ويليجا، على يد جماعة تنتمي إلى ” جيش تحرير أوروميا” وهو جماعة انفصلت عن ” جبهة تحرير أورومو” التي كانت ضمن الإئتلاف الحاكم، وكانت هذه الجماعة محظورة، إلى أن سمح لها آبي أحمد بالعودة إلى البلاد مع سياساته للتصالح مع المعارضة. 

ويأتي هذا الأمر، في ضوء الصراعات بين الأورومو والأمهرا على الموارد والأرض، والتي اشتدت مع سياسات آبي أحمد التي أدت إلى مزيد من الاستقطاب. فكافة الاقاليم الإثيوبية تعاني من أزمات ممتدة من المرجح تفاقمها، مع مطالب الأمهرا التاريخية بأراضي واقعة تحت سيطرة التيجراي وذلك في الوقت الذي يتهم في التيجراي الحكومة الفيدرالية بدعم الأمهرا، ما أدى إلى تعزيز التيجراي للأزمات في إقليم الأمهرا والدفع بالقوميين المتشددين من الأمهرا في مواجهة حكومة الأمهرا المتحالفة مع آبي في الوقت الحالي، هذا فضلًا عن المواجهات بين إقليمي الأمهرا والأورمو، التي جاء على خلفيتها الحادث الدامي هذا الإسبوع، وهي الأزمات التي يقودها المعارضة في كل إقليم ضد حكومة إقليمية وضد الإقليم المجاور، مع اتهام المعارضة في كل من إقليمي الأورومو والأمهرا بتواطؤ حكومتي إقليميهما مع آبي أحمد ضد مصالح الأقاليم المهمشة.

الذي يسعى إلى تجاوز الصيغة الفيدرالية بسياسات عكسية أكثر سلبًا على البلاد من الوضع الذي جاء من أجل إصلاحه.

في الأخير. تجاوز سياسات آبي أحمد الخطوط الحمراء، فيما يتعلق بطبيعة الحكم والأوزان النسبية للأقاليم، والسعي نحو تجاوز الصيغة الفيدرالية التي تعد أحد الأزمات الراسخة في البلاد، ساهمت في إرتدادات عسكية بخلاف ما هو مزعوم. وأدت إلى مزيد من المواجهة والانقسام بين الولايات الفيدرالية من جهة، وبين الولايات والحكومة الفيدرالية من جهة أخرى؛ أبرزها المواجهة الأخيرة بين حكومة آبي أحمد وإقليم التيجراي على النحو الذي ينذر بمواجهة مفتوحة، قد تفضي إلى اتجاه الإقليم إلى المطالبة بالحكم الذاتي مع اتاحة الدستور الإثيوبي القائم على الفيدرالية العرقية بإمكانية مطالبة الأقاليم بالحكم الذاتي، وهو الوضع الذي واجهه آبي أحمد العام الماضي، مع مطالبة إقليم ” سيدما” بالحكم الذاتي. ويأتي هذا السيناريو التشاؤمي ضمن سيناريوهات وخيمة، ليس أقلها حرب أهلية مفتوحة، وليس أكثرها محاكاة الأقاليم الأخرى لنموذج التيجراي في الاستقلال عن الحكومة الفيدرالية بما يفضي في النهاية إلى أوضاع لا يحمد عقباها. ويقضي هذا بضرورة تراجع آبي عن تجاوزه للخطوط وتقاليد النظام الحمراء، وضرورة المضي قدمًا في إجراء الانتخابات المؤجلة وبتبني سياسات إصلاحية تراعي الاعتبارات والمصالح لكافة العرقيات.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى