الصحافة الدولية

<<لندن وطهران>> …مواجهة “باردة” وحرب لا يريدها أحد

كان المشهد أقرب لفيلم سينمائي.. وسط صيحات “الله أكبر”، وزوارق سريعة تتوقف بجانب ناقلة نفط، وأفراد ملثمين يحملون مدافع رشاشة ينزلون على سطحها من طائرة هليكوبتر، وصوت عبر الميكرفون يحذر قبطان السفينة “إذا أطعت فستكون بأمان”، احتجز الحرس الثوري الإيراني ناقلة النفط “ستينا إمبيرو” التي تملكها شركة سويدية وترفع علم المملكة المتحدة، أثناء عبورها مضيق هرمز. بزعم عدم احترامها القانون البحري الدولي. الطريقة نفسها قام بها مشاة البحرية الملكية البريطانية أثناء احتجاز ناقلة النفط الإيرانية “جريس1” بالقرب من مضيق جبل طارق في 4 يوليو الجاري، للاشتباه في أنها تحمل نفطا إلى مصفاة بانياس السورية، منتهكة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي.

“ستينا إمبيرو” هي جزء من المواجهة الأمريكية الإيرانية التي تقوم بجر الآخرين إليها. وفصل آخر في حرب الأعصاب الدائرة بين طهران من جهة وواشنطن وحلفائها من جهة اخرى. ورغبة إيران في عدم التفاوض واعتمادها على استراتيجيتين، الأولى، إثارة التوتر في المنطقة، كورقة مساومة لإطلاق سراح الناقلة الإيرانية، وإيصال رسالة إلى بريطانيا وغيرها من الدول، مفادها أنها تتعامل بمبدأ “العين بالعين“. فهي واثقة من عدم تحرك الرئيس الأمريكي نحو عملية عسكرية مكلفة وطويلة الأمد في الشرق الأوسط. أما الاستراتيجية الثانية اعتمدت فيها على التصعيد في التصريحات الإعلامية والسياسية مع الولايات المتحدة والمماطلة مع دول الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي دفع المرشد الأعلى الإيراني على خامنئي للتصريح بإن “الجمهورية الإسلامية وقواتها الملتزمة لن تترك هذا الشر دون الرد عليه”.

ما تفعله طهران هو محاولة لتهدئة السخط الشعبي تجاهها وتأكيد نفسها، إثر إعادة فرض العقوبات الاقتصادية عليها بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي. واللجوء إلى الأعمال الاستفزازية الأخرى مثل الانتهاك المتعمد للاتفاق النووي وإسقاط الطائرة المسيرة الأمريكية والهجمات على ناقلات النفط الأخرى في الخليج، وإعلانها القبض على 17 جاسوسا “من جواسيس” وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المزعومين في إيران. وليس من الواضح ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستحقق هدفها في تبديد غضب الشعب الإيراني، لأنها محفوفة بمخاطر التصعيد، وتهدد بتعقيد العلاقات الثنائية بين بريطانيا وإيران وإهدار الجهود الأوروبية المبذولة من أجل انقاذ الاتفاق النووي.

 وعلى الرغم من تلك المخاطر والتهديدات، إلا أن إيران ترى هذه المقامرة ضرورية في الوقت الراهن؛ لتحسين نفوذها الدولي في حال استئناف المفاوضات الدبلوماسية. 

          تحركات تشكيل قوة بحرية في الخليج 

تعرضت بريطانيا إلى جانب حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا إلى ضغط مستمر من واشنطن للانضمام إلى حملة “أقصى قدر من الضغط” على إيران، لكنهم مازالوا متمسكين بالاتفاق النووي الايراني. وهو ما تسبب في تصدع العلاقة بين بريطانيا وأمريكا، والذي تجلى في تصريحات مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكية بعد الاستيلاء على الناقلة البريطانية، بأن: “بلاده لا تريد أي حرب مع إيران، والأمر يعود إلى بريطانيا لحماية سفنها”.

تحاول أوروبا، العالقة بين الضغوط الأمريكية والإحباط من الانتهاكات النووية الإيرانية، اتباع نهج مستقل. فقررت بريطانيا تشكيل قوة أوروبية لحماية الملاحة في الخليج بدلا من المشاركة في الجهود الأمريكية.

ودعت المملكة المتحدة لإنشاء قوة بحرية أوروبية مشتركة من أجل ضمان حرية الملاحة في الخليج، وردع إيران عن احتجاز سفن تجارية تابعة لدول غربية وعربية، وقال وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت خلال إعلان المقترح “سنسعى إلى تشكيل هذه القوة بالسرعة الممكنة، ولن تكون جزءا من سياسة الضغوط القصوى الأمريكية على إيران“. 

وحصل الاقتراح على دعم أولي من فرنسا وإيطاليا وهولندا وربما ألمانيا أيضا. خاصة أن القوة المقترحة لن يشارك فيها حلف شمال الأطلسي “ناتو” أو واشنطن بشكل مباشر. 

وتعتزم لندن وباريس وبرلين تنسيق الجهود وتقاسم المعلومات في منطقة الخليج لتعزيز الأمن البحري، ولكن دون نشر قوات عسكرية إضافية. فبريطانيا وفرنسا يمكنهما دعم مهمة المراقبة بقواتهم العسكرية، حيث أن لكلتا الدولتين بالفعل قواعد عسكرية في المنطقة، كما تسمح بدعم لوجستي يمكن من الامداد السريع وقت الأزمات. 

في المقابل، أعلنت واشنطن رغبتها لتشكيل قوة بحرية (Sentinel) مهمتها تعزيز الأمن على طرق الشحن الرئيسية في الشرق الأوسط، تضم سفنا على جانبي مضيق هرمز فضلاً عن طائرات مسيرة للمراقبة. تشارك فيها دول من مختلف أنحاء العالم. ودعت الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة إلى ضرورة تحمل الدول مسئولية حماية ناقلتها النفطية في مضيق هرمز، ورفض ترامب لأن تكون أمريكا شرطي العالم. 

والتقت الإدارة الأمريكية ممثلين من 60 دولة تقريبا للحديث عن القوة البحرية، وإقناع الدول الآسيوية للمساهمة ولو مالياً فقط في عملية حراسة الشحن في الخليج. ولكن هناك صعوبات تواجه تشكيل قوة بحرية عسكرية بقيادة أمريكية، بعد قيام “جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي، بزيارة لليابان، حيث تواترت تقارير عن فشله في إقناع طوكيو بالانضمام إلى عملية الحراسة، فاليابان تعد واحدة من الدول التي تستفيد بشكل كبير من حرية الملاحة في جميع أنحاء الخليج لاستيرادها الكثير من النفط من المنطقة. 

         سياسة أقصى ضغط

يعود سبب اقتراح بريطانيا إنشاء قوة بحرية بمعزل عن الولايات المتحدة إلى أن الدول الأوروبية الثلاثة شركاء الاتفاق النووي مع إيران، والذين يرغبون في الحفاظ عليه، على عكس الولايات المتحدة، لا يرغبون في الانضمام إلى استراتيجية الولايات المتحدة “أقصى ضغط“، معللين أن سلوك إيران العدواني في الخليج يمكن إرجاعه إلى قرار إدارة ترامب الانسحاب من الصفقة النووية. وأعلنت برلين أنها لا تريد الانضمام إلى الاستراتيجية الأمريكية. ولكنها تدعم بشكل أساسي المساعي الفرنسية والبريطانية في إجراء مراقبة مشتركة للطرق الملاحية في الخليج العربي. ويقول بعض المسؤولين الأوروبيين إنهم يركزون على المسار الدبلوماسي للأزمة وحل مشكلة الناقلتين. ويقوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باتصالات مستمرة مع القيادة الإيرانية في محاولة لنزع فتيل الأزمة بين الغرب وإيران. 

ولكن الإدارة الأمريكية ترى أن القوة الأوروبية تحتاج في النهاية دعما استخباراتيا من أمريكا. في حين ترى الخارجية البريطانية أن الطريقة المثلى لزيادة المشاركة في قوة الحماية البحرية لا تتمثل في تولي الولايات المتحدة قيادتها، وإنما قوات الدول التي تدعم الاتفاق النووي، وفي ذات الوقت يرى مراقبون أن بريطانيا تحاول استعادة موقفها إزاء طهران بعد أن قررت التعاون مع الولايات المتحدة للاستيلاء على الناقلة الإيرانية بالقرب من جبل طارق، وعلى الرغم من أن هناك مبررات قانونية للتعاون الأمريكي – البريطاني، كفرض الحظر الأوروبي على الكيانات السورية، إلا أن إيران تنظر إلى بريطانيا باعتبارها تساعد الولايات المتحدة على فرض سياستها لمنع جميع صادرات النفط الإيراني.

         الخيارات المتاحة أمام لندن وطهران

ما يحدث في مضيق هرمز ما هو إلا صورة عن التحديات المستقبلية التي تواجه لندن وطهران، فقد تكون الأزمة في الخليج فرصة لرئيس الوزراء البريطاني الجديد بوريس جونسون لحفظ ماء الوجه، بإقناع الرئيس الأمريكي وطهران بالتخلي عن التصادم الذي يضر بكلا الجانبين، خاصة مع حرص ترامب على تجنب الصراع، لذلك فإن دبلوماسية جونسون قد تكون خيارا متاحا لحل الأزمة.

 وخلال مناظرة سياسة في إطار انتخابات رئاسة حزب المحافظين الحاكم، قال جونسون: “لمن يقول إن الدخول في حرب ضد إيران يمثل خيارا معقولاً لنا في الغرب، أنا لا أصدق ذلك على الإطلاق. فالدبلوماسية لا بد أن تكون أفضل طريقة لإحراز تقدم”.

 وأضاف جونسون: “إذا سُئلت عما إذا كنت سأدعم إجراءً عسكرياً ضد إيران حال كوني رئيساً للوزراء، فسوف تكون الإجابة بلا”. لكنه أشار إلى استعداده لإعادة فرض العقوبات على إيران إذا استمرت في تخصيب اليورانيوم بمعدل يخالف الاتفاق النووي.

ومع استمرار التوترات، واستمرار طهران في رفض الإفراج عن الناقلة “ستينا إمبيرو”، ينظر المحللون إلى القوة العسكرية للمملكة المتحدة وإيران. 

واستعرض موقع” Global Firepower“، المتخصص في رصد قوة الجيوش حول العالم، القوة العسكرية لطهران ولندن هذا العام وصنفهما في المركزين الـ 8 والـ 14 على التوالي من بين 137 دولة

C:\Users\marwa.mohammed\AppData\Local\Packages\microsoft.microsoftedge_8wekyb3d8bbwe\AC\#!001\MicrosoftEdge\Cache\4WO0OPBF\Untitled[1].jpg

من ناحية أخرى فإن إيران، التي تعوقها العقوبات وقبضة الحرس الثوري على اقتصادها، باتت دولة شبه عاجزة، والاعتداء على حرية الملاحة في الخليج لن يحقق مراد النظام الإيراني في فصل أوروبا عن الولايات المتحدة، ويتعين على القيادة الإيرانية تذكر ما حدث في الثمانينيات حين قررت إيران غلق مضيق هرمز أثناء حربها ضد العراق، حيث أدى ذلك إلى إرسال الولايات المتحدة سفن حربية إلى الخليج لحماية الشحن الدولي، وانضمت إليها بريطانيا، وفي النهاية اضطرت إيران إلى القبول بهزيمتها.

كاتب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى