العراق

العراق بعد مرور عام على حراك أكتوبر.. مهددات وتحديات

بينما تمر الذكرى الأولى للحراك الشعبي العراقي في أكتوبر 2019، يستعد العراقيون لموجة جديدة من الحراك خلال مظاهرات اليوم 25 أكتوبر؛ فالعراق لم يتغير واقعه مثلما كان يطمح العراقيون في هذا الوقت، إذ طالبوا بإصلاحات سياسية واقتصادية، وفي مقدمتها إنهاء النفوذ الإيراني في البلاد والقضاء على نظام المحاصصة الطائفية الذي بات راسخًا في النظام السياسي العراقي ما بعد 2003. ويعيش العراق في هذا التوقيت وقع الكثير من المتغيرات والتفاعلات الداخلية والدولية والتي تمثل تحديات أمام إصلاح هيكلي للدولة العراقية ومهددات لاستقرار العراق وأمنه.

تهديدات أمنية

يواجه العراق تهديدات أمنية تقوض أي مساعٍ إصلاحية وتمثل تحديات يتعين على القيادة السياسية العراقية تجاوزها وحلها ليُتاح لها المضي قدمًا في إجراء أي من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ومن هذه المخاطر والتهديدات:

1 – تنظيم داعش

يمثل تنظيم داعش أحد أهم التحديات الأمنية التي تواجه الدولة العراقية، فقد أسهمت القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي في إعلان القضاء على وجود تنظيم داعش في العراق، ولكنّ هذا لم يعنِ انتهاء خطر التنظيم بشكل كامل، إذ ساهمت بعض الأحداث والتغيرات السياسية والعسكرية في عودة نشاط التنظيم من جديد على الأرض العراقية.

استغل التنظيم حالة الفراغ الأمني والسياسي في العراق، والتوترات بين الولايات المتحدة وإيران بعد مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في 3 يناير الماضي، وتعليق قوات التحالف الدولي عملياتها ضد داعش في الشهر ذاته، ثم تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد في شهر مارس، ليزيد من نشاطه في شمال وغرب العراق.

في الربع الأول من عام 2020 فقط تم الإبلاغ عن 566 هجمة للتنظيم في العراق، وهناك عدة شواهد على أن الهجمات أصبحت أكثر تعقيدًا عن تلك التي تلت سقوط معاقل داعش في العراق وبعدها في سوريا (مارس 2019)، ومن هذه الهجمات هجوم (1 مايو 2020) الذي استهدف قوات للحشد الشعبي في مدينة تكريت بمحافظة صلاح الدين واستهداف التعزيزات العسكرية القادمة لها، وأدى إلى مقتل 10 عناصر من قوات الحشد. ووجد تقييم لاتحاد أبحاث وتحليل الإرهاب (TRAC) أن داعش تبنى 100 هجوم في جميع أنحاء العراق في أغسطس 2020، بزيادة 25% عن يوليو.

2 – الميلشيات والسلاح المنفلت

تُعدُّ الميلشيات المسلحة الموالية لإيران أحد أهم التهديدات الأمنية للدولة العراقية في الوقت الراهن، إذ قامت هذه الميلشيات من جهة بزعزعة استقرار الدولة العراقية عبر استهداف النشطاء ونشر مظاهر الفوضى الأمنية والسلاح المنفلت في العديد من الأقضية العراقية، ومن جهة أخرى فإن الضربات التي توجهها هذه الميلشيات للبعثات الدبلوماسية ومواقع قوات التحالف الدولي في العراق والاستهداف المستمر للمنطقة الخضراء في بغداد قد ساهمت في توتر العلاقات بين العراق وعددٍ من الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي لوحت بإغلاق سفارتها في بغداد.

ورغم اتخاذ رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي عدد من القرارات والإجراءات لمحاربة “السلاح المنفلت” وحصر السلاح بيد الدولة ومأسسة قوات الحشد الشعبي ضمن نسيج القوات الأمنية العراقية، ومنها إغلاق مكاتب الهيئة في المنافذ الحدودية والمطارات، وتغيير قياداتها، فإن الواقع الميداني يشير إلى استمرار الميلشيات في نشاطها وضغطها على الحكومة العراقية، ومنها الحادثتين الأخيرتين الأولى اختطاف 12 مواطنًا ومقتل 8 منهم في منطقة الفرحاتية بمحافظة صلاح الدين (16 أكتوبر) والتي وجهت أصابع الاتهام فيها إلى عصائب أهل الحق المنضوية تحت قوات الحشد الشعبي والمسيطرة أمنيًا على هذه المنطقة، وحاولت قوات الحشد الشعبي إلصاقها بداعش. أما الثانية فهي إحراق مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد (17 أكتوبر) بعد تصريحات للقيادي بالحزب ووزير الخارجية السابق هوشيار زيباري دعا فيها إلى “تنظيف المنطقة الخضراء من فصائل الحشد الشعبي” بسبب تكرار الهجمات على البعثات الدبلوماسية.

مواجهة واشنطن – طهران

حاول رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إحداث توازن شبه مستحيل في العلاقات بين العراق وكل من الولايات المتحدة وإيران والنأي بالنفس عن الصراع الدائر بين البلدين والذي اتخذ من الأراضي العراقية مسرحًا له بعد مقتل سليماني والمهندس في بغداد. وفي سبيل ذلك انخرطت بغداد في حوار استراتيجي مع واشنطن وحافظ الكاظمي على مستوى من التنسيق مع طهران عبر زيارات متبادلة.

مثّلت الهجمات المتواصلة للميلشيات المسلحة التابعة لإيران للمصالح الأمريكية تطورًا سلبيًا أثر على العلاقات بين العراق والولايات المتحدة. تضغط هذه الميلشيات من أجل سحب واشنطن لقواتها من العراق، وقد أعلنت كتائب حزب الله (11 أكتوبر) اتفاق جميع الفصائل على تعليق الهجمات ضد الأهداف الأمريكية مقابل وضع الحكومة العراقية جدولًا زمنيًا لانسحاب القوات الأمريكية. وأعلنت وزارة الخارجية العراقية (15 أكتوبر) تشكيل لجنة لجدولة إعادة انتشار القوات الأمريكية خارج العراق. وفي المقابل يتزايد الضغط الأمريكي على الحكومة العراقية للسيطرة على نشاط الميلشيات وحصر السلاح بيد الدولة، ويتواصل استخدام طهران لهذه الميلشيات كأداة من أدوات الضغط على كل من الحكومة العراقية والولايات المتحدة.

تراجع استهداف الميلشيات للأهداف الأمريكية في العراق خلال الأيام الأخيرة، وذلك بانتظار إعادة ترتيب مشهد المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية (3 نوفمبر)، ولكن الساحة العراقية مازالت مسرحًا لهذه المواجهة والتي شهدت فرضت واشنطن عقوبات على سفير طهران لدى بغداد إيرج مسجدي (22 أكتوبر) بتهمة زعزعة استقرار العراق والإشراف على دعم الميلشيات العراقية وإخفاء تحويلات مالية لصالح فيلق القدس. وفي المقابل فرضت طهران عقوبات على سفير واشنطن لدى بغداد ماثيو تولر (23 أكتوبر) بتهمة ضلوعه في أعمال إرهابية ضد المصالح الإيرانية ومنها عملية اغتيال قاسم سليماني.

ويمثل إعلان الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج (23 أكتوبر) أن وزراء دفاع دول الحلف كلفوا القادة العسكريين في بلدانهم بالشروع في زيادة قوام قواتهم في العراق بشكل أكبر بكثير مما هو الآن، مؤشرًا على أن الهدف الرئيس للضغط الميلشياوي والإيراني في العراق وهو تنفيذ قرار البرلمان العراقي (5 يناير) بخروج القوات الأجنبية من العراق قد لا يتحقق في الأمد المنظور، وأن جدولة خروج القوات الدولية والأمريكية ستكون وفق خطة متوسطة المدى.

تأزم سياسي واقتصادي

كان تغيير الطبقة السياسية الحاكمة في العراق وإلغاء المحاصصة الطائفية عبر انتخابات نيابية مبكرة حدد لها الكاظمي موعدًا )6 يونيو 2021) بقانون انتخابات جديد هدفًا رئيسًا لحراك الشعب العراقي في أكتوبر 2019. بيد أن الواقع أفرز مشكلات عدة وعوائق كثيرة أمام الوصول إلى هذا الهدف، خاصة فيما يتعلق بنشاط الميلشيات العسكري والسياسي، وما يتعلق بالطبقة الحاكمة وقانون الانتخابات، فضلًا عن مشكلات تتعلق بمسار العلاقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان.

1 – الانتخابات المبكرة

وافق مجلس النواب العراقي (10 أكتوبر) على المادة 15 من قانون الانتخابات الذي صادق عليه (ديسمبر 2019)، وهي المادة التي كانت محل خلاف كبير بين الكل النيابية داخل البرلمان لكونها هي التي تحدد تقسيم الدوائر الانتخابية. تم التوافق بين الكتل النيابية على تقسيم العراق إلى 83 دائرة انتخابية، ولكن تبقى الخلافات حول آلية ترسيم الدوائر داخل كل محافظة، ومن ثم يبقى إقرار قانون الانتخابات بشكل نهائي أمر بالغ التعقيد لأن كل كتلة تريد قانونًا يحقق تطلعاتها ويضمن بقاءها السياسي.

يُضاف إلى ذلك تعقيد قانوني آخر وهو ما يتعلق بقانون المحكمة الاتحادية الذي يستلزم أيضًا موافقة البرلمان لإكمال تشكيل المحكمة التي يتعين مصادقة نتائج الانتخابات منها، ولا يمكن ذلك إلا بتعيين عضوين جديدين، وهو الأمر الذي من المفترض أن ينظمه قانون المحكمة. ويرجع سبب عرقلة إصدار القانون إلى الخلافات أيضًا بين القوى السياسية. ويبدو أن هذه القوى التي ليس من مصلحتها إجراء انتخابات تفرز واقعًا سياسيًا جديدًا يلبي تطلعات الشعب العراقي تعرقل إجراء الانتخابات في موعدها، في ظل غضب شعبي ووضع اقتصادي صعب.

2 – معضلة سنجار

اتخذ رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي منحى إيجابيًا في العلاقة بين بغداد وأربيل، بدأه بزيارته إلى أربيل (10 سبتمبر) التي حققت تقدمًا في عدة ملفات عالقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة أربيل، ومنها ملف المناطق المتنازع عليها. تكلل ذلك بتوقيع الكاظمي ووفد من حكومة كردستان (9 أكتوبر) اتفاقًا يقضي بتطبيع الأوضاع الأمنية والعسكرية والإدارية في قضاء سنجار المتنازع عليه ويعزز سلطة الحكومة الاتحادية هناك.

إشكالية هذا الاتفاق تكمن في أن قوات الحشد الشعبي هي المسيطرة أمنيًا في سنجار، ويتضمن الاتفاق إخراج الفصائل المسلحة كافة، وهو ما عدّه تابعون للحشد موجهًا ضده، ومنهم عضو تحالف الفتح محمد مهدي البياتي الذي وصفه بـ”خضوع وخنوع لدولة كردستان غير المعلنة”. وكان الاتفاق وكذلك تصريحات هوشيار زيباري ضد الحشد دافعًا لإحراق أنصاره مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد وإحراق علم كردستان وصور الرموز الكردية. وقد يؤدي هذا المشهد إلى تقويض مساعي الوفاق بين بغداد وأربيل، وحدوث هجمات أكبر ضد المصالح الكردية.

3 – ضغوط اقتصادية وشعبية

يرزح العراق تحت أزمة اقتصادية صعبة على إثر انخفاض أسعار النفط وتداعيات فيروس كورونا المستجد مع توقعات للبنك الدولي بانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9.7 % خلال عام 2020 متراجعًا عن نسبة النمو الإيجابية البالغة 4.4 % التي حققها عام 2019، مسجلاً بذلك أسوأ أداء سنوي منذ عام 2003. وأدى هذا الوضع الاقتصادي الصعب وأزمة السيولة التي يعاني منها العراق إلى أزمة معيشية طاحنة يعاني منها العراقيون. 

حاول مصطفى الكاظمي تحقيق اختراق على المستوى الاقتصادي بداية من الحوار الاستراتيجي مع واشنطن والذي وعدت واشنطن خلاله باستثمارات كبيرة في العراق، وكذلك تقديمه (12 أكتوبر) “الورقة البيضاء” للإصلاح الاقتصادي والإداري. ثم قيامه بجولة أوروبية (20 أكتوبر) شملت لندن وبرلين وباريس سعيًا لاجتذاب المساعدات الاقتصادية والاستثمارات. ولكن مازال العراقيون ينتظرون ثمار هذه الجهود.

حراك متجدد وتحديات أصعب

تلقي كل هذه المعطيات والتحديات بظلالها على الشارع العراقي الذي يستعد لإحياء حراك أكتوبر 2019 من خلال مظاهرات حاشدة تمت الدعوة لها يوم 25 أكتوبر لإعادة تأكيد مطالب الحراك الشعبي المتمثلة في الإصلاح السياسي وإجراء انتخابات مبكرة والقضاء على النفوذ الإيراني والإصلاح الاقتصادي.

ورغم مرور نحو ستة أشهر فقط على تولي الكاظمي مهمته (6 مايو) فإنه يواجه الآن تحديات جسام ليس أقلها اهتزاز الثقة الشعبية فيه، إذ كان يعول العراقيون عليه خلال الفترة الماضية تحقيق إنجاز في بعض الملفات، من أهمها قضية السلاح المنفلت وحصره بيد الدولة وفرض دولة القانون، فضلًا عن إجراء تحقيق في عمليات القتل التي شهدها حراك العام الماضي وتقديم المتورطين إلى المحاسبة، ومحاسبة الفاسدين. وهو ما يرى البعض أنه لم يتحقق حتى الآن.

مجمل المشهد يشير إلى أن العراق سيواجه تحديات أكثر صعوبة في المرحلة المقبلة. إذ ستكتمل ملامح المواجهة بين واشنطن وطهران عقب الانتخابات الأمريكية وقد تشهد زيادة الضغط الإيراني عبر ميلشياتها على الحكومة العراقية لفرض قوة طهران في العراق على طاولة التفاوض مع واشنطن أيًا كان الرئيس الأمريكي الجديد وهو ما يصعب من مهمة الكاظمي المستحيلة في التوازن في العلاقات بين الطرفين. إلا أن مؤشرات حول خلافات داخل الميلشيات التابعة لإيران في العراق وتنازع داخل قياداتها قد يعد فرصة للكاظمي لمواجهة أكثر حسمًا ضدها بدعم أمريكي.

وعلى الصعيد السياسي لا يبدو في الأفق المنظور إحداث أي اختراق في ملف الانتخابات من قبل الكتل السياسية، واستمرارها في عرقلة أي مساعٍ للإصلاح السياسي سعيًا من طهران إلى استمرار المشهد الفوضوي في العراق، وأن تكون الميلشيات والكتل النيابية التابعة لها والتوسع في النشاطات الاقتصادية والحياتية في العراق مصدر قوة في وجه أي مشروع مناهض لها حتى إذا فقدت السيطرة على الحكومة.

من ناحية أخرى قد يواجَه الحراك الشعبي المنتظر خروجه 25 أكتوبر بموجة جديد من الاستهداف والقتل، ومن ثم زيادة وتيرة الغضب الذي قد يتجه إلى عنف أو تناحر طائفي بالنظر إلى حوادث مثل حادثة الفرحاتية واستهداف مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد، وبالنظر إلى إمكانية تصعيد النشاط الميلشياوي في مواجهة الحكومة.

مراجع

  • US Policy and the Resurgence of ISIS in Iraq and Syria

https://www.mei.edu/publications/us-policy-and-resurgence-isis-iraq-and-syria#pt2

  • Back into the Shadows? The Future of Kata’ib Hezbollah and Iran’s Other Proxies in Iraq

https://www.washingtoninstitute.org/uploads/Documents/opeds/Knights20201023-CTCSentinel.pdf

  • Iran-Backed Militias in Iraq Poised to Expand Influence

https://www.cfr.org/in-brief/iran-backed-militias-iraq-poised-expand-influence

  • بغداد توقع اتفاقاً مع إقليم كردستان بشأن تطبيع الأوضاع في سنجار

https://aawsat.com/home/article/2556221/%D8%A8%D8%BA%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D8%AA%D9%88%D9%82%D8%B9-%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82%D8%A7%D9%8B-%D9%85%D8%B9-%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85-%D9%83%D8%B1%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D8%AA%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B6%D8%A7%D8%B9-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B1

  • العراق بحاجة ماسة لإصلاحات هيكلية من أجل إدارة أزمة متعددة الجوانب

https://www.albankaldawli.org/ar/news/press-release/2020/05/04/iraq-structural-reforms-critically-needed-to-manage-a-multi-faceted-crisis

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى