
د.نيفين مسعد تكتب : الأزمة في خطاب ماكرون
تعرَضَ مقال الأسبوع الماضي إلي الجزء الخاص بمشكلة إدماج المسلمين في المجتمع الفرنسي وهي المشكلة التي عبر عنها ماكرون في خطاب ٢ أكتوبر بالانفصالية الإسلامية ، وذكر المقال أن من حق ماكرون كرئيس لفرنسا أن يواجه التأثيرات الخارجية علي مواطنيه ممن يدينون بالإسلام . أما مقال هذا الأسبوع فإنه يتعرض لشق آخر في الخطاب أثار جدلًا كبيراً وردود أفعال إسلامية غاضبة داخل فرنسا وخارجها بسبب وصف ماكرون الإسلام بأنه في أزمة حول العالم.
اعتبر ماكرون أن الإسلام يعاني من أزمة “عميقة” حول العالم ، وفي تدليله علي ذلك استند إلي “التوتر الحاصل بين الأصوليات وبين المشروعات الدينية والسياسية التي نراها في كل مناطق العالم والتي تقود إلي التشدد البالغ حتي في الدول التي يمثل فيها الإسلام دين الأغلبية” . وعندما نتأمل المؤشر السابق نجده يخص دولة مثل تركيا لها مشروعها التوسعي الذي يوظف الدين في السياسة ، كما أنه يخص الحركات الإسلامية المسيسة التي تتذرع بالدين للدفاع عن مصالحها البراجماتية البحتة ، وعند نقطة معينة يحدث تقاطع بين تركيا وتلك الحركات فإذا بها تحركهم مثل قطع الشطرنج من ساحة لأخري من ساحات الصراع فمن سوريا تنقلهم إلي ليبيا ومن ليبيا تأخذهم إلي القوقاز وإذا بمفهوم “الجهاد ” يتحول إلي سلعة تُباع وتُشتَري ، ولا بأس من أن تستفيد القوي الكبري وتدخل السوق من وقت لآخر فتشتري جهاد الحركات الأفغانية لتضرب الاتحاد السوڤيتي أو تنسق مع فزاعات / حركات أخري لتحجّم إيران . والأمر علي هذا النحو يكون السؤال إذن هو أين بالضبط موقع الإسلام كعقيدة دينية من هذه الشبكة الأخطبوطية من المصالح التي تخص أمراء الحروب والقوي الإقليمية والدولية علي حدٍ سواء ؟ . يمضي ماكرون خطوة أبعد في التدليل علي أزمة الإسلام فيستشهد ضمن ما يستشهد بالحالة التونسية فيقول في هذا الخصوص” منذ ٣٠ عاماً كان الوضع مختلفاً بشكلٍ جذري في تطبيق هذا الدين وطريقة الحياة ، وإن التوترات التي نعايشها في مجتمعنا موجودة في هذا المجتمع الذي لاشك هو أحد أكثر المجتمعات تعليماً وتطوراً في المنطقة “.
نتوقف أمام هذا الاستشهاد بتونس ونناقشه . إن ماكرون عندما ألقي خطاباً أمام البرلمان التونسي في فبراير ٢.١٨ كان له رأي إيجابي جداً في التجربة التونسية ، إذ اعتبر أن ثورتها الثقافية قد أنشأت رابطة سلمية “بين الدولة والحياة المدنية والدين ” ، وهذا معناه أن هناك توافقاً بين الإسلام والديمقراطية في رأيه ، أكثر من ذلك اعتبر ماكرون أن المساواة بين الرجل والمرأة الواردة في الدستور التونسي “مصانة بأكثر مما هي في دستورنا -يقصد دستور فرنسا ” ، وبالتالي يكون السؤال هو لماذا غيّر ماكرون نظرته للتجربة التونسية ؟ إن كان التغير قد حدث بسبب ظهور حركة النهضة الإسلامية في المشهد السياسي التونسي ومحاولاتها المتواصلة أسلمة الفضاء العام ، فمن قال إن حركة النهضة تمثل الإسلام حتي يمكن الحكم علي الإسلام من خلالها ؟ هذا من جهة ، ومن جهة أخري فعندما خطب ماكرون في تونس عام ٢٠١٨ كانت حركة النهضة موجودة بالفعل علي الساحة السياسية منذ سبع سنوات كاملة ومع ذلك كان رأي ماكرون في تونس أنها “تمثل أملاً رائعاً “، والآن بعد مضي عامين علي خطابه في البرلمان التونسي فإن شعبية النهضة متراجعة والانشقاقات عنها تتوالي ، ومن ينظر لها يجدها في موقف الدفاع عن نفسها لأسباب كثيرة .
ثم إن هناك إشكالية ذات بعد فلسفي في التعامل مع وصف ماكرون للإسلام بأنه في أزمة . لقد أكد الرئيس الفرنسي في خطابه أنه في الوقت الذي يتمسك فيه بتطبيق قواعد الجمهورية بكل صرامة وفي كل مكان علي أرض فرنسا ، فإنه لن يسقط في الفخ الذي يحاول المتطرفون-يقصد داخل تيار اليمين- أن يجروه إليه من خلال حمله علي إدانة كل المسلمين، وهذا كلام جيد ومنطقي جداً ، لكن السؤال هو كيف يمكن التسليم بأن المسلمين ليسوا كلاً واحداً وفي الوقت نفسه يتم إطلاق حكم عام علي الإسلام كدين بأنه في أزمة ؟ ، لو كان الإسلام مأزوماً حول العالم لكانت النتيجة الطبيعية هي أن يكون كل المسلمين مأزومون ، والعكس صحيح . وهكذا يتضح لنا أنه بينما خلط ماكرون في مستوي أول بين ممارسات الدول والحركات التي توظف الدين لتحقيق مآربها وبين العقيدة الإسلامية ، فإنه قد ميّز في مستوي ثانٍ بين أداء بعض المسلمين وبين نفس العقيدة الإسلامية . وهذه الجزئية القلقة في الخطاب ربما كان سببها محاولة ماكرون المزايدة الانتخابية علي تيار اليمين بدون أن يخسر أصوات الناخبين المسلمين ، لكن هذا القلق كان السبب في أن انهالت السهام الناقدة علي ماكرون ، وهي سهام بعضها مدفوع بالغيرة علي الدين ، لكن بعضها الآخر له أسبابه السياسية خصوصاً في ظل الاشتباك الفرنسي مع العديد من القضايا الإقليمية والدولية ، ولذلك نجد أن المنصتين القطرية والتركية كانتا من أكثر المنصات هجوماً علي الخطاب وصاحبه .
تبقي ملاحظة أخيرة حول ظاهرة قديمة في فرنسا وفي أوروبا بشكل عام ، وتلك هي التي تتعلق بالتعامل مع معاداة السامية باعتبارها عملاً محظورا يجرمه القانون ، والتعامل في المقابل مع السخرية من الرموز الإسلامية باعتبارها أمراً مباحاً وتطبيقاً لحرية الرأي والتعبير . وفي خطاب ماكرون يوم ٢ أكتوبر تعرض في أكثر من موضع لرفض كلٍ من الإرهاب والعنصرية ومعاداة السامية بوصفها تتناقض مع الجمهورية ، وفي الواقع ستظل هذه الازدواجية غير مفهومة بالنسبة لكثير من المسلمين الذين يرون أنه إما أن يكون هناك أخذ بحرية الرأي والتعبير فلا تكون هناك محظورات علي نقد أي شئ بما في ذلك السامية ، وإما أن يكون هناك رفض للعنصرية بمعناها الواسع الذي يشمل التنمر ضد كل الأعراق والأديان والألوان فلا تُستثني من هذا الرفض الرموز الإسلامية ، لكن الكيل بمكيالين تحت تأثير قوة اللوبي اليهودي في فرنسا فهذا هو ما لا يتفق مع المساواة كقيمة أساسية من القيم الجمهورية .