
“نافالني”.. من مُعارض روسي إلى “ورقة ضغط أوروبية” جديدة في وجه موسكو
لحسن حظه، أو لسوء حظه، ينتمي المعارض الروسي البارز “أليكسي نافالني”، إلى دولة لها تاريخ حافل فيما يتعلق بطريقة التعاطي مع أي شخص ينتمي للمُعارضة. كما أنه من اللافت للنظر، أن قصته قد ظهرت على سطح مسرح الأحداث في خضم غيوم في الرؤية وتضارب في الأقوال، والتي تتردد ما بين القارة العجوز من جهة، والدب الروسي من جهة أخرى. فهذا يقول إن ذاك مُجرم يفتك بأعدائه، والآخر يواصل نفي الاتهامات عن نفسه، على الرغم من أنه له ماض غير بعيد يشهد على حالات تسمم مشابهة لأفراد تسببوا بالمتاعب للحكومة الروسية.
تسلسل الأحداث واللحظات الأولى لفقدان “نافالني” لوعيه
بدأ الأمر صبيحة يوم 20 أغسطس، عندما كان “نافالني” يستقل رحلة جوية من تومسك إلى موسكو، ولكنه لم يستكمل الرحلة نظرًا لشعوره بتوعك شديد أصيب على إثره بفقدان كامل للوعي، وتم نقله مباشرة الى المشفى.
وفي المشفى، دخل “نافالني” في غيبوبة كاملة، وقيم الأطباء حالته باعتبارها خطيرة وتم وضعه على جهاز التنفس الصناعي على الفور.
ووفقا لمُساعدِته الخاصة، فإن “نافالني”، احتسى الشاي الأسود في أحد مقاهي مطار تومسك، مما يوحي بدلالات تشير على إمكانية تعرضه للتسمم. لكن الأطباء الروس أكدوا بعد إجراء الفحوصات اللازمة أنه لم يتم العثور على أي آثار للسموم في جسده.

كادت الأمور أن تستقر على هذا الحال، لولا أن تم نقله في تاريخ 22 أغسطس، لتلقي العلاج في أحد المشافي الألمانية الشهيرة ببرلين. وخلال وجوده في المشفى، فحصه خبراء ألمان وفرنسيين وسويديون وجميعهم أكدوا تعرضه للتسمم، وتحديدًا تعرضه للتسمم من قِبَل سم “نوفيتشوك” الروسي الشهير.
وتبادل الجانبان الاتهامات من حيث تأكيد الأوروبيين لتعرضه للتسمم من قبل المخابرات الروسية من جهة، ونفي الكرملين لهذه الادعاءات من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن حالة “نافالني” الصحية كانت قد بدأت بالفعل في التحسن في تاريخ 14 سبتمبر عندما تم فصله من على جهاز التنفس الصناعي، ومن أنه أصبح مُعاف تمامًا وتم السماح بخروجه من المشفى في 23 سبتمبر، إلا أن حدة هذه الاتهامات لم تخفت بشفائه، بل أن المشهد برمته تعقد بشكل أكبر.
رحلته.. من مريض إلى سلاح أوروبي جديد في وجه روسيا
استغلت الحكومة الألمانية الفرصة وبدأت في اتخاذ خطوات حقيقية ومساعي ملموسة على الأرض لردع روسيا.
ووفقًا للرواية الألمانية، فإن روسيا بالفعل استخدمت السم الفتاك على المُعارض. ومن هذا المنطلق، أعلنت الحكومة الألمانية أنها ستعمل على التوصل الى موقف مشترك بشأن وضع “نافالني” مع سائر أعضاء الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
تلى ذلك أن ناشد حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وبريطانيا العظمى والنمسا وليتوانيا وأوكرانيا، السلطات الروسية لاتخاذ خطوات جادة إزاء التحقيق فيما تعرض له “نافالني”.
بدأت بعد ذلك الصحف تتحدث عن إمكانية أن يتوصل وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي الى اتفاق بشأن فرض عقوبات على روسيا بسبب تسميمها لـ “نافالني”.

وشهدت الأحداث تصاعدا ملموسا بعد ذلك، تحديدًا في تاريخ 12 أكتوبر، عندما أبلغ الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، “جوزيف بوريل”، وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف”، بأنه يجري إعداد عقوبات على بلاده. وما كان من “لافروف” سوى أنه أطلق في اليوم التالي تهديدات للاتحاد الأوروبي يتوعدهم فيها بأن تتخذ بلاده ردود فعل عكسية حالة تم فرض عقوبات جديدة عليها.
لكن على الرغم من ذلك، لم تتراجع أوروبا، وتبنى البرلمان الأوروبي، 17 سبتمبر، قرارًا بشأن فرض عقوبات أكثر صرامة ضد روسيا على خلفية قيامها بتسميم “نافالني”، بما في ذلك أن يتم تجميد الأصول التي تنتمي للمتورطين في الجريمة لدى أوروبا، بالإضافة إلى انهاء مشروع بناء خط أنابيب الغاز المعروف باسم “نورد ستريم 2″، علاوة على مطالبات بإجراء تحقيقات دولية على أعلى مستوى فيما يخص هذه الجريمة.
ووفقا للمتوقع، فإن تداول الحديث عن وقف مشروع بناء خط أنابيب غاز “نورد ستريم 2″، لاقى قبولا أمريكيا. فقد سرعان ما أعلن مجلس الشيوخ الأمريكي بضم صوته الى صوت المطالبون بوقف بناء خط الغاز، وفي وقت لاحق، تبعه في نفس التوجه والمطالبات رئيس الوزراء البولندي “ماتيوس مورافيكي”، عندما أدلى ببيان يناشد فيه الأوروبيون بنفس الخطوة.
ومن ناحيته، عبر الكرملين عن رغبته بضرورة عدم الخلط بين حالة “نافالني” الصحية وبين عملية استكمال بناء المشروع الواعد بالنسبة للاقتصاد الروسي، أو بمعنى آخر، أن دعا الكرملين إلى ضرورة عدم تسييس هذا المشروع باعتباره مسألة اقتصادية في المقام الأول.
ووفقًا لتصريح المتحدث الإعلامي باسم الكرملين، “ديميتري بيسكوف”، “أنه مشروع تجاري يتماشى بشكل تام مع مصالح الطرفان بلاده ودول الاتحاد الأوروبي بوجه عام، والحكومة الألمانية على وجه التحديد”.
سيناريوهات محتملة
تقول رئيسة المفوضية الأوروبية، “أورسولا فون دير لاين”، خلال إحدى جلسات البرلمان الأوروبي، إن تسميم “نافالني” يُعيد الى الأذهان مشهد تعرض الضابط الروسي السابق، والذي كان يمارس مهام التجسس لصالح المملكة المتحدة البريطانية “سيرجي سكريبال”، وابنته “يوليا سكريبال”، للتسمم في المملكة المتحدة خلال عام 2018. وتابعت “أورسولا”، بأن أشارت الى أن هذه السلوكيات هي عبارة عن نمط متعارف عليه بالنسبة لموسكو. وعلى هذا الأساس طالبت “أورسولا”، بأن يتم الغاء المشروع.
من ناحية أخرى، تُعتبر تصريحات كبير علماء السُميات في منطقة أومسك الروسية، “ألكسندر ساباييف”، بتاريخ 4 سبتمبر، منافية للمنطق الى حد كبير. خاصة وأنه يُفسر الحالة الصحية المتُعثرة للغاية والخطيرة التي انهمك فيها “نافالني”، بأنها لا تعود الى تعرضه للتسمم، وشرح بأن أسبابها تعود إلى تناوله الكحول، أو الوجبات الغذائية السيئة، أو تعرضه للإجهاد والإرهاب، وعدم حرصه على تناول وجبة الإفطار بشكل جيد! وهو الأمر الذي يثير تساؤلات حول طبيعة ما أراد كبير العلماء الروسي اخفاؤه، نظرًا لأن تدهور حالة “نافالني” الصحية بهذا الشكل المفاجئ والسريع والخطير، يصعب معه أن يصدق حتى الإنسان العادي وليس الطبيب، أن يكون ما وصل اليه “نافالني” من تدهور كبير ناتج فقط عن مجرد الاجهاد أو الإرهاق مثلا!
على صعيد مواز، تؤكد وزارة الخارجية الروسية، أن موسكو بريئة تمامًا من هذه الادعاءات، وتضيف بأن الخبراء الغربيين كانوا يعملون على مركبات سم “نوفيتشوك” الكيميائية لسنوات عديدة. في إشارة إلى امتلاك أوروبا لذات السم الذي تدعي بأنه حكر على روسيا، أي أن هناك احتماليات للتورط الأوروبي في الجريمة.
إذا، نحن أمام عدد من السيناريوهات المتوقعة، في ضوء ما تقدم ذكره من تتابع أحداث، أولها: أن تكون روسيا قد لجأت بالفعل لتسميم المُعارض البارز، ولكن هذا السيناريو يتخلله تساؤلات حول مدى قدرة موسكو على استخدام نفس السم الشهير عالميًا بانتمائه الى روسيا، في حين أنها كانت تملك الفرصة والقدرة على استخدام أنواع سم أخرى متعددة تتيح لها قتله –إن أرادت- من دون تلطيخ أصابعها بالدماء. أي بمعنى آخر، لو كانت موسكو رغبت بالفعل في الإقدام على قتله، لماذا لم تعتمد على أي وسيلة قتل سوف تجعل من مسألة انهاء حياته مقيدة ضد مجهول وعصية على التحقيقات؟!
من زاوية أخرى، هناك سيناريو محتمل، بأن تَصُدق الردود الروسية إزاء مسألة تسمم “نافالني”، ويتضح في نهاية المطاف أن هذه عملية مُدبرة من قبل أوروبا. وفي حالة صدق هذه الرواية، سوف يكون من المحتم أن تشير جميع الأصابع الى رغبة القارة العجوز بوجه عام، وألمانيا بوجه خاص، في التملص من تعهداتها بشراء الغاز الروسي. خاصة بعد أن بدأت البدائل المرتقبة تلوح في الأفق، إما من ناحية خط الغاز الإسرائيلي الجديد الى أوروبا تارة، أو من ناحية إمكانات الغاز العملاقة المكتشفة حديثًا والتي لازالت قيد الاكتشاف في منطقة حوض شرق البحر المتوسط، التي يُقر جميع الخبراء أنها تسبح فوق بحيرة عملاقة من الغاز الطبيعي. من يدري! ربما تعتقد القارة العجوز أن الوقت قد حان لأجل التملص من قبضة احتياجاتها للغاز الروسي، الذي عادة ما يأتي حاملاً معه خضوع أوروبي أمام الدب الروسي.
السيناريو الثالث، أن تكون الحكومة الروسية بالفعل هي من أقدمت على تسميم “نافالني”، وفي هذه الحالة هنا من المحتمل ألا تكون القارة العجوز تنوي أبدًا الوصول الى طريقة لفض التزاماتها بشأن الغاز مع روسيا، وأن تكون كل النداءات والمطالبات لأجل التخلي عن مشروع “نورد ستريم 2”، هي مجرد مطالبات لا تخرج عن إطار التلويح، الذي لا يسعى لشيء سوى إذلال موسكو وإثارة قلقها فحسب.
وحتى اللحظة، قد يكون هذا هو السيناريو الأصدق، خاصة وأنه وفقًا لما أعلنته سُلطات الاتحاد الأوروبي، اليوم 15 أكتوبر، فقد تم بالفعل فرض عقوبات على 6 مواطني روس –من بينهم مسؤولون حكوميون بارزون- ومنظمة واحدة فقط على خلفية تعرض “نافالني” للتسمم. وبموجب هذا القرار، أصبح هؤلاء الأشخاص، ممنوعون من دخول الاتحاد الأوروبي، وسوف يتم تجميد جميع حساباتهم لدى البنوك الأوروبية. كما يتم حظر تعامل رواد الأعمال الأوروبيين مع معهد أبحاث الكيمياء العضوية والتكنولوجيا الحكومي الروسي. بمعنى آخر، إن اتضح في نهاية المطاف، أن الأصوات الأوروبية التي ما لبثت أن استغلت أزمة “نافالني”، حتى نادت بضرورة تجميد مشروع “نورد ستريم 2″، ليست أكثر من مجرد أصوات تصرخ فيتردد في الأجواء دوي صوتها.
باحث أول بالمرصد المصري