
الضوء الأخضر.. مشاريع التوسع التركية – الإيرانية وإدارة أوباما
كان مشهد ارتطام الطائرة “بوينغ 767” التابعة لشركة “أمريكان إيرلاينز” ببرج التجارة العالمي قبل عقدين من الزمن، وتحديدًا في تمام الساعة 8:46 من صباح يوم الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001؛ فارقًا في تاريخ الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط وسائر المناطق المرتبطة بها عضويًا على أصعدة الأمن والاقتصاد والسياسة والعسكرية.
تعرضت الولايات المتحدة لأكبر عملية إرهابية منذ نشأتها. وعلى إثر هذه العملية التي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي ومقر وزارة الدفاع الأمريكية، تشكلت الخريطة الجيوسياسية التي يعيشها العالم الآن بأبعادها المعقدة والعميقة بين مختلف القوي الدولية الرئيسية والإقليمية. فكان محرك هذه الخريطة “محددات” الأمن القومي الأمريكي بعد حادث الحادي عشر من سبتمبر، وتباعًا جدلية الإسلام السياسي بفروعه التنظيمية المختلفة من بدءًا من النظم السياسية ومرورًا بالمنظمات غير الحكومة وصولًا للتنظيمات المسلحة والإرهابية التي تدور في فلك الإطار الأيديولوجي للإسلام السياسي وأدبيات الحاكمية الإسلامية.
فجاءت الاستجابة الاستراتيجية الأمريكية إبان الحادث الإرهابي الأبرز في التاريخ؛ من خلال مرحلتين. الأولي، تولتها إدارة الرئيس بوش الابن وخَلُصت إلى الحل العسكري المجرد، واستخدام بل واستعراض فائض القوة العسكرية الأمريكية أمام العصابات المسلحة والجيوش النظامية المتهالكة في كل من أفغانستان والعراق. وبزرت في هذه المرحلة المقاربة الأمريكية لـ “محاربة الإرهاب”. فأرست إدارة بوش الابن دعائم وجودها العسكري الدائم بين نقطتين “أفغانستان” و “العراق”، ومن خلال هاتين النقطتين، اقتربت الارتكازات العسكرية الأمريكية الضخمة من الصين وروسيا وإيران في آنٍ واحد.
أما المرحلة الثانية، فتولتها إدارة الرئيس باراك أوباما، وتبنت هذه الإدارة استراتيجية “الاحتواء” لكل ما يمثل “إسلامًا سياسيًا” بنسختيه السنية والشيعية، كجزء من تصحيح مسار سياسات إدارة بوش الابن وجوقة المحافظين الجدد من الجمهوريين وعلى رأسهم مستشارة الأمن القومي الأمريكي الأبرز بعد هنري كيسنجر، “كونداليزا رايس”. إذ كلفت حروب الولايات المتحدة في الثماني سنوات لبوش الابن، دافعي الضرائب الأمريكيين حوالي 2.5 تريليون دولار. فضلًا عن آلاف القتلى والجرحى من القوات الأمريكية. المزاج الشعبي الأمريكي وقت تولي الرئيس أوباما للبيت الأبيض كان يبحث عن الارتداد للداخل، إلا أن ذلك الارتداد ما كان ليحقق المصالح الأمريكية وأجندة إدارة أوباما ذاتها، فتبنت الإدارة خيار “الاحتواء” للإسلام السياسي وكياناته وما تفزره من تهديدات عابرة للقارات.
وجاء الاحتواء مدفوعًا بسياقات تقليل الانخراط العسكري الأمريكي، وإيجاد “البدائل” لتفشي الظاهرة الإرهابية والتنظيمات المسلحة من الجيل الجديد، فسيطرت فكرة الديمقراطيين عن تصعيد نظم الإسلام السياسي الأقل تطرفًا لأنظمة الحكم في دول المناطق الملتهبة وقيام هذه الأنظمة الإسلاموية باحتواء الظاهرة الإرهابية وتقليل وامتصاص المزاج الإسلاموي الأممي، وذلك الصادر من نقاط جغرافية خارج المنطقة العربية “تركيا – إيران”.
إلا أن ذلك الاحتواء الأمريكي تحول تدريجيًا ومع الوقت إلى شراكة استراتيجية مع كيانات الإسلام السياسي المختلفة، شراكة تقوم على توظيف مختلف الأدوات، وترمي جميعهًا إلى نشر الفوضى بالمنطقة. ويمكن إبرازها كالاتي:
- حرص إدارة الرئيس أوباما على تصعيد حركات الإسلام السياسي لدوائر الحكم منذ اندلاع موجات ما يُسمي بالربيع العربي.
- الاعتماد على تركيا في القيام بمهام منوطة بالأساس بالدور الأمريكي مقابل الإقرار بمشروعها وتحركاتها.
- تخفيف الضغط على النظام الإيراني، بمحاولة دمجه في النظام الاقتصادي المعولم، ودفعه نحو الاتفاق النووي (5+1)، في العام 2015، سعيا لتفكيك البرنامج النووي الإيراني، مقابل رفع تدريجي لعقوبات ترتبط بالاقتصاد وشؤون التسليح في آن واحد.
من النقاط الثلاثة السابقة، برزت الخطوط العريضة للسياسات الأمريكية في إدارة الرئيس أوباما لقضايا الشرق الأوسط المتفجرة منذ بدء تنفيذ الطرح الأمريكي لمحاربة الإرهاب في عهد إدارة بوش. لكن تلك النقاط قد كُشف عنها تفاصيل تكتيكية كثيرة مع إعادة تسليط الضوء على وثائق سرية مسربة تخص نشاط وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون. بيد أن تلك الوثائق عبّرت عن رؤية إدارة أوباما وكلينتون لإعادة هندسة المشهد الأمني في المنطقة ضمن محددات طائفية وعرقية تعمل على إدامة الاقتتال والنزاع والاضطراب السياسي. وقد اشتملت الوثائق التي تصل في مجموعها إلى 35 ألف وثيقة -على أقل تقدير- على تحضيرات أمريكية استبقت وواكبت هبوب عواصف الربيع العربي. وتمثلت أبرز تلك التحضيرات على:
- تنسيق الجهود الرامية لترسيخ صورة نمطية إيجابية عن إدارة الرئيس أوباما في المنطقة، وتولت هذه المهام وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلنتون، وموظفتها المفضلة هوما عابدين التي عملت كضابط اتصال بين الخارجية الأمريكية والجماعات الوظيفية التابعة للإسلام السياسي من منظمات لقنوات إخبارية ذات نطاق إقليمي وعالمي.
وتضمنت رسائل البريد كذلك احتفاءً من قِبل شبكة قنوات الجزيرة بتعامل الرئيس باراك أوباما مع موجات الربيع العربي والأحداث في مصر وقتئذ. فضلًا عن زيارة هيلاري كلنتون لقطر في مايو من العام 2010، وإجراء مقابلات خاصة مع مدراء بشبكة قنوات الجزيرة ووزير الخارجية القطري آنذاك حمد بن جاسم.
- دعم تنظيم الإخوان بقناة فضائية وصحيفة مستقلة بتمويل قطري خالص. وتبلورت تلك الخطط في سبتمبر من العام 2012. لكن ثورة الثلاثين من يونيو حالت دون تنفيذ مشروع القناة والصحيفة على النحو الذي أرادته جماعة الإخوان، حيث تحولت قيادة الكيان الإعلامي “القناة – الصحيفة” لعزمي بشارة وباتت تعرف بتلفزيون العربي وصحيفة العربي الجديد، بإجمالي تمويلات بلغت 100 مليون دولار مصدرها الدوحة.
- إبطاء الاستجابة الخليجية لاحتواء التوسع الإيراني، كشف بريد إلكتروني لوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، أن الولايات المتحدة عارضت دخول قوات “درع الجزيرة” للبحرين عام 2011 لحفظ النظام. وجاء في البريد الإلكتروني، أن وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، أكد لكلينتون أن الأمر شأن خليجي داخلي. وفي الرسالة الإلكترونية أكد الشيخ عبد الله بن زايد أن إرسال قوات سعودية إماراتية إلى البحرين جاء بناء على طلب حكومة البحرين، والهدف هو استعادة النظام وأضاف أن ملك البحرين مدّ يده للصلح منذ فترة طويلة جدا، وأن دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى لن تقف مكتوفة الأيدي، بينما يأخذ آخرون البحرين رهينة، مشددا على أن الأمر “شأن خليجي داخلي”.
وتجدر الإشارة أنه أثناء عمل هيلاري كلينتون كوزيرة للخارجية في الفترة الأولي لإدارة الرئيس أوباما، تعاظم دور استخبارات الخارجية الأمريكية، حيث اشتملت مئات الرسائل السرية ببريد كلينتون على تقارير من مصادر عدة، أحاطت الخارجية الأمريكية بما كان يدور في اجتماعات جماعة الإخوان الإرهابية، وكذا بين الجماعة والرئيس المعزول محمد مرسي. ورؤيتها لنظام الحكم والعلاقة مع المؤسسات الأمنية والعسكرية.
أوضحت الوثائق تماهي الرؤى الإخوانية لمصر مع النموذجين التركي والإيراني من حيث شكل ودور المؤسسات الأمنية، بيد أن تلك الرؤية الباعثة على ترسيخ مبادئ الحاكمية والأصولية الإسلامية لم تلق أي اعتراضات أمريكية على الرغم من جوهرها المعادِ لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
وصلت السياسات الأمريكية لإدارة الرئيس أوباما ذروة تعاطيها مع المشهد الأمني المضطرب في المنطقة ففي الفترة الأولي (2009-2013)، لتثبيت جملة وقائع استراتيجية يمكن إبرازها على النحو التالي:
- إعطاء الضوء الأخضر للجماعات الوظيفية الاسلاموية المرتبطة بالمشروعين التركي والإيراني في المنطقة، بالبدء في ممارسة نشاطاتها السياسية وتعميق ارتباطاتها مع الكيانات العسكرية المتطرفة في محاولة للسيطرة عليها ضمن أجندات الرؤية الأمريكية لهندسة المشهد الأمني. ويعد النموذج الليبي هو الأكثر إيضاحًا على ذلك وخاصة في السنوات (2011-2012).
- السماح لإيران بالتمدد بالجناح الشرقي للمنطقة العربية، والتسرب ناحية الخليج. وتعد وثائق الرفض الأمريكي لدخول قوات درع الجزيرة الأكثر إيضاحًا. فبغض النظر عن التوصل للاتفاق النووي الذي أقر ضمنيًا بفرض إيران لبرنامجها النووي مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية وتحقيق انفراجة في حصولها على التقنية العسكرية المتقدمة؛ لم تقم الإدارة الأمريكية بتخليق كوابح لمشروع طهران التوسعي في العراق وسوريا واليمن.
ختامًا، أثبتت الوقائع الميدانية والسياسية في المنطقة أن جدلية الإسلام السياسي باتت من أهم محددات الأمن القومي الأمريكي، فيما انهزم مشروع تصعيد حركات الإسلام السياسي لاحتواء التنظيمات الإرهابية، حيث برهنت السنوات العشر الماضية على دوران الثنائي (حركات الإسلام السياسي + التنظيمات الإرهابية) في فلك أدبيات الحاكمية الإسلامية. وأن الاختلاف يكمن فقط في طريقة وصول هذه الكيانات للحكم لا في طريقة نظرتهم للعالم الخارجي وشكل النظام السياسي والمجتمعي.
ما يصعب القول إن الإدارة الأمريكية إبان فترتي أوباما قد نجحت في توظيف هذه الجماعات والكيانات والأنظمة الإسلاموية ضمن مصالحها، في شمال إفريقيا والشرق الأوسط؛ إذ باتت الأهداف الأمريكية على مرمى نيران هذه الحركات والتنظيمات في أكثر من ميدان، حيث اغتيل القنصل الأمريكي في ليبيا ضمن ظروف أمنية صاغتها إدارة الرئيس أوباما ووزيرته هيلاري كلينتون. وتنامى الخطاب العدائي تجاه الولايات المتحدة في نظامي تركيا وإيران وشبكة علاقتهما الاستراتيجية من بلدن وجماعات. لتظهر جدلية أخري مع جدلية الإسلام السياسي، وهي إلى أي مدى يمكن أن تحقق الفوضى الخلاقة، مصالح أجنحة الحكم الديمقراطية الأمريكية؟