إيران

ما بين العداء المتأصل والمد والجزر.. كيف انعكست تطورات العلاقات بين طهران وأنقرة على الصحف الإيرانية؟

خلال السنوات الماضية، وما بين عمليات الشد والجذب في العلاقات بين الفاعليَن الإقليميين إيران وتركيا، يُلاحظ أن الصحف الإيرانية تنطلق في تناولها للشأن التركي والعلاقات بين طهران وأنقرة من أسسٍ محددة، هي بالأساس تفسر طبيعة وأركان العلاقات القائمة بين الطرفين ليس فقط في الوقت الحاضر وتأثرها بمجريات وتطورات العلاقات الثنائية في الإقليم والعالم، ولكن من قديم الزمان.

وعند البحث في أعداد الصحف الإيرانية الناطقة بالفارسية خلال السنوات الماضية، يتضح لنا الكيفية التي تنظر من خلالها الصحافة الإيرانية إلى الجار التركي، وذلك استنادًا إلى أسسٍ وقواعدَ تنطلق منها في هذا التناول، إلى جانب بعض التأثيرات الوقتية واللحظية النابعة من التطورات في العلاقات بين الطرفين محليًا وإقليميًا ودوليًا. 

وفيما يلي، استعراضٌ لأهم هذه الأسس طبقًا للمادة التي تقدمها الصحف الإيرانية، والتي تنقسم بدورها إلى محافظة متشددة مثل “كيهان”، “خراسان”، “رسالت”، أو إصلاحية وأبرزها “اعتماد”، و”شرق”.

تركيا بالأساس منافسٌ وليست حليفة أو صديقة

ترتكز الصحف الإيرانية في تناولها للعلاقات مع الجار التركي على أساس وقاعدة رئيسية وهي أن أنقرة في جميع الأحوال منافس استراتيجي وتاريخي لطهران، سواء في عهود ما قبل 1979 أو ما بعد قدوم النظام الجديد في العام المذكور، وليست على الإطلاق “صديقة” لها. 

فتركيا وإيران تتازعان بشأن الكثير من أوجه القضايا الإقليمية وحتى الدولية وتسعيان لتقسيم النفوذ، وهذا هو أساس النزاع، وهو المحرك الرئيس والتوجه الذي تستند عليه الصحف الإيرانية في تناول التطورات المتلاحقة مع الجانب التركي بغض النظر عن طبيعة النظام القائم في طهران. وإلى جانب ذلك، للدولتين تاريخٌ طويل من الصراع المسلح منذ مئات السنين كان تقسيم النفوذ أحد أبرز دوافعه، وكان الاختلاف المذهبي أحد وسائل هذا الصراع وكذلك نتائجه المبكرة. فالجارتان لا تتبعان مذهبًا واحدًا، وهذا الأخير لا يزال أحد أهم عوامل تجدد النزاع بين الطرفين منذ مئات السنين. 

أحدثت هذه العواملُ، إلى جانب دوافع أخرى، فجوة في العلاقات بين الجانبين ألقت –وتلقي– بظلالها على طريقة تناول صحف إيران لتطورات العلاقات مع تركيا، على الرغم من تلاقي المصالح بشأن عددٍ آخرَ من القضايا، وجعلتها تنطلق بشكل عام في التناول استنادًا إلى ما يلي: 

الاختلاف بشأن تقسيم النفوذ إقليميًا ودعم موقف إيران:

ويختلف هذا الصراع الإقليمي من منطقة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال يبرز الشرق الأوسط كمسرح رئيس لهذه العمليات، إلا أن هناك مناطق أخرى تشهد هذه النزاعات كإقليم “ناجورني قره باغ” المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان.

  • الصراع في الشرق الأوسط:

فی 14 سبتمبر 2013، نشرت صحيفة “شرق” الإصلاحية الإيرانية مقالًا تحت عنوان “تحلیل القائد (حسين) علائي بشأن تطورات سوريا”(*) انتُقِد فيه الدورُ التركي داخل الأراضي السورية ودعمها للإرهابيين هناك. قالت الصحيفة إن المشهد في ذلك الوقت كان مهيأً لتركيا أن تلعب فيه دورًا خارجيًا تسبب بالأساس في تحول مجرى الأمور للأسوأ.

 كان ذلك في بدايات الحرب الأهلية السورية والاضطرابات الأمنية هناك. وقد تكررت هذه الانتقادات من قِبل الصحف الإيرانية تجاه الدور التركي في الإقليم خلال السنوات التالية وصارت أكثر وضوحًا، حتى جاءت صحيفة “فرهيختكان” المحافظة في 8 أكتوبر 2019 وكتبت تحت عنوان “السلطانية في خدمة الإرهاب”(*) منتقدة الرئيس التركي رجب طيب أدوغان وواصفة إياه بـ”السلطان الإرهابي”.

جاء ذلك المقال في ظل تصاعد المطالبات بتشكيل “منطقة آمنة” في شمال سوريا بين دير الزور والرقة في ذلك الوقت خاصة “بعد هزيمة الجماعات الإرهابية التي تدعمها تركيا”. 

وجّهت الصحيفة اللومَ إلى أردوغان قائلة إنه يرغب، آنذاك، في إقامة هذه المنطقة بحجة إعادة حوالي 3.5 مليون لاجيء سوري مقيم في تركيا، إلا أن هذه الحجة واهية، بل يرمي من خلالها إلى استمرار الاضطرابات في سوريا وإزالة خطر الأكراد وتنصيب الجماعات الإرهابية الموالية له في إدلب والحصول على النفط والغاز في الشمال السوري وكذلك إيجاد عمق إستراتيجي تركي داخل الأراضي السورية. 

ويُشار إلى أن هذا المقال تسبب في موجة توترات بين تركيا وإيران إلى الحد الذي صرّح فيه السفير الإيراني في تركيا، محمد فرازمند، في ذلك الوقت قائلًا إن طهران وجّهت إنذارًا إلى “فرهيختكان” على خلفية هذا المقال.

ومثلما تُظهر المقالاتُ حجمَ الصراع، تبديها الأخبارُ كذلك. وعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة “كيهان” المتشددة خبرًا كان عنوانه “فشل هجوم التكفيريين المدعومين من تركيا ضد 8 مدن شمال سوريا”.(*) جاء في النبأ أن رئيس مركز المصالحة بين الأطراف المتحاربة في سوريا، الأدميرال الروسي ألكسندر شيربيتسكي، أعلن هزيمة تكفيريي ما تمسى بـ “جبهة النصرة” المدعومة من الجانب التركي على يد الجيش السوري في 8 مدن في محافظات حلب وإدلب. 

إن الأهم من الخبر هنا هي الألفاظ المستخدمة فيه، فقد أضافت “كيهان” قائلة إن تركيا وروسيا وقعتا اتفاقًا في 5 مارس 2020 بشأن وقف إطلاق النار في محافظة إدلب السورية، “وكان من المقرر أن تكبح تركيا جماح تكفيريي جبهة النصرة، ولكن أنقرة على أرض الواقع تدعم هذه الجماعة الإرهابية وإرهابيين آخرين“. 

وکانت القوات الإيرانية في سوريا قد حذّرت تركيا في خطاب شديد اللهجة من التعرض لحلفائها هناك أوائل العام الجاري، وهو ما نشرته صحيفة “كيهان” في الأول من مارس 2020 تحت عنوان “مراكز الجيش التركي في متناولنا، تصرفوا بعقلانية!“.(*) دعت كيهان الأتراك إلى عدم التعرض للقوات الموالية لطهران، محذرة من استهداف القواعد العسكرية التركية والتي هي في متناول أيدي الإيرانيين والجماعات الموالية لها، ولكنها لم تستهدفها؛ طبقًا للاتفاقيات الموقعة.

وفي 30 أغسطس الماضي، نشرت “كيهان” مجددًا تحت عنوان “تأكيد عضو الحزب الحاكم التركي سعي أردوغان للغزو”(*) تؤكد أن “رجب طيب أردوغان رئيس الجمهورية التركية أظهر على أرض الواقع منذ عام 2011 أنه يسعى لاحتلال جزءٍ من التراب العراقي والسوري” وكذلك أجزاء من جورجيا وبلغاريا، وذلك تحت غطاء العثمانية الجديدة.

  • الصراع في القوقاز: 

إلى جانب الشرق الأوسط، تبرز منطقة القوقاز كمجالٍ للنزاع بين إيران وتركيا، وهو ما تظهره الصحف الإيرانية مؤخرًا خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد اندلاع الصراع بين باكو ويريفان.

 ففی 3 أكتوبر الجاري 2020، نشرت صحيفة “اعتماد” الإصلاحية تحت عنوان “مجموعة تسعى إلى تخريب العلاقات بين طهران وباكو(*) تحذّر من النشاط والدور التركي في الأزمة الأرذبيجانية الأرمينية في إقليم “ناغورني قره باغ” المتنازع عليه. تقول الصحيفة إن تركيا ترسل الإرهابيين إلى إقليم قره باغ، وتسبب تدخلُها في تحويل الوضع من سيء إلى أسوأ. 

وبشأن الجانب التركي، تتخذ الصحف الإيرانية بشكل عام موقفًا رافضًا لتدخل أنقرة في أزمة قرة باغ.

عدم الثقة بأردوغان ومعارضة سياساته الداخلية

تبدي الصحف التركية معارضة صريحة لأردوغان وحزبه بشأن تطورات السياسة الداخلية في تركيا. فالصحف تنتقد سيطرة حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 2002 على السلطة وسياساته المحلية بشأن عددٍ من القضايا، من بينها توجهات الحزب الاجتماعية. 

وفي هذا الشأن، أبرزت صحيفة “شرق” الإصلاحية تحت عنوان “أردوغان والشركاء منتصرون في الساحة السياسية، فاشلون في المجال الاجتماعي”(*) في عددها الصادر يوم 26 أغسطس 2014 الرفض الاجتماعي التركي لأردوغان وسياساته المحلية. حيث تتناقض طموح الشعب التركي في الحرية وما ينوي أردوغان وجماعته القيام، ومن بين ذلك مجال حقوق المرأة.

ومن ناحية أخرى، تنتقد الصحف الإيرانية ما قام به أردوغان وحزبه من تحويل تركيا من برلمانية إلى رئاسية يتمتع هو وحزبه فيها بالسلطات العليا. وهنا، تقول صحيفة “شرق” الإصلاحية في عددها الصادر يوم 21 يوليو 2018 تحت عنوان “أردوغان سيبدو أقوى بعد الفوز (في الانتخابات)”(*) إن فوز أردوغان في انتخابات الرئاسة، آنذاك، جعله يوحد ويسلط جميع القوى والنفوذ في يده، وقد انخفضت نسبة التأييد له بين المواطنين الأتراك بسبب هذه السياسات. وتؤكد الصحيفة أن حزب العدالة والتنمية التركي لديه سجلٌ كبير في الفساد. 

الدعوة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي مع تركيا خاصة في الوقت الحالي

تدعم الصحف الإيرانية توجه السلطات الإيرانية نحو إقامة علاقات تجارية رسمية قوية بين الطرفين؛ خاصة من أجل تخطي أزمة العقوبات الأمريكية والدولية التي تمر بها إيران في الوقت الحالي.

ومن بين ذلك، كتبت صحيفة “ايران” الحكومية يوم 9 سبتمبر الماضي تحت عنوان “محادثاتٌ اقتصادية بين إيران وتركيا”(*) تؤيد إجراء حوار مباشر وعلى أعلى مستوى بين أنقرة وطهران من أجل تعزيز العلاقات التجارية. ويبدو أن الصحف الإيرانية، خاصة الموالية بشدة للنظام، تتحول في هذه اللحظة إلى مادحٍ للنظام التركي حينما تتحدث عن التجارة.

فتقول صحيفة إيران في التقرير الذي نحن بصدده إن أنقرة وطهران عليهما التعاون في المجال التجاري “من أجل التغلب على مؤامرت العدو”، حسب زعمها. وهنا تبدو نبرة الحديث مختلفة تمامًا عما سبق من الخلاف الحاد والتنديد الصريح لدعم تركيا للإرهاب سواء في إقليم الشرق الأوسط أو القوقاز.

وتصف صحيفة “دنياي اقتصاد” في تقرير لها يوم 23 فبراير 2020 تحت عنوان “برنامج إيران وتركيا في مجال الاستثمار المشترك(*) العلاقات التجارية بين الطرفين بأنها “قديمة” و”تكمل بعضها البعض”. وتدعو الصحيفة، على لسان نائب الشؤون الدولية في الغرفة الإيرانية محمد رضا كرباسي، إلى تعزيز التعاون بين الطرفين في مجال التكنولوجيا والشركات والاستثمار المشترك والصادرات

الاستنتاج

إن الصحافة الإيرانية تنظر وتنطلق في تناولها بشكل عام لتركيا كمنافس أو خصم وليس كصديق، إلا أنها تتجه؛ نظرًا للتحولات الإقليمية والدولية، كفرض العقوبات الأمريكية على إيران والانهيار الذي يواجهه الاقتصادُ الإيراني، إلى محاولة خلق صديق تركي يكون بمثابة منفذٍ أو مخرج لها في أوقات الأزمة، وذلك سواء على الناحية السياسية أو الاقتصادية. ويُعد هذا نابعًا بالأساس من توجه الحكومة الإيرانية نفسها.

وتتسم الصحف الإصلاحية في إيران بأنها أكثر واقعية عند تناول طبيعة العلاقات مع تركيا، وذلك على النقيض من المحافظة المتشددة التي تميل في الغالب إلى آراء النظام، والتي بدورها هي الأخرى تميل، وإن كان بنسبة أقل، إلى ذوبان الجليد في بعض الأوقات للسبب المذكور آنفًا. وعلى ذلك، يمكن وصف طبيعة تناول هذه العلاقات بأنها “أصولية تشوبها البراجماتية” وتُعد في المجمل انعكاسًا ليس لسياسات النظام الإيراني على وجه الخصوص، بل انطلاقًا من طبيعة العلاقات بين الخصمين التاريخيين اللذين تجمعهما علاقات التنافس الاستراتيجي والصداقة المؤقتة.

+ posts

باحث بالمرصد المصري

علي عاطف

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى