مكافحة الإرهاب

جوانب غامضة.. متى “يبكي” الإرهابيون؟

تُركز معظم التحليلات المرتبطة بنشاط التنظيمات الإرهابية على طبيعة الهيكل التنظيمي، ومصادر التمويل، وآليات التجنيد، وغيرها من الأبعاد التي تحاول فهم طبيعة عمل تلك التنظيمات. إلا أن هناك جوانب وأبعادا أخرى لم يتم تسليط الضوء عليها، ما يحول دون تقديم رؤية شاملة وعميقة حول ماهيتها.

ولعل أبرز تلك الجوانب هي ظاهرة “البكاء” داخل التنظيمات الإرهابية، إذ إن تلك الظاهرة لم تحظ بالدراسة الكافية، وذلك في ضوء سببين؛ يتعلق أولهما بصعوبة الحصول على معلومات حول الحياة داخل تلك التنظيمات. وينصرف ثانيهما إلى عدم إنتاج تلك التنظيمات لنصوص صريحة تناقش فيها فكرة وفلسفة “البكاء”.

غير أن ممارسات “البكاء” تظهر في بعض الفيديوهات الدعائية وبعض الإصدارات الخاصة بها، ما يُشير إلى استعداد تلك التنظيمات لتسليط الضوء على حقيقة أن عناصرها “يبكون”. ومن ثّمَ، تسعى هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على ظاهرة “البكاء” داخل التنظيمات الإرهابية في محاولة لتقديم تفسيرات مختلفة قد تساعد على إزالة الغموض حول تلك الظاهرة.

مواقف متعددة

طبقًا دراسة ل “THOMAS HEGGHAMME” جاءت تحت عنوان “البكاء في الجماعات الجهادية الحديثة “WEEPING IN MODERN JIHADI GROUPS، هناك مواقف متعددة تبكي خلالها العناصر الإرهابية سيتم استعراضها على النحو التالي:

  1. الصلاة: إذ يبكي الإرهابيون أثناء الصلاة. وتجدر الإشارة إلى أن السيرة الذاتية “لعبد الله عزام” (زعيم العرب الأفغان في الثمانينيات) تُشير إلى أنه عرف ببكائه أثناء الصلاة. كذلك تحدث “عمر حمامي” (هو أمريكي الأصل انضم إلى حركة الشباب الصومالية)، عن البكاء الشديد  لقائد  متشدد داخل التنظيم على الرغم من مظهر الأخير القاسي.
  2. المواعظ والخُطب: تُمثل الخُطب والمواعظ مناسبة محفزة لبكاء الإرهابين. وهناك أمثلة عديدة في هذا السياق، إذ كان “عبد الله عزام” يبكي بشدة أثناء الخطب. وعلى نفس النهج سار “مامان نور” (قيادي في بوكو حرام) الذي كان ينهار من البكاء أثناء إلقاء خطب عن الجهاد. كذا يظهر “صقر الجهاد” ( وهو قائد بارز في جبهة النصرة) في مقطع فيديو يعود لعام2013 وهو يبكى أثناء دعوته لاتباعه للجهاد.
  3. الأناشيد الجهادية: يحظى الإنشاد الجهادي بشعبية كبيرة بين التنظيمات الإرهابية منذ الثمانينيات، ويشكل جزءا أساسيًا من عمليات التجنيد، حيث تحاول التنظيمات التأثير في الوجدان من خلال الأناشيد الجهادية. ونجد أن هناك عديد من الفيديوهات المتداولة لتنظيم “داعش” تُظهر مدى تأثر عناصره لدرجة البكاء حال الإنشاد الجهادي.
  4. قبل وبعد المعارك: هناك عديد من حالات البكاء في أوقات المعارك؛ إذ يبكي البعض قبل المعركة مباشرة لحرمانهم من فرصة المشاركة فيها لأي سبب من الأسباب. ويبكي آخرون بعد المعركة لعدم حصولهم على الشهادة (طبقًا لمفهومهم المغلوط عن فكرة الشهادة).
  5. معاناه الأمة: تبكي بعض قيادات التنظيمات الإرهابية نتيجة لما يعانيه المسلمون من مآسي (وذلك وفقًا لوصفهم). ولعل أشهر نموذج في هذا الصدد هو “أسامة بن لادن” (الزعيم السابق لتنظيم القاعدة)، حيث تم تداول كثير من الفيديوهات له تفيد تأثره الشديد بأوضاع المسلمين وبكائه على حال الأمة الإسلامية (طبقًا لرويته).
  6. فقد الرفاق: قد يلجأ الإرهابيون إلى البكاء حال فقدانهم أحد أفراد أسرهم، أو أحد رفقائهم. وفي هذا السياق، أشارت مجلة “الجهاد” في أواخر الثمانينيات إلى بكاء “أسامة بن لادن” على صديقه “أبي قتيبة” بعد وفاه الأخير. كذلك بكى الإرهابي” أبو حمزة المصري” أثناء محاكمته في الولايات المتحدة عام 2014 بعد أن تحدث عن حبه الشديد “لأسامة بن لادن” الذي قُتل في عام 2011.

دوافع محتملة

يُمكن تفسير بكاء العناصر الإرهابية في ضوء عدد من الدوافع، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:

  1. التأكيد على الصدق: يرتبط البكاء بالصدق والإخلاص، نظرًا للعلاقة بين البكاء والخوف من الله، حيث يتم تفسير البكاء التعبدي على أنه علامة على الإيمان الحقيقي و الالتزام بالقضية. وعليه، تحرص التنظيمات الإرهابية على إلقاء الضوء على ممارسات البكاء داخل صفوفها من خلال المنتجات الدعائية المختلفة للترويج المغلوط لصدق وتقوى عناصرهم.
  2. التجنيد: تسعى التنظيمات الإرهابية إلى توظيف ممارسات البكاء في التجنيد، حيث تعمل على التأثير في الحس العاطفي لدى الأفراد التي ترغب في اجتذابهم لصفوفها، إذ يتم استخدام الدموع كمدخل إلى أذهان المتطرفين لإقناعهم بالانضمام من ناحية، وكسب تعاطفهم من ناحية أخرى.
  3. وسيلة للترقي: يُعد البكاء داخل التنظيمات الإرهابية وسيلة للترقي، إذ اشارت مصادر مختلفة إلى أن بعض العناصر الإرهابية تبالغ في ممارسات البكاء الديني من أجل التدرج في المناصب القيادية داخل التنظيمات الإرهابية، ما يُؤكد على الطبيعية الانتهازية لهؤلاء.
  4. اتباع نهج السلف: تسعى التنظيمات الإرهابية خلال تعاطيها مع ممارسات البكاء إلى اتباع نهج السلف المتمثل في سلوك الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة، إذ تزخر السيرة النبوية بمواقف عديدة بكى فيها سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وذلك في محاولة منها لتقديم صورة غير حقيقة مفادها أنها تتبع صحيح الدين وتنتهج السنة النبوية، إلا أن الممارسات الإرهابية التي تنتهجها تنفى هذا الطرح على إطلاقه.
  5. التعامل مع الصعوبات: يُعد البكاء بمثابة تطهير للنفس من المشاعر السلبية، حيث يساعد العناصر الإرهابية على التعامل مع الإجهاد النفسي الشديد الذي يتعرضون له خلال نمط معيشتهم، إذ تُعرِض معظم التنظيمات الإرهابية أعضائها لأهوال الحرب، وخطر الموت، والإصابة، والأسر. ومن ثَمّ يُعد البكاء مخرج لتلك العناصر لتخفيف الضغط النفسي والتكيف مع ظروفها.

دلالات مختلفة

في ضوء ما تقدم هناك جُملة من الدلالات، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:

أولًا: قد يَفترض المراقبون أن التنظيمات الإرهابية تتبع سياسات مقيده للبكاء، إلا أنه في ضوء المعطيات سالفة الذكر نجد أنها أقرب إلى اتباع النهج “المتسامح” أكثر من اتباع النهج “المُقيد” في التعاطي مع البكاء، حيث تتم ممارسة البكاء في مواقف متنوعة ومتعددة.

ثانيًا: تُشير المواقف التي تم استعراضها والمتعلقة ببكاء عناصر التنظيمات الإرهابية، إلى إن معظم دوافع البكاء كان محركها ديني تعبدي. ولكن نتيجة لغياب مصادر مباشرة ودقيقة عن الحياة داخل التنظيمات الإرهابية، فمن الصعب معرفة هل هناك دوافع أخرى للبكاء. بعبارة أخرى، هل يمكن أن تكون دوافع البكاء الحنين إلى الأهل، أو الخوف من القتل، أو غيرها من الأسباب البعيدة عن الدوافع الدينية.

ثالثًا: يُمكن القول إن تقدير التنظيمات الإرهابية للدموع هو تقدير انتقائي ولا ينطبق إلا على البكاء الديني، فغالبًا ما تسخر العناصر الإرهابية من الأعداء الذين يبكون من الخوف أو الحزن، ما يُشير إلى أنهم يعتبرون هذا البكاء غير رجولي. ويُعد هذا الطرح مُرتبط بالدلالة الثانية سالفة الذكر، فيمكن أن تكون هناك دوافع أخرى لبكاء العناصر الإرهابية، إلا أنهم يخشون الإعلان عنها نتيجة لخوفهم من النقد والسخرية.

رابعًا: يُعد تسليط التنظيمات الإرهابية الضوء على ممارسات البكاء لعناصرها من خلال إصدارتها، دليل واضح على الطبيعية البرجماتية التي تتميز بها تلك التنظيمات، حيث تسعى إلى إرسال رسالة  غير حقيقة مفادها تقوى وإخلاص عناصرها، رغبة في التأكيد على أنهم لا يقاتلون لأسباب مالية أو لأسباب شخصية وإنما محركهم عقائدي. وتجدر الإشارة إلى أن البكاء لا يُؤثر على ممارسات التوحش داخل تلك التنظيمات؛ إذ أن “أبا مصعب الزرقاوي” يُعرف في نفس الوقت بكنيتي “الذباح” والبكاء”.

خامسًا: تتنوع و تتعدد أساليب التجنيد التي تتبعها التنظيمات الإرهابية، ويمكن القول إن توظيف البكاء في التجنيد يأتي ضمن استراتيجية أكبر لدى التنظيمات الإرهابية تستهدف التأثير في الوجدان العاطفي، من خلال الدموع، والأغاني الحماسية، والأناشيد الجهادية، والشعر. وبالتالي تلجأ التنظيمات الإرهابية إلى توظيف أدوات “القوة الناعمة” في التجنيد.

مجمل القول، تسعى هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على ممارسات البكاء داخل التنظيمات الإرهابية في محاولة للتعرف على دوافعها وتفسير أبعادها، ما قد يساعد في تقديم فهم أكثر عمقًا للعقلية الإرهابية من ناحية، ونظرتها للعالم من ناحية أخرى، وذلك من أجل الوقوف بالتحليل والتفسير على أبعاد أخرى لفهم الظاهرة الإرهابية من منظور مختلف.

المصادر

THOMAS HEGGHAMMER, WEEPING IN MODERN JIHADI GROUPS, 14 September 2020 ,https://academic.oup.com/jis/article/31/3/358/5905072

Thomas Hegghammer, ‘Jihadi weeping’ in Sabine Schmidtke (ed.) Studying the Near and Middle East at the Institute for Advanced Study, 1935-2018 (Piscataway, NJ: Gorgias Press, 2018https://hegghammer.files.wordpress.com/2019/12/weeping-chapter.pdf

+ posts

باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

تقى النجار

باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى