
لبنان بدون حكومة.. عودة للمربع الخالي ومستقبل معلق
لم يخرج مسار تشكيل الحكومة اللبنانية بعد اختيار مصطفى أديب (31 أغسطس) عن الإطار المتوقع من هيمنة الأعراف التي سيطرت على مسارات تشكيل الحكومات السابقة، حتى مع المبادرة الفرنسية التي رسمت خارطة طريق تعهدت القوى السياسية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالالتزام بها في تشكيل الحكومة. مما أدى إلى اعتذار أديب عن التكليف (26 سبتمبر) ودخول لبنان في مرحلة جديدة من مراحل عدم الاستقرار على كافة الصُعُد والتي يعيشها منذ شهور، وتفاقمت مع انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس).
مسار تشكيل الحكومة
- ترحيب شكلي
كان يُعوَّل على حكومة أديب أن تُخرج لبنان من محنته الاقتصادية عبر اجتذاب الدعم الدولي وتركيز جهود الإعمار الدولية للبلد المنكوب، والدخول في مسار إصلاح اقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. ولذلك كان الإصرار الدولي على أن تكون هذه الحكومة حكومة مختصين تُشكّل بعيدًا عن المحاصصة الحزبية والطائفية التي عهد لبنان على تشكيل حكوماته بها طيلة العقود الماضية، وكانت جزءًا من أزماته التي يعانيها وأوصلته إلى وضعه الراهن.
تعاطت كل القوى الفاعلة في السياسة اللبنانية مع مبادرة الرئيس الفرنسي بترحيب، متعهدة له بتشكيل هذه الحكومة المستقلة، مؤكدة أهمية الانتقال بلبنان ليكون دولة مدنية “بعيدًا عن حقوق الطوائف والمحاصصة بينها التي باتت عائقًا أمام أي تطور وإصلاح” وفق الرئيس اللبناني ميشال عون والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطابين منفصلين (29 – 30 أغسطس).
بيد أن تلك المحاصصة كانت هي المتحكم في تشكيل الحكومة، بعد أن أصر حزب الله على أن يختار دون غيره وزير المالية وكافة الوزراء المنتمين للطائفة الشيعية في الحكومة الجديدة، في حين كان يهدف مصطفى أديب إلى مداورة الحقائب الوزارية بين الطوائف. ويؤكد ذلك أن توافق القوى السياسية على اختيار أديب لتشكيل الحكومة كان توافقًا شكليًا، بينما ظل التقاسم والمحاصصة أساسًا لدى هذه القوى لتشكيل الحكومة.
- “خيانة جماعية”
وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (27 سبتمبر) الأمر بعد اعتذار مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة بـ”الخيانة الجماعية” من قبل القوى السياسية اللبنانية، مؤكدًا أن جميعها تتحمل المسؤولية وستدفع الثمن أمام الشعب اللبناني. وخص ماكرون بالذكر الثنائي الشيعي (حزب الله – حركة أمل) وعرقلتهما لمسار تشكيل الحكومة، قائلًا “أراد البعض تعزيز قوة معسكرهم وليس قوة لبنان بجعل تشكيل الحكومة قضية طائفية وعلى الجماعة الشيعية إزالة الغموض الذي يكتنف موقفها على الساحة السياسية ولا بد لحزب الله اللبناني أن يوضح خلال الأسابيع القليلة المقبلة ما إذا كان يمثل قوة سياسية جادة للمساعدة في تنفيذ خارطة طريق للبلاد أو ميليشيا تتلقى الأوامر من إيران”.
وتأتي هذه التصريحات الأخيرة لماكرون، ولا سيّما تلك التي تخص حزب الله مغايرة للتصريحات التي أطلقها بشأن الحزب أثناء زيارته إلى بيروت في أعقاب انفجار المرفأ؛ إذ قال حينها إن “حزب الله يمثّل جزءًا من الشعب اللبناني ومن انتخبوه، ولا يمكنني القول إنه يجب تغيير الطبقة السياسية بأسرها. فهناك انتخابات وعلى الشعب أن يقرر ويفرز واقعًا سياسيًا جديدًا إذا أراد ذلك”. وهي التصريحات والمبادرة التي استغلها حزب الله وحلفاؤه في كسب الوقت وتثبيت مواقعهم داخل المشهد السياسي، وقلب الضغوط الدولية والشعبية عليهم بعد انفجار مرفأ بيروت إلى أدوات دعم وتسويق، وهو ما مكّنهم الآن من اتخاذ مواقف أكثر قوة داخليًا وخارجيًا.
- تمسك بمبادرة باريس
انبرت كل القوى السياسية اللبنانية بعد حديث ماكرون للتأكيد على تمسكها بالمبادرة الفرنسية كمخرج لحل الأزمة السياسية في لبنان، حتى تلك القوى التي كانت سببًا في عرقلة تشكيل الحكومة وفق ما اقتضته المبادرة. فأكد الثنائي الشيعي تمسكهما بالمبادرة وموقفهما “الملتزم والداعم لنص المبادرة الفرنسية”. وكذلك الرئيس اللبناني ميشال عون ورؤساء الحكومة السابقين (تمام سلام – نجيب ميقاتي – فؤاد السنيورة – سعد الحريري). فضلًا عن بقية المكونات السياسية التي رفضت أثناء مشاورات حكومة أديب سعي حزب الله للتفرد بوزارة المالية.
وجدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإطار الزمني لمبادرته من4 إلى 6 أسابيع أخرى، يقوم خلالها لبنان بتشكيل حكومة جديدة وفق الأسس التي جاءت في المبادرة وهي أن تكون حكومة إصلاحية مستقلة مهمتها تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية وتوجيه المساعدات الدولية في مسار إنقاذ البلاد. إلا أن هذا الإطار الزمني الجديد ومحاولة إعادة بث الروح في مبادرة باريس بعد أن تعثرت بفشل مصطفى أديب في تشكيل الحكومة ستُواجه ببعض المتغيرات والتحديات.
متغيرات حاكمة
- تشبث حزب الله
نجح حزب الله في إعادة التموضع في المشهد اللبناني بعد فترة من الضغوط الشعبية والدولية والتي بدأت مع حراك اللبنانيين (أكتوبر 2019) ثم مع سقوط حكومة حسّان دياب (10 أغسطس) بعد كارثة بيروت. ومن هذا المنطلق كان إصرار قوى 8 آذار (حزب الله – حركة أمل – التيار الوطني الحر) على الحفاظ على مكتسباتهم في السياسة اللبنانية منذ عقود والتي نجحوا في عبور ضغوط تغييرها. ومن ثم جاء الإصرار على اختيار وزير المالية من قبل الثنائي الشيعي والذي يضمن لهما ما يُسمّى بـ”الثلث الضامن” أو “الثلث المعطل” الذي يمنحهما حق إقرار أو رفض أي قرار داخل مجلس الوزراء.
وفرض حزب الله بعد اعتذار أديب لغة جديدة في التعاطي مع الأزمة الحكومية من خلال خطاب الأمين العام للحزب حسن نصر الله (29 سبتمبر) مفادها أنه صاحب الأكثرية النيابية التي لا يمكن تجاوزها، وأنه لن يقبل بحكومة لا يشارك فيها “لحماية ظهر المقاومة” وأنه لا مناص من أن يختار الثنائي الشيعي وزير المالية لضمان ارتهان إرادته وقراره لهما، وأن الحزب سيقبل أن يكون تشكيل الحكومة الجديدة مثل تشكيل حكومة حسّان دياب وليس أقل من ذلك، ولن يقبل بالخروج عن الأعراف الحاكمة لتشكيل الحكومة منذ 2005 أو القفز على الأكثرية النيابية، وكذا لن يقبل بأن ترهن الحكومة الجديدة مستقبل اقتصاد لبنان لصندوق النقد الدولي وهو مطلب كذلك للتيار الوطني الحر.
تشير تلك الثوابت التي عبّر عنها نصر الله في خطابه إلى أن حزب الله وإن أعلن استمرار ترحيبه وتمسكه بالمبادرة الفرنسية فإنه لا يقبل بتنفيذ هذه المبادرة على أرض الواقع إلا بشروطه، وأنه بات ينطلق من أرض صلبة غير آبه بالعقوبات التي لوّحت بها فرنسا أو بعودة العزلة الدولية على لبنان إذا جاءت الحكومة الجديدة لا تلبي تطلعات القوى الدولية والعربية، مُعيدًا بذلك ما طرحه من قبل عن التوجه شرقًا نحو إيران والصين للحصول على الدعم المالي والاقتصادي. فضلًا عن أن حديثه عن “حماية ظهر المقاومة” يعني أن قضية نزع سلاح الحزب غير واردة وليست محل نقاش.
- ترسيم الحدود مع إسرائيل
أعلن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري (5 أكتوبر) التوصل إلى اتفاق إطار يمهد لمفاوضات بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البرية والبحرية بينهما يتولاها الجيش اللبناني برعاية رئيس الجمهورية والحكومة. ومن ثم ستلعب الحكومة المقبلة دورًا مهمًا في هذا الملف، ولذا فإن حزب الله سيكون أكثر إصرارًا على الوجود في هذه الحكومة.
ويُسهم هذا الاتفاق الإطار في استمرار تخفيف الضغوط على الطبقة السياسية اللبنانية، ونجاح مساعيها في إعادة التموضع في السياسة اللبنانية في مقابل ترحيبها بهذا الاتفاق الذي كانت أمامه الكثير من العوائق منذ عام 2009، والانطلاق في هذه المفاوضات باعتراف من لبنان –وخاصة حزب الله- بوجود إسرائيل ولمدة زمنية لم يُوضع سقف لها. ويبقى هذا الملف أحد الأدوات المهمة التي ستمسك الولايات المتحدة بزمامها في إطار استراتيجيتها المستقبلية للبنان والتي تنتظر كل القوى اللبنانية ظهور ملامحها مع نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية (3 نوفمبر).
- ملامح لدور روسي
مع تعثر المبادرة الفرنسية باعتذار مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة ظهرت تحركات روسية على المشهد اللبناني من خلال التواصل مع الأطراف اللبنانية، بدءًا بلقاء نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف بالسفير اللبناني لدى موسكو شوقي بو نصار (27 سبتمبر)، ثم إجراء بوجدانوف اتصالات مع زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط (28 سبتمبر) ورئيس الوزراء السابق سعد الحريري (2 أكتوبر). مع حديث عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى لبنان أواخر الشهر الجاري.
يمكن إيعاز هذه التحركات الروسية في لبنان –حسب مراقبين- إلى رغبة موسكو في دعم المبادرة الفرنسية وإيجاد سبيل جديد بين القوى اللبنانية لتنفيذ هذه المبادرة وفق المتغيرات التي طرأت أثناء عملية التشكيل الأولى التي انتهت باعتذار أديب، وهنا يمكن لروسيا أن يكون تدخلها في هذا الملف عن طريق التباحث مع إيران بوصفها المحرك الرئيس لتحركات حزب الله في لبنان. وكذلك فإن الاهتمام الروسي بلبنان يمكن تفسيره بالدور الذي يلعبه لبنان منذ عقود فيما يخص سوريا. فسوريا تتجه حسب بعض المؤشرات إلى تسوية محتملة بتفاهم بين واشنطن وموسكو، ولذا فمن المهم أن تشمل تلك التسوية الملف اللبناني وأن يكون لموسكو دور مهم فيه؛ نظرًا لأهمية لبنان لمصالحها في سوريا. أو أن يكون الملف اللبناني جزءًا من ترسيم الخريطة الجديدة لصراعات المنطقة.
مستقبل معلّق
تشير كافة المعطيات بجلاء إلى أن كل سُبل الحل في لبنان باتت متوقفة على الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وخاصة بعد المهلة الزمنية الجديدة (6 أسابيع) التي أعطاها الرئيس الفرنسي لمبادرته والتي تنتهي (8 نوفمبر) بعد أن يتحدد شخص الرئيس الأمريكي المقبل، وما سيترتب عليه من اختلاف نهج التعاطي الأمريكي مع الملف اللبناني وملفات المنطقة.
ويعني ذلك أن الأطراف في لبنان سيتمهلون حتى هذا الموعد، ومن ثم ستستمر حكومة رئيس الوزراء المستقيل حسان دياب في مهمة تصريف الأعمال ريثما تبدأ المشاورات الخاصة باختيار رئيس الوزراء الجديد، خاصة وأن تصريحات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عن نهج حزبه في التعاطي مع الحكومة الجديدة قد عمّق الخلاف مع بعض القوى، ومنهم رؤساء الحكومة السابقين.
ولكن هذا التعقيد على المستوى السياسي يسير بمعزل عن تعقيد أعمق على المستوى الشعبي تزداد وتيرته مع تعمق الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها اللبنانيون منذ أكثر من عام، وازدادت مع انفجار مرفأ بيروت؛ إذ ارتفع سعر صرف الليرة اللبنانية في السوق السوداء إلى 8700 ليرة مقابل الدولار، ويستمر الاحتياطي الدولاري في التضاؤل بشكل مطرد، ويعاني القطاع الصحي بشكل كبير مع استمرار أزمة فيروس كورونا بمعدلات كبيرة. مما يشير إلى أن لبنان قد لا يحتمل الانتظار حتى الانتخابات الأمريكية، ويدخل مرحلة جديدة من الفوضى أو الاقتتال. مع تزايد معدلات الجريمة بشكل مطرد، وتقارير عن زيادة نسب مبيعات الأسلحة، وعودة المخاطر الإرهابية لتطل برأسها من جديد في الشمال اللبناني. ومن ثم قد تقود كل هذه العوامل لبنان إلى التحلل التدريجي وصولًا إلى الانهيار.
باحث أول بالمرصد المصري