أوروبا

مواجهة حتمية.. كيف تواجه فرنسا شبكات الإسلام السياسي وداعميها؟

مثل العام 2015 نقطة تحول في الذاكرة السياسية للجمهورية الفرنسية تجاه نظرتها لظاهرة جماعات الإسلام السياسي ولاسيما تلك الموجودة داخل نسيجها الاجتماعي، وطريقة معالجتها لتحديات هذه الظاهرة. ففي 13 نوفمبر من العام 2015 كانت فرنسا على موعد مع سلسلة هجمات دموية إرهابية متزامنة، شملت إطلاق نار جماعي واحتجاز رهائن وتفجيرات انتحارية في ستة مواقع متفرقة داخل العاصمة باريس. 

حيث اقتحم مسلحون مسرح “باتاكلان” وأطلقوا النار بشكل عشوائي فيما احتجزوا رهائن، وأطلق فريق آخر من المسلحين النار في شوارع، بيشا – أليبار – دي شارون، كما كان هناك ثلاثة تفجيرات انتحارية في محيط ملعب فرنسا بضاحية باريس الشمالية.

وكانت الحصيلة البشرية الأعلى من الخسائر في مسرح “باتاكلان” نتيجة تفجير المهاجمين أنفسهم بعد مداهمة الشرطة للمسرح والاشتباك المسلح مع المهاجمين، أسفرت الهجمات عن مقتل 130 شخص منهم 89 كانوا في مسرح “باتاكلان”. وتعتبر هذه الهجمات الأكثر دموية في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، والأكثر دموية في الاتحاد الاوروبي منذ تفجيرات قطارات مدريد 2004.  

https://www.youtube.com/watch?v=JFEorX4lDCo&bpctr=1601902822&ab_channel=RTArabic

لم تمضِ أكثر من 24 ساعة على هجمات باريس وقتذاك حتى أعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عن الهجمات الدموية، وجاءت ردة الفعل الفرنسية على مستويين، داخليًا وخارجيًا. ففي الداخل أعلنت فرنسا حالة الطوارئ في كافة أرجاء فرنسا وإعادة المراقبة على الحدود، وتم إطلاق خطة أورسون أو الخطة البيضاء واستدعاء نحو 1500 جنديًا فرنسيًا إضافيًا، علاوةً على بدء الشرطة وقواتها الخاصة في عمليات تعقب منفذي الهجمات ومهاجمة أوكارهم في الأحياء الباريسية، ولاحقًا نجحت الشرطة الفرنسية في تصفية مدبر الهجمات وهو “عبد الحميد أبا عود” في 18 نوفمبر من ذات العام. أما على المستوى الخارجي فشنّت مقاتلات الرفال الفرنسية سلسلة من الضربات المكثفة ضد أهداف للتنظيم في عاصمته آنذاك محافظة الرقة السورية.

منذ ذلك الحادث، وقفت فرنسا أمام لحظة اختبار لمجمل قدراتها على درء التهديدات الإرهابية المنبثقة عن أدبيات الإسلام السياسي بنهج استباقي متعدد النماذج والصور قانونيًا وعسكريًا، وعلى دوائر الداخل والخارج. حتى تبلورت احدى أبرز هذه الطرق التي تُعبّر عن نظرة الجمهورية الفرنسية لإشكالية الإسلام السياسي المتفاقمة من كتلة معتبرة للمواطنين المسلمين تصل لستة ملايين نسمة، وتصاعد احباط العمليات الإرهابية؛ في إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجمعة الماضية، 2 أكتوبر، عن مشروع قانون ضد ما أسماه “الانفصال الشعوري”. ويهدف مشروع القانون حسبما صرح ماكرون؛ لمواجهة التطرف الديني وحماية قيم الجمهورية الفرنسية.

وتطرق ماكرون في حديثه الجمعة الماضية لإشكالية “الإسلام السياسي” في فرنسا، من زاوية تحول الأحياء السكنية إلى مجتمعات منغلقة على نفسها، في إشارة للأحياء التي يقطنها مسلمون سواء كانوا مواطنون فرنسيون أم لاجئون. فيما قال ماكرون أن الدين الإسلامي يواجه أزمات عميقة ليس في فرنسا وحدها وإنما في سائر أنحاء العالم نتيجة للارتباطات بين الجماعات الأصولية والمشاريع الدينية والسياسية.

واجهت تصريحات الرئيس الفرنسي مواقف متباينة بين التنديد من قطاعات إسلامية وحقوقية، والتأييد من قِبل دوائر الساسة والقطاعات القانونية والمؤسساتية في الجمهورية الفرنسية والاتحاد الأوروبي. إذ تركزت تصريحات ماكرون على شق التطرف في الجانب الإسلامي فقط، وتناولته في حدة ووضوح بيّن؛ ما أثار حفيظة القطاعات الإسلامية داخل فرنسا، وعلى قدر هذه الضجة التي احدثتها التصريحات جاء مشروع القانون الفرنسي الجديد للحفاظ على قيم الجمهورية الفرنسية محيطًا بجوانب غفلت عنها المحاولات السابقة منذ عهد ساركوزي. فكيف جاء مشروع القانون ولماذا؟

مشروع القانون الفرنسي أمام أعقد شبكة للمنظمات الإسلامية في غرب أوروبا

تضم فرنسا أكبر أقلية مسلمة في غرب أوروبا بتعداد يصل لستة ملايين نسمة، وفي العقود الثلاثة الماضية ارتبط الأثر السياسي والأمني الذي تحدثه الجالية بعدة محددات أبرزها مزاجها وقابليتها للاندماج في المجتمع الفرنسي ومؤسساته الاجتماعية والسياسية والأمنية، وسقف توظيف هذه الأقلية ضمن أجندات فوق وطنية ومرتبطة أكثر بأدبيات الحاكمية والأممية الإسلامية.

حيث شهد عقد الثمانينات بداية تأسيس البنى الهيكلية للمنظمات الإسلامية. حيث وضع اللبنة الأولى لهذه الهياكل؛ تنظيم الإخوان المسلمين. حيث أسسوا “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا”، عام 1983. ويضم الاتحاد 7 جمعيات خاصة أبرزها “جمعية طلاب فرنسا المسلم” و “المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية”. ويعد الأخير الأبرز على الساحة الفرنسية والأوروبية من حيث مهامه الوظيفية واندماجه في مؤسسة التعليم العالي الفرنسية وحجم منتوجه للجالية المسلمة في فرنسا وغرب أوروبا. 

حيث يعتبر المعهد الأوروبي المسؤول الأول عن تخريج دفعات الأئمة وتعليم اللغة العربية في فرنسا. وبدأ المعهد العمل في باريس في يناير عام 2001 بنحو 180 طالبًا، وشارك في افتتاحه القيادي في تنظيم الإخوان يوسف القرضاوي، الذي أعلن أنه سيسعى لتخريج أئمة ومعلمين يدركون النصوص الدينية ويفهمون السياق الأوروبي. وفي عام 2009، اعترفت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في فرنسا بالمعهد الأوروبي كمؤسسة تعليم عالٍ معتمدة، واستقطب هذا الاعتراف عددًا أكبر من الطلاب على التسجيل بالمعهد ليصل عدد الطلاب الملتحقين به إلى نحو 2000 طالب بحلول عام 2012. 

تجدر الإشارة أن شبكة المنظمات الإسلامية في غرب أوروبا عامةً، وفرنسا تحديدًا، انتهجت سياسة اندماجية مع الدول المستضيفة لها، وعملت وفقاً للقوانين واللوائح المُنظمِة، حتى بداية موجات ما يُسمى بالربيع العربي، وتفشي الظاهرة الإرهابية العابرة للحدود؛ وتصاعد توظيف هذه الجماعات لمحاولة تطويع الجاليات المسلمة ضمن مشاريع الإسلام السياسي، وكان من ملامح ذلك: 

  1. ارتباط بعض المنظمات الإسلامية بالعناصر الإرهابية التي شنت هجمات دامية، حيث كشفت صحيفة “لوباريزيان” الفرنسية أن كثيرًا من المتورطين في هجمات إرهابية في فرنسا مروا بهذا المعهد ودرسوا به، وذلك إثر تحقيق فتحته باريس في إبريل الماضي. 
  2. حصول المنظمات الإسلامية على تمويلات قطرية، حيث أفادت تقارير بتمويل قطر لأكثر من 20 منظمة إسلامية في فرنسا، حيث دعت عضوة مجلس الشيوخ الفرنسي “ناتالي جوليه” في مقال لصحيفة “لوفيجارو” الفرنسية، إلى ضرورة تحلي السلطات الفرنسية باليقظة تجاه المنظمات الإخوانية التي تسهم في نشر التطرف في فرنسا، بدعم وتمويل من قطر. ففي السنوات الثلاثة الماضية أغلقت فرنسا نحو 250 مؤسسة ومدرسة تنشر آيديولوجيا انفصالية.

وكانت “جوليه” قد ترأست لجنة تحقيق بشأن التنظيم ووسائل مكافحة الشبكات الإرهابية في فرنسا وأوروبا، بمجلس الشيوخ. واتصالًا بهذا السياق، فتحت الحكومة الفرنسية تحقيقًا بشأن تمويل المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية التابع لتنظيم الإخوان المسلمين. 

انعكاسات الاشتباك المباشر بين فرنسا وتركيا في بؤر الصراع

مع تبني تركيا لمشروع توسعي أممي يقوم على توظيف مختلف أدوات الإسلام السياسي وتنظيماته وخاصة تنظيم الإخوان المسلمين، اصطدمت تركيا في ثوبها الأممي الجديد بمناطق النفوذ الفرنسية في أكثر من بؤرة توتر، بل؛ حرصت باريس على الاستباق وكبح جماح السياسات التركية في مناطق بعيدة بعض الشيء عن مجالها الحيوي كالعراق، وهو ما تعكسه الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي للعراق في الثاني من الشهر الماضي.

حيث تتناقض الاجندات الفرنسية التركية من شمال العراق وسوريا، وصولاً لجنوب الساحل والصحراء وغرب إفريقيا. إذ تتنافس الدولتين وتتصارع في هذه المنطقة الشاسعة بمختلف الأدوات الناعمة والخشنة. حيث تعتمد تركيا على توظيف علاقاتها بالمكونات الميليشياوية المحلية في الدول الهشة بهذه المناطق وخاصة صاحبة الهوى الإسلامي، علاوةً على الانخراط العسكري المباشر في بقع جغرافية كغرب ليبيا. فيما تعتمد فرنسا أكثر على نمط التحالفات الأمنية الدولية وتكوين قوى عسكرية مشتركة لمواجهة تحديات الإرهاب، ويظهر ذلك في منطقة الساحل والصحراء. 

تخشي باريس من لجوء أنقرة لتوظيف جاليتها الإسلامية ولاسيما بعدما نشطت المنظمات الإسلامية في ربوع فرنسا مستغلةً أجندات الحريات ذاتها التي تحميها مبادئ العلمانية والجمهورية الفرنسية. إذ تنظر فرنسا للنموذج الألماني وجاليته المسلمة التي يدين غالبيتها بالولاء للرئيس التركي نظرًا للأصول التركية لغالبيتهم واستثمار الحكومة التركية لهذه التركيبة بتصدر مجهود الرعاية وبناء المساجد وتصدير الأئمة. وعليه؛ جاء مشروع القانون الفرنسي ببنود لا تقل في إحاطتها عن مستوى الاشتباك السياسي بين باريس وأنقرة، حيث جاءت بنود مشروع القانون كالاتي:

  • إنهاء نظام الأئمة المبتعثين من الخارج في غضون أربعة سنوات والذين تصل أعدادهم إلى 300 إمام قادمين من تركيا.
  • تحسين الرقابة على تمويل المساجد.
  • تقييد التعليم في المنزل.
  • مراقبة أكثر صرامة للمنظمات الرياضية والجمعيات الأخرى والمساجد الخاضعة للتدخل الأجنبي حتى لا تصبح واجهة لتعاليم متطرفة.
  • منع الممارسات التي تهدد المساواة بين الجنسين.

تشير أبرز بنود مشروع القانون الفرنسي لإدراك صانع القرار لواقعية التداخل الحالي بين المنظمات الإسلامية والجالية المسلمة في البلاد، حيث تشير تقديرات الحكومة الفرنسية أن هناك نحو 50 ألف طفل يدرسون خارج النظام التعليمي، مع خروج عدد كبير من المساجد من تحت سيطرة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية المرتبط بالحكومة. فضلاً عن رواج الخطاب الإسلامي الأممي بين الجالية المسلمة جراء الجهود المتضافرة للمنظمات الإسلامية. ومن المفترض أن يتم عرض مشروع القانون على مجلس الوزراء الفرنسي في ديسمبر القادم ثم مناقشة البرلمان له في النصف الأول من 2021.

ختاما، على قدر الضجة التي أحدثها مشروع القانون وتصريحات الرئيس الفرنسي في الجمعة الماضية، جاءت المخاوف من احتمالات تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا وصعود لخطاب اليمين المتطرف وتعميمه السلبي لكل ما هو مسلم، ما قد يبقي على اخطار عدم الاستقرار وترسيخ حالة الاستقاطاب وتباعًا الإبقاء على فرص توظيف تكتل غالبية الجالية المسلمة من الجهات الإقليمية الفاعلة كتركيا. بالتزامن مع اختبار فرنسا حالة شعبية ورسمية مناهضة للإسلام السياسي كمشروع مكافئ للدولة الوطنية. 

وعليه؛ فإن مواجهة الجمهورية الفرنسية مع الإسلام السياسي وتنظيماته الغير حكومية داخليًا، تبدو وللمرة الأولي في اختبار صعب، لإعادة دمج الجالية المسلمة وقطع محاولت “أدلجتها” خارجيًا، دون تهيئة المناخ للتيارات اليمينية بالتمدد في الأوساط الشعبية وصعود خطاب الكراهية المحفز على الاستقطاب وعدم الاستقرار الأمني الممتد. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى