العالم العربيسياسة

3 منظمات إقليمية جديدة.. استجابة غير تقليدية لتحديات متداخلة بمبادرة مصرية

شهدت منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وفي القلب منهما مصر تحولات استراتيجية على مدار العقدين الماضيين، أسفرت عن واقع إقليمي ضعيف. ويٌمكن التأريخ لبداية تلك التحولات من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011، وما تلاها من حملة قادتها الولايات المتحدة على ما اسمته “الإرهاب الدولي”، مرورًا بالغزو الأمريكي للعراق في 2003 الذي أدى إلى إخراج أحد أقطاب الشرق الأوسط خارج المعادلة السياسية والعسكرية العربية حتى الآن، انتهاءً بأحداث ما سُمي بالربيع العربي نهاية العام 2010 وبدايات 2011، لتتساقط دول المنطقة واحدة تلو الأخرى كأحجار الدومينو، مخلفة حالة من الفوضي والانهيار غير المسبوقة التي بلا شك سوف تؤثر على رسم ملامح المنطقة على مدار الـ100 عام المقبلة.

ومن أبرز التحولات التي شهدتها المنطقة؛ انهيار النظم السياسية في بعض الدول وتشكيل أنظمة جديدة بدلًا منها، وتحول بعض الدول الأخرى إلى نمط الدولة الفاشلة، وخروجها من معادلة القوة الإقليمية، وانزلاق بعضها إلى حرب أهلية، مع وجود ثغرات أمنية وحالة من السيولة الأمنية، وسقوط المنطقة في حالة حرب بالوكالة والتحول إلى مسرح للتنافس بين الدول الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين)، وتصاعد تيار الإسلام السياسي وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين بدعم تركي قطري، وبروز فاعلين محليين وإقليميين ودوليين جدد بعضهم من غير الدول، وتصاعد ظاهرة الإرهاب، وتصاعد المشروعين الإيراني والتركي الاستعماريين، وتغير العلاقات بين الدول المكونة للنظام العربي والفاعلين الإقليميين والدوليين.

وأمام تلك التحديات كان لزامًا على دول المنطقة التفكير في أطر تعاونية غير تقليدية، تكون بمثابة حلقة للتباحث وتوحيد الرؤى والخروج بمواقف واضحة تضمن مصالح دولها بعيدًا عن أي صياغات خارجية لا تراعي سوى مصالح واضعيها. وفي هذا الإطار، شهد الشرق الأوسط وأفريقيا خلال العامين الماضيين ميلاد ثلاث منظمات إقليمية جديدة، بموجب الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة الذي يتيح إقامة منظمات إقليمية لمعالجة القضايا المشتركة بما يحفظ السلم والأمن الدوليين.

سياقات التأسيس

كان لتلك التطورات السابق ذكرها دور في إعادة أحياء مفهومين أساسين، وقد يكونا متداخلين إلى درجة كبيرة أيضًا، على ما يبدو أنهما تراجعا بعض الشيء عن الساحة العربية خلال الفترة الماضية، وهما:

• النظام الإقليمي الفرعي: يعبر هذا المفهوم عن نسق جغرافي أصغر تقع دوله ضمن النطاق الجغرافي لنظام إقليمي واحد أو أكثر، وترتبط وحداته بروابط سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية واجتماعية وبيئية وثيقة، لسبب قربهم الجغرافي أو اشتراكهم في أحد الموارد الطبيعية الهامة. 

• الجغرافيا السياسية: وهو مفهوم يعبر عن دور الجغرافيا في صياغة المصالح السياسية للدول، حيث يلعب النطاق الجغرافي الذي تقع فيه دولة ما أو مجموعة من الدول دور في تحديد عناصر القوة التي تمتلكها الدولة أو الدول الواقعة في ذلك النطاق، ويحدد نسق العلاقات بينها. كذلك فإن اشتراك مجموعة من الدول في إقليم جغرافي واحد يخلق بينها نوعًا من التهديدات والمصالح المشتركة التي قد تكون محفزة لإقامة شكل من أشكال التحالفات والتنسيقات المشتركة. ويرى الدكتور عبد المنعم السعيد أن الجغرافيا السياسية بدأت في التأثير بشكل مباشر على الجغرافيا الاقتصادية. 

وهكذا تبلور المفهومان عمليًا في شكل إنشاء كيانات تكاملية وتعاونية جديدة، ولدت من رحم الواقع السياسي والأمني والاقتصادي الجديد في المنطقة، وتأتي كاستجابة للتحديات المختلفة التي طرحها هذا الواقع، فوفقًا للدكتور عليّ الدين هلال إن أي نظام إقليمي ينشأ من إدراك أعضائه بوجود تهديد مشترك يحتاج إلى بناء نظام أمني قائم على مبدأ الدفاع المشترك لمواجهة هذا التهديد. وفي هذا الإطار، نفرد مساحة لإلقاء نظرة عن قرب على سياق ودوافع إنشاء تلك الكيانات، بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية والجيوستراتيجية للنطاقات الجغرافية التي تغطيها.    

منظمة دول غاز شرق المتوسط

تغطي تلك المنظمة سبع دول هي مصر وقبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين، وتشترك جميعها بوقوعها في إقليم شرق البحر المتوسط الجغرافي. ولابد أن نلفت هنا إلى أن لبنان وسوريا يقعان ضمن نطاق هذا الإقليم، لكنهما لم ينضما إلى الدول المؤسسة نظرًا للخلافات بشأن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل بالنسبة للبنان والنزاع حول بلوك رقم 9 الذي تقدر احتياطاته بـ 9 تريليون قدم مكعب، والوضع السياسي المضطرب في سوريا الذي يحول دون قدرتها على الاستفادة من ثرواتها الطبيعية، وهو أمر من المرجح أن يستمر بعض الوقت.  

وتنبع الأهمية الاستراتيجية لهذا الإقليم مما يتمتع به من ثروات الغاز الطبيعي الهائلة ومن كونه مرر لعبور خطوط الطاقة إلى أوروبا، حيث تشير الدراسات إلى احتواء حوض المتوسط على احتياطات قدرتها هيئة المساحة الأمريكية بما بين 340 و360 تريليون قدم مكعب من الغاز، تتراوح قيمتها المالية ما بين 700 مليار دولار و3 تريليونات دولار، وكذلك نحو ملياري برميل من النفط. ومن أبرز اكتشافات الغاز: 850 مليار مترًا مكعبًا من في حقل ظهر المصري (أكبر حقول شرق المتوسط)، و30 مليار مترًا مكعبًا في حقل “غزة مارين” داخل الحدود البحرية لقطاع غزة، و140 مليار مترًا مكعبًا في حقل أفروديت القبرصي، و381 مليار مترًا مكعبًا في حقل “تمار” الإسرائيلي، و620 مليار مترًا مكعبًا في حقل “ليفيان” الإسرائيلي، و35 مليار مترًا مكعبًا في حقل “تانين” و50 مليار مترًا مكعبًا في حقل “كاريش” و90 مليار مترًا مكعبًا في حقل “روبي”، وكلها حقول إسرائيلية.

أيضًا تمر من المنطقة خطوط نقل الطاقة إلى أوروبا، حيث خط أنبوب غاز شرق المتوسط للنقل من إسرائيل إلى مصر، وخط إيست-ميد المزمع إنشاؤه من حيفا إلى قبرص واليونان وحتى جنوب إيطاليا، لكن هناك شكوك بشأن إمكانية تنفيذه فعليًا وجدواه الاقتصادية.

\\SERVER\Folder Redirection\mary.maher\Pictures\EasternMediterranean_Main_gas_fields_in_eastern_mediterranean_sea_TEKMOR.png

احتل إقليم شرق البحر المتوسط صدارة المشهد الجيواستراتيجي العالمي في الآونة الأخيرة، بالتزامن مع اكتشافات النفط الضخمة، وبالأخص حقل ظهر المصري في 2014، وتصاعد النزاعات بين دول الحوض (لبنان وإسرائيل – قبرص واليونان وتركيا). وسعت تركيا إلى إيجاد موطئ قدم لها ضمن ترسيم الحدود البحرية للدول المطلة على الحوض فما كان منها إلا توقيع اتفاق ترسيم حدود بحرية مع حكومة الوفاق الليبية في نوفمبر 2019، لكن بترسيم الحدود المصرية اليونانية في أغسطس 2020 أصبح هذا الاتفاق كأن لم يكن، وهو ما أثار غضب أنقرة التي باتت معزولة في شريط حدودي ضيق على سواحلها.

بدت المنطقة على وشك حرب بين تركيا واليونان، وتحول البحر المتوسط إلى مسرح للقوات العسكرية الأجنبية لحوالي 20 دولة، وانطلقت المناورات العسكرية المشتركة بين دوله استعدادًا لأي مواجهة عسكرية مباشرة، بالتزامن مع إرسال أنقرة سفنها لإجراء مسح سيزمي في مناطق تدخل ضمن المياه الاقتصادية الخالصة لقبرص واليونان بزعم أنها خاضعة لسيادتها ضاربة بذلك عرض الحائط بالقانون الدولي، ونقل السلاح والمقاتلين إلى ليبيا في محاولة لاستغلال الوضع المضطرب لإيجاد موطئ قدم في شرق المتوسط يضمن حصولها على نصيب من ثرواته.

وبحسب الدكتور عبد المنعم السعيد، شرق المتوسط ​​ليس مجرد منطقة جيواقتصادية مرتبطة بمصادر الثروة واستخدامها وتوزيعها، لكنها أيضًا منطقة جيوسياسية، لأنها متاخمة لمناطق تعج بالصراعات التاريخية والمصالح المتضاربة وسباق التسلح، مثل الصراع العربي الإسرائيلي، لا يزال المناخ بين إسرائيل وسوريا ولبنان متقلبًا بسبب التدخلات الإيرانية في البلدين، فضلًا عن الحرب الأهلية في سوريا المستمرة منذ ما يقرب من عقد والتي أدت إلى تدخل روسي تركي إيراني، ما أدى بدوره إلى نشوب أزمات ونزاعات أخرى.

وأمام هذا الصراع المحموم، أقدمت دول منتدى غاز شرق المتوسط الذي تأسس في يناير 2019، على تحويله إلى منظمة حكومية دولية في 22 سبتمبر 2020، موجهة بذلك ضربة للأطماع التركية في شرق المتوسط، حيث تخلق المنظمة توازنًا إقليميًا جديدًا في المنطقة لصالح الدول المنتجة في مواجهة الأطماع الخارجية، ويقطع الطريق أمام أنقرة للقيام بأنشطة تنقيب غير مشروعة.

وستعمل المنظمة على بناء حوار سياسي بين الدول الأعضاء، وتنسيق الرؤى السياسية بشأن المهددات المشتركة، وتوحيد الجهود لمجابهتها، وصياغة مبادرات لحل النزاعات القائمة حاليًا، وبحث الاستغلال الاقتصادي الأمثل لاحتياطات الدول من الغاز مع تحقيق أقصى منفعة من البنية التحتية القائمة أو العمل على تطويرها عند الحاجة، وحل النزاعات التي قد تنشأ بين دولها بموجب القانون الدولي وبما يراعي مصالح كافة الدول.

وتتيح المنظمة فرصة أمام تركيا للدخول في نقاش فعال مع الدول الأعضاء -إذا رغبت في ذلك- أو الضغط عليها للحوار والتعاون إذا رفضت ذلك واستمرت في مناوشتها، بما يسهم في تخفيف التوتر في شرق المتوسط، خاصة وأن هذا الشكل التنظيمي يحظى بدعم أوروبي أمريكي، إذ تسعى أوروبا إلى تنويع مصادر الطاقة بدلًا من الاعتماد على الغاز الروسي، وهي رغبة أمريكية أيضًا، فضلًا عن مساعي واشنطن لإضعاف شوكة أنقرة في الإقليم ومساندها لكل من نيقوسيا وأثينا في النزاع الدائر الآن.

وتمثل المنظمة، ومقرها القاهرة، خطوة كبيرة على طريق جعل مصر مركزًا إقليميًا لتداول الطاقة في المنطقة، خاصة أنها تملك منشأتين لتسييل الغاز الطبيعي في دمياط وإدكو يمكن استخدامهما في التصدير. وقد عبر الرئيس عبد الفتاح السيسي عن هذا بقوله إن مصر سوف تصبح “أوبك الغاز” في المنطقة.

مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن

 يضم في عضويته ثماني دول هي مصر والسعودية والأردن والسودان وإريتريا والصومال وجيبوتي واليمن (الحكومة الشرعية)، ويغطي المجلس واحدة من أهم مناطق الملاحة البحرية في العالم ألا وهو البحر الأحمر ومدخله الجنوبي باب المندب الاستراتيجي، فهو يربط بين قارات العالم القديم أفريقيا وآسيا وأوروبا ويعتبر مدخلًا إلى المحيطين الأطلنطي والهندي، ويمر منه أكثر من 16 ألف سفينة سنويًا، أي نحو 13% من حركة التجارة العالمية، و30% من إنتاج النفط العالمي بواقع نحو 3.2 مليون برميل نفط يوميًا، وتصدير المواد الخام إلى أوروبا والولايات المتحدة والمنتجات الصناعية إلى آسيا وأفريقيا وأستراليا. 

وتصاعدت أهمية إقليم البحر الأحمر على الساحة الدولية خلال العقد الأخير، وهي أهمية تتفاوت بالنسبة للدول الكبرى والإقليمية بين الاقتصادية والأمنية والعسكرية والسياسية، بالتزامن مع التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة، وما خلفته من واقع سياسي وأمني مضطرب ومعقد، حيث أصبح ساحة للتبارز المحموم بين الخصوم الإقليميين والدوليين، وتنامت الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة في بعض دوله.

ومن مظاهر التحولات التي شهدها الإقليم مؤخرًا، حالة الفراغ السياسي والسيولة الأمنية التي يشهدها اليمن منذ عام 2011، والفشل حتى الآن في التوصل إلى حل سياسي للأزمة مع استمرار نشاط ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران، بما تمثله من تهديد لأمن المملكة العربية السعودية على الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي، ومنها إلى دول الخليج كافة، فضلًا عن نشاطها في تهريب السلاح الإيراني إلى شبكات إجرامية في دول القرن الأفريقي، وكذلك ما تمثله من تهديد لحركة السفن في البحر الأحمر. ومن الجدير بالذكر أن الحوثيين ليسوا وحدهم في اليمن حيث ينتشر به بعض الجماعات الإرهابية الأخرى مثل تنظيم القاعدة وتنظيم أنصار الشريعة التابع له، وفروع لتنظيم داعش.

أيضًا، تعاني دول القرن الأفريقي المطلة على البحر الأحمر أوضاعًا سياسية وأمنية مضطربة، إذ شهدت دولتا السودان وإثيوبيا تغيرًا في النظام السياسي، فضلًا عن الخلافات البينية والداخلية التي تعصف باستقرار دوله، وانتشار الجماعات الإرهابية، كتنظيم القاعدة في القرن الأفريقي، وحركة الجهاد الإسلامي في إريتريا، وحركة شباب المجاهدين وحزب الاتحاد الإسلامي وبعض فضائل داعش في الصومال، وهي كلها تنظيمات تأخذ من العنف منهجًا. وقد عملت دول الخليج على الانخراط في القرن الأفريقي تخوفًا من نفوذ إيراني محتمل في محاولة لكسب موطئ قدم في البحر الأحمر.

كذلك، أدى سلوك بعض القوى الإقليمية والدولية إلى إشعال مياه البحر الأحمر وجعلها غير آمنة لمرور حركة التجارة العالمية، بعدما تحولت إلى مسرح للمواجهة بين الولايات المتحدة وإيران خلال العامين الماضيين، عقب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات، وهو ما قابلته طهران بتنفيذ سلسلة من الاعتداءات على السفن الملاحية على مدار العام الماضي 2019، واستمرار التخوفات بشأن إمكانية أن تنفذ طهران أو عبر وكلائها عمليات إرهابية من شأنها التأثير على مصالح الدول المشاطئة للبحر الأحمر وبالأخص السعودية.

ولما كان إقليم البحر الأحمر جزءًا فرعيًا من إقليم الشرق الأوسط، الذي شهد طوال العقد الماضي تدخلًا غير مسبوق من أطراف إقليمية ودولية في شؤون دوله، فإنه بالتبعية أصبح مسرحًا لصراع النفوذ بين تلك القوى على اختلافها، التي سعت لاستغلال الظرف الراهن وحالة الضعف العام في المنطقة لإعادة صياغة دورها وتموضع قواتها في تلك البقعة الهامة على خريطة السياسة والاقتصاد الدوليين.

وفي هذا الإطار، سعى عدد من الدول الطامعة ذات النزعات الاستعمارية على اختلاف درجاتها وأدواتها إلى تكريس وجود دائم لها في المنطقة بما يضمن الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، سواء كان ذلك عبر الحضور العسكري المباشر أو متخفيًا تحت ستار اقتصادي من تجارة واستثمار ومساعدات إنسانية وغيرها، أو من خلال دعم الوكلاء المحليين. ويُعدُّ البحر الأحمر موطئًا للقواعد العسكرية الأجنبية؛ حيث القواعد الفرنسية والأمريكية واليابانية والصينية في جيبوتي، والقاعدة التركية في الصومال. 

ولعل أهم مظاهر التنافس الدولي في المنطقة تتجلى في افتتاح الصين لقاعدة عسكرية في جيبوتي عام 2017 على بعد نحو عشر كيلومترات من القاعدة الأمريكية التي شهدت بدورها زيادة في موارد الحكومة الأمريكية لها، مع إبداء روسيا والسعودية والهند أيضًا اهتمامًا بتأسيس وجود هناك. 

ويخلق هذا الجو المشحون بيئة خطرة على الأمن القومي للدول العربية المنتمية لهذا الإقليم وعلى مصالحها الحيوية. وفي خضم هذا الوضع الملتهب، انطلق مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، في 6 يناير 2020، ليكون بمثابة “مأسسة للتعاون” بين دوله، وهو يشير إلى نقلة نوعية تعبر عن نضج نسبي في العقل العربي، فقبله لم تكن هناك مبادرة عربية حقيقية قادرة على الوقوف في وجه سياسات التمدد الإقليمية والدولية على الساحة العربية، لذلك فهو يمثل اتباعًا لاستراتيجيتي “المبادرة من أجل الدفاع عن المصالح المشتركة” و”الاعتماد على الذات في مواجهة التهديدات الخارجية”، في وقت تشهد فيه المنطقة مبادرات إقليمية ودولية متعددة لإعادة تشكيل وحداته من الدول منفردة، وصياغة أنماط للتفاعلات الإقليمية بما يخدم مصالح واضعيها. 

ويجب الإشارة إلى أن فكرة مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر، بدأت من القاهرة، حينما استضافت في 11 و12 ديسمبر 2017، الاجتماع الأول للدول العربية والأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن بمشاركة السعودية والأردن وجيبوتي واليمن والسودان وإريتريا، ثم إعلانها عقد اجتماع لتقييم مبادرات دولية بشأن أوضاع البحر الأحمر وخليج عدن، في مارس 2019، بمشاركة مسؤولين دبلوماسيين وعسكريين للدول السبع، وعقب ذلك التقطت الرياض الخط ودعت للتوقيع على ميثاق المجلس في 6 يناير 2020.

إن هذا التحالف موجه بالأساس لمجابهة المشروعين الإيراني والتركي في المنطقة وإضعاف وجود البلدين في منطقة مضيق باب المندب الحيوية، وتنسيق الجهود لمواجهة الأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وبخاصة التي تمارسها طهران، من عمليات تهريب أسلحة واتجار بالبشر وفي المخدرات، فضلًا عن السعي لتحقيق أهداف اقتصادية واستثمارية من خلال تعزيز التجارة والاستثمار، وتوفير فرص العمل، وهو أمر سيؤدي إلى تغير موازين القوى في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي لصالح العرب.

المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لتجمع الساحل والصحراء

يضم المجلس 27 دولة أفريقية، هي مصر وليبيا وتونس والمغرب وموريتانيا وتشاد ومالي والنيجر ونيجيريا وسيراليون وجيبوتي والسودان والصومال وغانا وغينيا كوناكري وغينيا بيساو وجمهورية القمر وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وغامبيا واريتريا وليبيريا وتوجو وبنين وساوتومي وبرنسيب وكوت ديفوار والرأس الأخضر.

وتعاني دول الساحل والصحراء من مجموعة متداخلة ومتشابكة من التحديات الأمنية والاقتصادية التي خلقت بيئة مضطربة ملائمة لنمو التنظيمات الإرهابية، من أهمها ضعف الحكومات المحلية، وانتشار ظاهرة الفساد، وتصاعد الاحتجاجات الداخلية من حين لآخر، وحالة من السيولة الأمنية في ظل مساحات صحراوية شاسعة تتجاوز قدرة منظومة أمنية محلية واحدة على مراقبتها وضبطها، وانعدام السيطرة على الحدود، وتصاعد الصراعات العرقية الداخلية، فضلًا عن مشكلات اقتصادية تتعلق بتراجع معدلات التنمية الاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وغياب التنسيق والتعاون الإقليميين بين دولها، وعدم وجود استراتيجية إقليمية مشتركة لمحاربة الإرهاب.

وقد هيأت تلك المعطيات بيئة مناسبة لنمو الجماعات الإرهابية، الأمر الذي مكنها من تأسيس وجود لها بل واستقطاب مزيد من العناصر. ويأخذ الإرهاب في منطقة الساحل طابعًا خاصًا نظرًا للطبيعة الجغرافية للمنطقة، حيث تنشط الجماعات الإرهابية على شكل ذئاب منفردة وتظهر وتختفي بين سكان المنطقة.

وقد شهدت أفريقيا خلال السنوات الخمس الأخيرة تصاعدًا هائلًا في الجماعات والعمليات الإرهابية بحيث أصبحت تلك الظاهرة المهدد الأول للأمن والسلام والعقبة الرئيسية أمام جهود التنمية والتكامل الوطني وبناء الدولة في القارة السمراء، وباتت عديد من دول القارة تحتل مرتبة متقدمة على قوائم الإرهاب الدولي. وهو ما جعل مواجهة الإرهاب تحتل أولوية متقدمة جدًا على الأجندة الأفريقية في سبيل تحقيق أجندة أفريقيا 2063.

وعلى مدار العقد الماضي، تأجج الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء مستغلًا الفوضى التي اجتاحت ليبيا عام 2011، واستيلاء الإسلاميين على شمال مالي في عام 2012، وصعود بوكو حرام في شمال نيجيريا، حيث ينشط في المنطقة عدد كبير من الجماعات الإرهابية، كتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الذي يعمل تحت راية جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي تم إنشاؤها في مارس 2017، وحركة الوحدة والجهاد في غرب أفريقيا، والدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى وبوكو حرام، وشباب المجاهدين في الصومال.

ولم تستغل هذه الجماعات المسلحة الانقسامات بين دول المنطقة فحسب، بل أظهرت قدرة تنظيمية أعلى من الدول التي تتعرض للهجوم. ونفذت تلك التنظيمات الكثير من عمليات الخطف والقتل، والهجمات الدامية التي تودي بحياة الكثيرين.

كذلك تشهد دول منطقة الساحل انقسامات داخلية كحال النيجر ومالي وموريتانيا، وأزمات عرقية نظرًا للطبيعة الاجتماعية المفككة عرقيًا وقبليا مما جعل حركيات الاندماج المجتمعي صعبة وسط غياب ثقافة سياسية وطنية موحدة، وهو ما يتجلى في أزمة دارفور في السودان، والطوارق في مالي والنيجر، والاضطرابات العرقية في موريتانيا، ما أدى إلى فشل عمليات البناء السياسي للدول.  ومن التحديات أيضًا، الهجرة غير الشرعية والهجرة السرية، والجريمة المنظمة والجريمة الإلكترونية أو الرقمية، وتهريب السلاح والبنزين خاصة في منطقة الساحل.

وفي مواجهة هذه الاضطرابات، ومن منطلق دورها المحوري في مكافحة الإرهاب والتطرف على الساحة الأفريقية، بادرت مصر بالدعوة لإنشاء المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لتجمع الساحل والصحراء. كانت البداية في مارس 2016، حينما استضافت مدينة شرم الشيخ الاجتماع الخامس لوزراء دفاع دول الساحل والصحراء، حيث اتفق المجتمعون على تشكيل وحدة لمكافحة الإرهاب يكون مقرها في مصر. 

وهكذا أعلن الجيش المصري في يونيو 2018، إنشاء مركز لمكافحة الإرهاب على مساحة 61.900 متر مربع ومجهز بأحدث المعدات والتقنيات المتقدمة، بناء على بروتوكول إدارة الأزمات وتسويتها الموقع عام 2003، لتكون مهمته الرئيسة تحقيق التعاون الأمني في مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات والهجرة غير الشرعية، وتوسيع التنسيق ليشمل مخططًا تنمويًا متكاملًا في إطار المفهوم الشامل لمكافحة الإرهاب والذي لا يقتصر على الأداة الأمنية فقط بل يتجاوزها إلى تحقيق التنمية الاقتصادية.

وفي السياق ذاته، أعلن المتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية، عن تقديم 2000 منحة دراسيّة إلى العسكريّين من دول التجمّع في مجال الأمن والدفاع للدراسة في مصر، وفي ديسمبر من العام نفسه، استضافت مصر تدريبًا لمكافحة الإرهاب لدول الساحل والصحراء في قاعدة محمد نجيب العسكرية. وخلال الجلسة الافتتاحية للقمة الأفريقية الـ 33، التي عقدت في أديس أبابا فبراير الماضي، اقترح الرئيس عبد الفتاح السيسي إنشاء قوة أفريقية لمكافحة الإرهاب.

سمات المنظمات الجديدة

نشأت المنظمات الإقليمية الثلاث للتعاطي مع أنماط جديدة من التهديدات والمصالح المشتركة شهدتها الساحة العربية على مدار عقدين من الزمن، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على سمات تلك المنظمات، وهو ما يتضح كالتالي:

• غلبة الطابع الأمني والاقتصادي على الطابع السياسي: لعل هذا هو أكثر السمات وضوحًا في تلك المنظمات الجديدة، فعلى ما يبدو أدركت الدول وجود اختلافات عميقة في وجهات نظرها بشأن بعض القضايا السياسية المطروحة على الساحة حاليًا، لكنها فضلت تجاوز تلك المرحلة والاستثمار في أوجه الاتفاق الذي ربما قد يكون محركًا فيما بعد لتنسيق رؤية سياسية موحدة تجاه قضايا الإقليم والعالم التي تنعكس بشكل مباشر وغير مباشر على مصالح الدول الأطراف في التكتلات للحيلولة دون أي تهديد محتمل. كما أن التحولات السياسية التي شهدها الشرق الأوسط خلقت تحديات أمنية واقتصادية بالجملة بحيث بات واجبًا على دوله إيجاد صيغة مشتركة لمجابهتها في ظل تشابكها وتعقدها.

وهو ما انعكس على أهداف التكتلات الثلاث الجديدة المشار إليها، إذ تهدف منظمة غاز شرق المتوسط إلى إنشاء سوق إقليمية للغاز وتقديم أسعار تنافسية وضمان تلبية العرض والطلب من الدول المكونة للمنتدى وتأمين العلاقات التجارية بينها وترشيد كلفة البنية التحتية.

وفيما يتعلق بمجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن فإنه يهدف بالأساس إلى خلق منصة للتشاور بين الدول الأعضاء من أجل إيجاد فهم مشترك للتحديات الأمنية التي تزعزع استقرار البحر الأحمر وبحث فرص وبدائل الاستجابة لها، فضلًا عن خلق شراكة اقتصادية بين دوله، بالنظر إلى الثقل الاقتصادي والديموغرافي لدوله؛ إذ يبلغ إجمالي ناتجها المحلي تريليون دولار وعدد سكانها 232 مليون نسمة، ما يتيح فرصة للتعاون الاقتصادي، وتبادل الاستثمارات، وتنشيط حركة التجارة البينية. 

وقد حدد ميثاق المجلس اثني عشر هدفًا جميعها ذات طابع أمني واقتصادي وهي ضمان أمن الملاحة الدولية، ومنع التهديدات المتعلقة بالإرهاب، والقرصنة، والتهريب، والإجرام عبر الحدود، والهجرة غير الشرعية، وتشجيع التجارة والاستثمار، وتحسين التجارة البحرية والسلع والخدمات وحركة الأموال، وتعزيز التعاون بين الموانئ، وتجارة الترانزيت. ورغم أن الميثاق لم ينص على تشكيل قوة أمنية أو عسكرية مشتركة، إلا أنه يمكن البناء على التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن بقيادة السعودية، كنواة لأي تنظيم عسكري قد ينشأ مستقبلًا في حالة اقتضت الأوضاع ذلك.

وأخيرًا، فيما يتعلق بالمركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لتجمع الساحل والصحراء، فإن وظيفته أمنية تنموية، فهو يهدف لمواجهة أنشطة الإرهاب والتهريب وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر، فضلًا عن إيجاد منظومة تنموية متكاملة، بما يعني مواجهة شاملة للإرهاب لا تقتصر على العنصر الأمني.

نظم أمن إقليمي أصغر: اتخذت المنظمات الإقليمية الجديدة نمطًا لم تشهده المنطقة العربية من قبل، لكنه ليس جديدًا على أفريقيا، وهو ذلك النمط من الكيانات الذي ينشأ على أساس الاتصال الجغرافي (المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لتجمع الساحل والصحراء) أو على أساس التعاون بين الدول التي تشترك في حوض نهر أو بحر دولي (منظمة غاز شرق المتوسط ومجلس دول البحر الأحمر). وذلك على غرار رابطة أمم جنوب شرق آسيا “آسيان”، واتحاد البنلوكس، ومنظمة دول الميركوسور، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ورابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي، ومجلس دول بحر البلطيق.

قاعدة المصالح المشتركة: لا تجمع الدول الأعضاء في تلك المنظمات هوية مشتركة أو وحدة اللغة أو القومية أو الدين أو التاريخ المشترك، لكنها قامت على أساس وجود مصالح وتهديدات مشتركة بات لازمًا التعامل معها.ختامًا، عكس إنشاء تلك الكيانات الجديدة تحولًا مهمًا في العقلية العربية والأفريقية، وإدراكها لضرورة أخذ زمام المبادرة في مواجهة تحدياتها وعدم انتظار الحلول الخارجية التي غالبًا ما تسهم في تأجيج الأوضاع وتفاقمها بشكل أكبر، لكن مع ذلك لا تزال تلك المنظمات في مراحلها الأولى التي تحتاج إلى مزيد من التنظيم وإيجاد آليات فعالة للحوار واتخاذ القرارات ومراقبة تنفيذها والحوار مع الأطراف الدولية والإقليمية والمنظمات الأخرى ذات الصلة بأهدافها، مع ضرورة الإشارة إلى بعض التحديات الخارجية والتي تتمثل بشكل أساسي في المقاومة التي ستلقاها من أصحاب الأجندات في المنطقة ووكلائهم.

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى