تركيا

خصخصة الحروب.. كيف وظف البنتاجون وأردوغان المرتزقة في الصراعات المسلحة وتخريب الدول؟!

لفت انتشار المرتزقة في مسرح العمليات السوري والعراقي ثم الليبي ومؤخرًا إقليم “ناجورنو قره باغ” الانتباه إلى ظاهرة توظيف هؤلاء المقاتلين كأداة في الصراعات المسلحة من قبل جهات تسعى لملء فراغ نتج عن غياب الدول والمؤسسات والجيوش الوطنية، والأطماع في استنزاف الثروات الطبيعية، وبسط النفوذ والسيطرة وفرض الأمر الواقع على مائدة التفاوض، وكسب أوراق ضغط وخلق حالة تخدم مصالح الدول والجماعات التي تقوم بتوظيف المرتزقة. وكيف طورت بعض الدول مثل تركيا تجربة شركات الأمن الخاصة وأضافت لها أبعادًا أيديولوجية وعقائدية في شكل تنظيمات وجماعات “جهادية” تقاتل تحت راية الدين تسعى لتحقيق حلم “الخلافة” مقابل المال بتمويل من دول أخرى مثل قطر أو سلطات محلية موالية مثل مجلس فائز السراج في ليبيا.

وينظر الخبراء إلى تلك الشركات وما يماثلها من ميليشات مسلحة على أنها أحد مظاهر ما بعد الحروب بالوكالة التي انتشرت فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وأن تلك الصيغة الجديدة لشكل وتسليح العناصر التي تقوم بمهام محددة على أراضى بعض الدول تحقق العديد من الأهداف الاستراتيجية دون أدنى تكلفة قانونية وملاحقات أممية، ولا تؤثر على الصورة الذهنية للدول أيًا كانت جرائم الحرب التي ترتكب. وهو من جانب آخر ما يخلق تحديات جديدة أمام المنظمات والهيئات الدولية المعنية بتطبيق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.

البداية

في 31 مايو 2008 قمت بنشر ملفات كاملة في جريدة الأهرام ويكلى عن الكارثة التي يواجهها العالم ومنطقة الشرق الأوسط من جراء انتشار الشركات الأمنية الخاصة التي تقوم بمهام عسكرية في عدد من مسارح القتال لصالح دول وجماعات وتنظيمات، وأن تلك القوات من المرتزقة ستتحول إلى أداة مهمة من أدوات السياسة الخارجية لعدد من الأنظمة.

كانت الظاهرة في بداياتها حينذاك حيث تم تأسيس 50 شركة تقدم خدماتها العسكرية بمقابل مادى تتصدرها شركة “بلاك ووتر” الأمريكية التي كانت تعمل في العراق وعدد من دول العالم، وكانت مهمتها المعلنة حماية المرافق الحيوية من المباني الحكومية وآبار النفط وعدد من السفارات والبعثات والشخصيات الدبلوماسية مثل السفارة والسفير الأمريكي؛ إذ تعمل تلك الشركات في بيئة تعانى من الفراغ الأمني وغياب الدولة والسيادة، وهو الحال الذي كان عليه العراق بعد الغزو الأمريكي له في إبريل 2003؛ وتتسلح بأحدث التقنيات العسكرية الخفيفة ووسائل الاتصال فائقة الجودة والكفاءة كالتي كانت تمتلكها شركة Global Risks التي كلفت بحماية مطار بغداد الدولي، ووظفت لهذا الغرض 500 جندي نيبالي و 500 جندي فيجي يبدو أنهم كانوا الأرخص أجرًا من بين 30 جنسية مرتزقة في العراق حينذاك.

يجب الإقرار تاريخيًا بأن الأفراد الذين يبيعون مشاركتهم في الحرب موجودون دائمًا في التاريخ البشري، ومن أشهرها ظاهرة المماليك التي شهدتها مصر في فترات ما قبل الاحتلال العثماني للمحروسة. وعالميًا اعتمد الملوك على ما أطلق عليه “رجال الأعمال العسكريين” لشن الحرب، على الأقل منذ منتصف القرن السادس عشر. على الرغم من توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648 والتي كانت بمثابة علامة على توحيد الدول الأوروبية والتعزيز اللاحق للجيوش النظامية التي تسيطر عليها الدولة، لكن الحكام الأوروبيين استمروا في استخدام المرتزقة. 

وفي الولايات المتحدة، حدث استخدام واسع النطاق للمتعاقدين لدعم العمليات العسكرية الأمريكية خلال حرب فيتنام. شهدت نهاية الحرب الباردة انتشار الشركات العسكرية الخاصة والمتعاقدين المدنيين، حيث أدى تقليص عدد القوات السوفيتية والأمريكية السابقة إلى ترك آلاف الجنود المحترفين بدون عمل، مما سمح للشركات العسكرية والأمنية الخاصة بملء الفراغ. خلال الصراعات في أفغانستان والعراق في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت نسبة القوات الأمريكية إلى المتعاقدين من القطاع الخاص عشرة إلى واحد. اليوم تبلغ قيمة الصناعة مليارات الدولارات، ويبدو أن استخدام الشركات العسكرية والأمنية الخاصة من قبل جهات فاعلة مختلفة مثل الدول وكذلك المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية بات كبيرًا.

البنتاجون وسياسة توظيف المرتزقة

أفادت تقارير أمنية وصحفية في مايو 2004 أن عدد الموظفين البريطانيين الذين أرسلتهم هذه الشركات إلى العراق قد تضاعف إلى 1500 في الفترة التي تلت الغزو. وكان من بين هؤلاء الموظفين ضباط وجنود سابقون في الشرطة البريطانية والبحرية والمظليون. اعترف المسؤولون العراقيون في ذلك الوقت بعدم وجود فكرة عن عدد المرتزقة الذين كانوا يعملون في البلاد. بعد ذلك بعام صرح وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد أن العدد كبير ويتجاوز عشرات الآلاف، وأنهم كانوا ضروريين لأن قوات التحالف لم تكن قادرة على توفير العدد اللازم من القوات لحماية الدبلوماسيين ورجال الأعمال الأجانب. وأضاف رامسفيلد أنه تم دفع حوالي مليار ين ياباني سنويًا لمثل هذه الشركات الأمنية الخاصة.

وقد لفت بيتر سينجر المحلل الأمني في مركز بروكينجز ومؤلف كتاب Corporate Warriors، أن تلك الشركات الخاصة التي تقدم خدماتها العسكرية للتأجير قدمت دورًا داعمًا رئيسيًا في معظم الحروب التي شاركت فيها الولايات المتحدة في التسعينيات، بما في ذلك الصومال وهايتى ورواندا والبلقان وتيمور الشرقية. لكن هذا الدور زاد بشكل كبير في حروب أمريكا في أفغانستان والعراق، وهو ما يؤكد أنها قد أصبحت سياسة مستقرة للبنتاجون. ثم انتشر هذا النمط من توظيف تلك الشركات والمرتزقة في عدد من الصراعات المسلحة والتدخل في الأحداث والمناطق التي تمثل مصلحة وحيوية لعدد من الدول والقوى الدولية والإقليمية.

وقد أحاط الغموض بمهام تلك الشركات والأفراد في بداية ظهورها؛ غالبًا ما يكون من الصعب تحديد الوظائف التي من المفترض أن يؤديها موظفوهم في وظائفهم الخارجية حيث إن الألقاب والأوصاف الوظيفية التي تمنحها لهم شركاتهم في البيئة التي يعملون بها سمحت لهم بالتوغل والانتشار والتمويه والاختفاء. وأيضًا كانت هناك مخاوف متزايدة بشأن افتقارهم إلى ضبط النفس. على سبيل المثال أعرب وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو عن استيائه من تزايد وحشية المرتزقة الذين لا تشمل أوضاعهم وأنشطتهم القوانين والاتفاقيات التي تحكم وجود القوات المسلحة التقليدية.

 إن ممارسة استيراد المرتزقة الأجانب لأداء مهام عسكرية خاصة هو بلا شك عامل أدى إلى تفاقم الفتنة والاضطراب في العراق وغيرها؛ إذ إن هناك شواهد على تورط المرتزقة في عمليات خطف وقتل واعتداء على وكالات دولية وأنشطة إرهابية أخرى لصالح دول وجماعات وأفراد. لكن الذي لم يكن يتسم بالغموض هو أن هؤلاء المرتزقة يكسبون ماليًا أكثر من نظرائهم في القوات المسلحة النظامية؛ بسبب طبيعة الخدمات التي يقدمونها، والمقابل الكبير الذي تتحصل عليه الشركات.

تقدم الشركات نفسها ومعظمها مملوكة لأمريكا أو بريطانيا خدمات تتراوح من حراسة الأشخاص المهمين والمرافق وتوريد المعدات والمؤن إلى جانب جمع المعلومات الاستخبارية والقتال الميداني الفعلى. وقد أضاف نمو هذه الظاهرة مصطلحًا جديدًا إلى المعجم العسكري في أواخر القرن العشرين. علاوة على “حرب التحكم عن بعد” و”الحروب بالوكالة” و”الحرب الوقائية”، لدينا الآن “حرب مخصخصة” أو حرب تخوضها أو تدعمها قوات وأفراد متعاقد معهم من الباطن من الشركات العسكرية الخاصة والذين لا يتبعون التسلسل الهرمي العسكري الرسمي. 

وقد تورطت بريطانيا في توظيف تلك الشركات كأداة من أدوات سياستها الخارجية، وقامت بالترويج لها ولمبدأ خصخصة الحرب في العراق كجزء من استراتيجيتها للخروج من هناك. ونقلت صحيفة الإندبندنت في أكتوبر 2006 عن جون هيلاري مدير المنظمة الخيرية “الحرب على العوز” قوله “هناك مخاوف حقيقية من أن الحكومة تحاول خصخصة الصراع في العراق، وأضاف أن احتلال العراق أتاح للمرتزقة البريطانيين جني أرباح طائلة. لكن الحكومة فشلت في سن قوانين لمعاقبة انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك إطلاق النار على المدنيين العراقيين “.

ويقول عدد من التقارير التي رصدت تلك الظاهرة أنها أصبحت صناعة تحقق ربحا يتوازى مع التقدم الذي يشهده المجال العسكري، لا سيما في سياق التدخلات العسكرية بقيادة الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ إذ أفادت أكبر شركة أمنية عسكرية وهي شركة G4S التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرًا لها والتي تقدم مجموعة واسعة من خدمات الأمن إن إجمالي إيراداتها قُدر 3.7 مليار يورو لعام 2018. وتشير شركة DynCorp International العملاقة الأخرى متعددة الجنسيات، والتي تستفيد بالكامل تقريبًا من عقود الحكومة الأمريكية، إلى عائدات تتجاوز 2.6 مليار يورو.

وللأمانة العلمية تجدر الإشارة إلى أن الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على الساحة الدولية تقدم أنواعًا مختلفة من الخدمات ولا تنطوي جميعها فعليًا على مهام قتالية. يمكن أن تنقسم الشركات العسكرية الخاصة إلى ثلاثة أنواع: مقدمي الخدمات العسكرية والاستشارات العسكرية والدعم العسكرى.

تشارك الشركات العسكرية فقط في القتال الفعلي وفي عمليات القيادة والسيطرة على سبيل المثال؛ تقدم شركة AirScan الأمريكية خدمات المراقبة العسكرية بشكل مباشر في مناطق القتال. بينما تقدم شركات الاستشارات العسكرية والدعم، التي تشكل غالبية الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، المشورة الاستراتيجية، وصيانة الأسلحة، وجمع المعلومات الاستخبارية (مثل الشركات الأمريكية CACI International أوGK Sierra )، والتدريب العسكري، والاستجواب العسكري، أو الخدمات الأمنية لكبار المسؤولين. غالبًا ما يتم تأسيس هذه الشركات وتشغيلها من قبل عسكريين سابقين. تأسست بلاك ووتر (أكاديمي) من قبل القوات البحرية الأمريكية السابقة إريك برينس، في حين أن موظفي شركة تريبل كانوبى (كونستيليس) غالبًا ما يكونون من أفراد العمليات الخاصة السابقين الذين ينضمون إلى الأعمال التجارية إما بحثًا عن فرص عمل جديدة (كما حدث بعد نهاية الحرب الباردة) أو من أجل وظائف ذات أجر أفضل.

عجز القانون الدولى والهروب من الملاحقة الجنائية

وجدت المنظمات والهيئات الدولية نفسها أمام معضلة قانونية في رصد وتوصيف تلك الظاهرة فيما يتعلق بالقانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف. وتحركت اللجنة الدولية للصليب الأحمر ICRC لمواجهة الظاهرة وأصدرت في ديسمبر 2013 المادة 11 التي قالت فيها إنه “في السنوات الأخيرة عمدت أطراف النزاعات المسلحة بشكل متزايد إلى تجنيد الشركات العسكرية والأمنية الخاصةPMSCs  للاضطلاع بمهام كانت تقوم بها القوات المسلحة تقليديًا… أثار تورط هذه الشركات في العمليات العسكرية أو بالقرب منها أسئلة حول الطريقة التي ينبغي بها تطبيق القانون الدولي الإنساني. إن تورط الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في الحرب ليس بجديد، ومع ذلك في النزاعات المسلحة الأخيرة، ازداد عددهم بشكل كبير وتغيرت طبيعة أنشطتهم، مما دفع بعض المعلقين إلى الحديث عن تزايد “خصخصة” الحرب، وتشمل أنشطتها حماية الأفراد والأصول العسكرية، وتدريب القوات المسلحة وتقديم المشورة لها، والحفاظ على أنظمة الأسلحة، واستجواب المحتجزين، وفي بعض الأحيان القتال”.

ورغم تلك المادة التي توصف وتحذر من خصخصة الحرب وتركها في أيدي المرتزقة إلا أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر لم تنضم إلى النقاش حول شرعية استخدام الشركات الخاصة، وانصب اهتمامها على الامتثال للقانون الدولي الإنساني. وهو معني على وجه الخصوص بمسألة ماهية الالتزامات والحقوق التي تتمتع بها الشركات العسكرية والأمنية الخاصة وموظفيها، وما هي التزامات الدول التي تستخدمها؟ فموقف الشركات ومقاتليها وموظفيها ليس واضحًا. تلتزم الجهات الفاعلة من غير الدول بالقانون الدولي الإنساني أثناء النزاع المسلح إذا كانت أطرافًا في النزاع أو عندما تقوم بأعمال مرتبطة بالنزاع. قد لا تكون الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بشكل عام أطرافًا في النزاع، لكن مقاتليها وموظفيها كأفراد، وفقًا لأدوارهم وأنشطتهم الخاصة، يجب أن يخضعوا لقواعد القانون الدولي الإنساني.

المعضلة الكبرى أن غالبية موظفي الشركات العسكرية والأمنية الخاصة تندرج ضمن فئة المدنيين، على النحو المحدد في القانون الدولي الإنساني. في كل من النزاعات المسلحة الدولية والنزاعات المسلحة غير الدولية يتم تغطية موقفهم وضمان حمايتهم بموجب اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكولات الإضافية لعام 1977 والقانون العرفي. ومع ذلك، إذا شاركوا مباشرة في الأعمال العدائية، فإنهم يفقدون الحماية من الهجوم الممنوحة لهم كمدنيين في كلا النوعين من النزاع.

الجوانب الفنية للقانون الدولي الإنسانى تشير إلى أنه على الرغم من الاستخدام العارض في تقارير وسائل الإعلام لكلمة “المرتزقة” فيما يتعلق بموظفي الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، فإن المصطلح وفقا لرؤية خبراء اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الواقع له تفسير ضيق بموجب القانون الدولي الإنساني ولن ينطبق على معظم المتعاقدين من القطاع الخاص في النزاعات التي شهدها العالم منذ تسعينيات القرن الماضى وحتى الآن. ويؤكد الخبراء أنه عندما يتعلق الأمر بالتزام الدول يجب توضيح ذلك بعبارات مباشرة، بأنه يجب على الدولة التي توظف الشركات الخاصة أن تضمن احترام هذه الشركات للقانون الدولي الإنساني، وإعلام موظفيها بالتزاماتهم. والدول التي لها ولاية قضائية على الشركات الخاصة المتورطة في نزاعات مسلحة عليها أيضًا التزامات لضمان احترام تلك الشركات للقانون الدولى الإنسانى.

واستجابة للوجود المتزايد للشركات العسكرية والأمنية الخاصة، تم اتخاذ العديد من المبادرات الدولية بهدف توضيح أو إعادة تأكيد أو تطوير المعايير القانونية الدولية التي تنظم أنشطتها، ولا سيما ضمان امتثالها لمعايير السلوك الواردة في القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان.

نتيجة لمبادرة مشتركة بين سويسرا واللجنة الدولية للصليب الأحمر، تم اعتماد وثيقة مونترو في سبتمبر 2008. وتعيد وثيقة مونترو التأكيد على الالتزامات القانونية الحالية للدول فيما يتعلق بأنشطة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أثناء النزاع المسلح وتعيد تأكيدها. وتوصي بقائمة من الممارسات الجيدة من أجل التنفيذ العملي للالتزامات القانونية القائمة. فمن 17 دولة في عام 2008، ارتفع عدد المشاركين الذين يدعمون وثيقة مونترو الآن إلى 54 دولة وثلاث منظمات دولية.

عقيدة أدوغان ومشروع الخلافة وجنوده

إن تحليل شخصية وأفكار وعقيدة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان يضعه في مكانة منفردة لأن الرجل استوعب كل تجارب الحروب والصراعات الدموية في محيطه الإقليمي والدولي ومن كل تاريخ أجداده الذين غزوا العالم تحت راية الدين ووظفوا كل كلمة وتفسير في القرآن والسنة لخدمة مشروعهم الإمبراطوري الذي يسمح لهم باحتلال الدول “فتحها” ونهب ثرواتها وسلب إرادتها بالحديد والنار وتحت قوة السلاح.

واستطاع إردوغان الاستفادة من سنوات التجربة العلمانية وسنوات عمله داخل تلك المنظومة في رسم صورة للسياسي والمسؤول الذي يحارب الفساد ويقود تجربة اقتصادية ناجحة يتحدث عنها العالم بإعجاب وإشادة بالغة تجاوزت حدود النقد الذي كان يصوب باتجاه ميراث أجداده من العنف والدم؛ ولكن سرعان ما عاد الرجل أدراجه بعد الفشل المتكرر في أن تكون دولته عضوًا في الاتحاد الأوروبي بكل ما يتطلبه هذا من انصياع وتلبية لعدد من الخطوات السياسية والقانونية والاقتصادية، وفتح المجال وإطلاق الحريات المدنية ودعم الممارسة الديمقراطية وتداول السلطة.

هذا الرفض والإصرار عليه من قبل أقطاب الاتحاد الأوروبى جعل من أردوغان حاكمًا يبحث عن مشروع يعيد إليه كبرياء أجداده وتجربتهم التي أخضعت كل تلك العروش التي لفظته اليوم؛ فراح يبحث في مجاله الإقليمي والحيوي وسط حالة من التناقض مع داخله العلماني، وأعين المعارضة الشرسة التي ترصد له كل أفعاله وأقواله وتحالفاته فأضعف من قوة المعارضة من خلال سلسلة من التعديلات الدستورية والقانونية التي تمنحه صلاحيات وفترات حكم له ولحزبه الحاكم؛ ثم كانت معركته الكبرى مع المؤسسة العسكرية والجيش النظامي الذي يحمى تلك العلمانية، ونظريًا ضد مشروعه العقائدى طبقا للدستور، فضلا عن تجارب الانقلابات العسكرية المتكررة التي كانت تزيح أردوغان ومن هم على شاكلته من طريق الدولة ونظامها السياسي والدستوري. فاستغل محاولة الانقلاب في 2016 وأطاح بكل رموز المؤسسة العسكرية وأعاد هيكلة هيئة الأركان وقادة الأسلحة والمناطق والفرق والألوية والسرايا والفصائل؛ إلا أنه وجد في صيغة “جنود الخلافة” الحل العبقري الذي يُخضع له إقليم الشرق الأوسط، خاصة في مرحلة الربيع العربي وما نتج عنها من فوضى وغياب للدول والمؤسسات وانهيار للجيوش الوطنية والحدود والسيادة. ورأى أنها الفرصة واللحظة التاريخية لمشروع أجداده الذي يتسق وقواعد اللعبة الجديدة وجاهزية البديل الإسلامي من أبناء التيار والجماعات والتنظيمات التي تدعو إلى عودة الخلافة.

وقد استوعب أردوغان تجربة الشركات الأمنية وتوظيف الأفراد وتسليحها وتدريبها وأطر الحركة الخاصة بها وفكر كيف يمكن تطويرها وتوظيفها فعليا لخدمة مشروعه “العثماني الجديد”. ووجد أردوغان أن سيطرته على تيار الإسلام السياسي من خلال جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمها الدولي ومكتب الإرشاد في القاهرة هو المفتاح السحري للسيطرة على بقية الجماعات والميليشيات المسلحة والتي يمكن مع بعض الدعم اللوجيستي بالمال والسلاح والمؤن إخضاعها للسيطرة لتصبح ورقة رابحة تحقق له العديد من الأهداف.

أول هذه الأهداف تجنب استخدام الجيش النظامي في التمدد والالتفاف والمناورة على مسارح العمليات المختلفة في المنطقة؛ إذ لم تكتمل بعد عملية السيطرة على الجيش التركي، ويحتاج الأمر إلى مزيد من الوقت. ثانيها؛ يمنح تلك المليشيات والمرتزقة مرونة وخفة حركة في نقل القوات والسلاح والذخيرة وسهولة دعمها تدريبيًا وعملياتيًا من خلال خبراء ونظم سيطرة وقيادة حديثة. ثالثها؛ تجنب نظام أردوغان أى ملاحقات جنائية وإدانات دولية جراء جرائم الحرب التي ترتكبها تلك المليشيات مجهولة الهوية والجنسية. رابعها؛ تجنب أردوغان الانتقادات التي تشنها المعارضة السياسية الداخلية التي لن تسمح باستخدام الجيش النظامي التركي خارج مظلة حماية الحدود وحماية الأمن القومي التركي مثل استخدامها في مناطق الأكراد التي تشن هجمات على الأراضى التركية إنطلاقا من الأراضى العراقية والسورية. خامسها؛ يستخدم أردوغان ورقة السيطرة على تلك المليشيات في كواليس المحادثات والمفاوضات، ويعتبرها ورقة ضغط ناجحة تماما مثل ورقة اللاجئين التي يهدد بها أوروبا ويلوح دائما بأنه قادر على فرض الأمر الواقع وتغيير قواعد اللعبة ما لم يتم الاستجابة لمطالبه وأهدافه.

ومن هنا كان الاستخدام العملي والعملياتي لتلك المليشيات في سوريا والعراق وسيناء والصحراء الغربية ومالي والنيجر والصومال واليمن ومؤخرًا إقليم ناجورنو قره باغ. ولقد كانت المحطة الليبية هي الخطوة التي سبقت نقل القوات إلى ناجورنو قره باغ وصاحبتها عمليات نقل استراتيجي تحت سمع وبصر القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط.

وصل إجمالى عدد المرتزقة المنقولين إلى ليبيا (حتى مايو الماضي) قُرابة الـ (27420) مرتزق. إلى جانب العسكريين الأتراك، لتوفير الدعم الميداني والاستشارات والتدريب للمليشيات الموالية لحكومة الوفاق برئاسة فائز السراج التي قامت بدورها في توفير كل التكلفة المادية لنقل تلك القوات وتسليحها ورواتبها الشهرية وكل عناصر الدعم اللوجيستى، لتتوازى مسارات شرعنة الوجود مع عمليات إيجاد عناصر مسلحة تحقق مصالح أنقرة على الأرض. وبدأت عمليات نقل المرتزقة السوريين إلى ليبيا أواخر عام 2019، حين تم نقل (120) مرتزق، وتوالت عمليات نقل المرتزقة على مدار الأشهر التالية، وانخفضت تلك العمليات -دون توقفها- في أعقاب مؤتمر برلين.   

ويشير الخبير العسكرى المصرى اللواء محمد قشقوش إلى أن أمر نقل وتحريك المرتزقة الأجانب على المسرح الليبي لم يتوقف عند حد المرتزقة السوريين، بل امتد لنقل عناصر التنظيمات الإرهابية من جنسيات مختلفة، إذ نشر المرصد السوري لحقوق الانسان تقارير تشير إلى وجود قُرابة (10000) إرهابي نقلتهم تركيا إلى ليبيا، من تنظيمات إرهابية نشطة في الأراضي السورية، بلغ عدد حاملي الجنسية التونسية ضمنهم حوالي 25% أو (2500) عنصر منتمي لتنظيم داعش، وهو ما دفع دول الجوار الليبي لرفع درجات الاستعداد الأمني والجاهزية؛ للتصدي لأية محاولات تسلل أو هجمات قد يشنها هؤلاء الارهابيون.

وقد أشرنا في المقال السابق عن “جنود الخلافة” أن الأمر لا يقتصر على المقاتلين في جبهات القتال العسكرية، لكن الأمر وفقا لعقيدة أردوغان ومشروعه يرتكز على ميليشيات إلكترونية وإعلامية تروج للمشروع وتمهد له وتفتح الجبهات وتجند المقاتلين، وتقود حملات دعائية سوداء ضد الدول والأنظمة والشعوب والجماعات التي تناوئ ذلك المشروع، وتنشر الأكاذيب والشائعات، وتثير الفتن والطائفية والمذهبية، وتحارب فكرة الدولة والوطنية والسيادة والحدود. بالتوازي مع نشر فكرة الخلافة والخليفة الذي يدافع عن الإسلام ويحفظ له كبرياءه ويرفع راية الدين ويحميه من هجمات الآخر داخليًا وخارجيًا.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى