شرق المتوسط

“فورين بوليسي”: كيف دفعت “التحركات التركية” في شرق المتوسط إيطاليا إلى الاقتراب من المحور “الفرنسي – المصري – اليوناني – القبرصي”

عرض- داليا يسري 

تحت عنوان “التدخل العسكري التركي في البحر المتوسط دفع فرنسا وإيطاليا للتدخل في المنطقة.. ماذا الآن؟!”، نشرت صحيفة فورين بوليسي الأمريكية مقالاً  للكاتب مايكل تانتشوم  ، استهلته بأن أوضحت كيف كان من المفترض أن يجتمع رؤساء دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 27 دولة في 25 سبتمبر، في المجلس الأوروبي ببروكسل للتصويت على فرض عقوبات على تركيا. 

وذكرت الصحيفة أن محور الخلاف كان يتعلق بما وصفه الاتحاد الأوروبي بأنه تصرفات غير قانونية صادرة من أنقرة ضد اليونان وقبرص، وكلاهما دول أعضاء في الاتحاد.

وتضيف الصحيفة أن الحديث هنا يتعلق تحديدًا، بما أرسلته تركيا ولازالت ترسله حتى اللحظة، من سفن للتنقيب عن موارد الطاقة الكامنة تحت سطح البحر في المياه الإقليمية لتلك البلدان. لكن تقرر تأجيل التصويت لمدة أسبوع آخر بسبب إجراءات تتعلق بكورونا، إلا أنه وبالنسبة لأنقرة، فإن التأجيل لا يغير من حقيقة الأمر شيء. بمعنى أن التأجيل لا يغير من الطلاق المحتمل وقوعه من أوروبا. 

إذ أنه ووفقًا للصحيفة، فقد تم تجميد العلاقات المتوترة منذ عام 2018. بمجرد أن بدأت أنقرة الاعتماد على دبلوماسية السفن الحربية في حوض شرق المتوسط. وفي ذلك الوقت تحديدًا، قرر المجلس أن يجمد المفاوضات الخاصة بانضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، كما تم تعليق العمل على تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الجارة الشرقية. مما يعني أن التصويت المقرر إجراؤه ضد تركيا الأسبوع المقبل قد يتسبب في خلق قطيعة دائمة. 

ولفتت الصحيفة إلى أنه من المحتمل أن تقتصر نتيجة التصويت على العقوبات المرتبطة بالتناقض الإيطالي الموجود منذ زمن طويل. إذ توجد هناك تعقيدات بيزنطية للجغرافية السياسية للبحر الأبيض المتوسط، مما يدفع روما للاعتماد على مصالحها المرتبطة بموارد الطاقة في الدولة الليبية الممزقة، بدلاً من استثماراتها الكبيرة في غاز شرق البحر المتوسط، لأجل اتخاذ قرار حاسم بشأن خيار روما. 

بينما أكدت الصحيفة أن استقالة فايز السراج رئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني الليبية خلال منتصف سبتمبر، تعكس توصل روما إلى قرارات جديدة ونقاط تحول فيما يتعلق بسياساتها في البحر المتوسط. 

وردًا على سؤال، حول السبب الذي يجعل من روما دولة متأرجحة في الاتحاد الأوروبي؟!، تقول الصحيفة أنه لتوقيع عقوبات على تركيا، سوف يحتاج المجلس الأوروبي إلى موافقة بالإجماع تشتمل على جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بلا استثناء. وتوجد هناك مشكلة، هي أنه ليس من المؤكد بعد أن جميع الأصوات تنوي التصويت بالموافقة. ففي بداية سبتمبر، أعلن إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي، أن تركيا تحت قيادة الرئيس رجب الطيب إردوغان، “لم تعد شريكًا لفرنسا في شرق البحر الأبيض المتوسط”. كما حث ماكرون سائر دول أوروبا على اتخاذ موقف موحد حيال هذا الأمر. وترى الصحيفة أن كلمات ماكرون كانت موجهة في المقام الأول نحو إيطاليا، باعتبارها المنافس التقليدي لفرنسا في البحر الأبيض المتوسط، والتي كانت من بين أقوى المدافعين عن توثيق علاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي.

وبالإضافة إلى دعوات فرنسا لاتخاذ إجراءات قوية ضد تركيا، هناك أيضًا قبرص واليونان وكلاهما تتفقان مع هذه الدعوات. بينما تقابلها كلاً من إيطاليا ومالطا واسبانيا باعتراض يجعل هناك حالة من الانقسام المشهود داخل البحر المتوسط. 

وعند هذه النقطة طرحت الصحيفة تساؤلا، حول ماذا يحدث لو تحولت إيطاليا نحو فرنسا، بالشكل الذي يضمن أن تجتمع عقول أكبر دولتين في البحر المتوسط داخل القارة الأوروبية؟! 

وردًا على هذا السؤال، تجيب الصحيفة، بأن تشير إلى أنه من الممكن في هذه الحالة أن تتحول منطقة جنوب الاتحاد الأوروبي بالكامل وتميل بشكل أكبر نحو لصالح فرض العقوبات. عندئذ سوف تقع حالة من الزخم في الاتحاد الأوروبي ككل وسوف يترتب عليها اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه تركيا. مما يعني أن ماكرون عندما دعا الى عقد “سلام متوسطي”، تُديره شراكة بين دول الاتحاد الأوروبي، كان في المقام الأول يسعى الى تحقيق هذه الغاية. وعليه، تفسر الصحيفة أن ماكرون يحاول اقناع إيطاليا بإعادة ضبط سياسات أكثر واقعية في لعبة البحر الأبيض المتوسط الكبيرة، من خلال عقد شراكة فرنسية إيطالية شاملة للسيطرة على المنطقة.

وطرحت الصحيفة تساؤلا آخر، حول من هو الطرف الذي يصنع قواعد اللعبة الكبرى التي تجري في البحر الأبيض المتوسط؟!

وردًا على هذا السؤال، ترى الصحيفة أن أكبر أربع دول داخل نطاق منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، هم مصر وتركيا وفرنسا وإيطاليا. ولفتت الى أن هذه البلدان تضم أكثر من نصف سكان المنطقة، وتقوم بتحديد قواعد اللعبة الكبرى في البحر الأبيض المتوسط. على الرغم من تدخلات أطراف خارجية تشتمل على روسيا والإمارات العربية المتحدة، فإن هناك حالة من التنافس بين الأربع دول الكبرى في البحر المتوسط سعيًا وراء السيطرة على موارد الطاقة في المنطقة، بالإضافة الى بسط المزيد من السيطرة على طرق العبور التجارية بالشكل الذي يُحدد الجغرافيا السياسية الإقليمية. 

وأضافت الصحيفة، لافتة إلى أن حالة التنافس القوية بين الأربع قوى، التي تتباهى دائما بامتلاكها لأقوى أربع جيوش في البحر المتوسط، هي التي لعبت –في الغالب- دورًا متناميًا في الحرب الأهلية بليبيا. فقد تألفت شراكتان ضد بعضهما البعض، واحدة منهم تتكون من مصر وفرنسا وتعمل ضد تركيا. والدليل على ذلك أن فرنسا تعد واحدة من أكبر موردي الأسلحة إلى مصر، وأنها قد تعاونت بشكل سري مع القاهرة بغرض تقديم الدعم للقوات العسكرية المتمركزة شرق ليبيا والتي تعمل ضد حكومة الوفاق الليبية المدعومة من قبل تركيا وإيطاليا. 

وتشير الصحيفة إلى أن قرار إيطاليا بالانحياز الى حكومة الوفاق الوطني وتركيا، يُعد جزءً من جهود أوسع لأجل حماية المصالح الإيطالية في ثروات ليبيا من الطاقة. كما أن إيطاليا تسعى لفرض توازنات جديدة في سياساتها إزاء منطقة البحر المتوسط، والدليل على ذلك هو أن الصادرات الإيطالية الى أسواق البحر المتوسط تفوق حجم صادراتها الى الولايات المتحدة والصين. إلا أن ما تحرزه إيطاليا من تقدم تجاري بفعل قربها من الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، لا يعني أن أي تطور تشهده أسواق شمال أفريقيا ليس مقيدًا بالنفوذ الفرنسي الضخم. 

وتقول الصحيفة، أن الأمور استمرت على ذات المنوال حتى قرر ماكرون أن يقوم بإعادة ترتيب أولويات السياسات الخارجية لبلاده، مما أدى في النهاية الى قيامه بالدعوى لعقد سلام متوسطي. وهو الأمر الذي يرجح أن السبب الرئيسي وراءه هو عدم رغبة باريس بالسماح لعلاقاتها مع روما أن تتطور بشكل غير مرغوب بالنسبة لها. كما أن تحركات تركيا المتزايدة في شرق البحر الأبيض المتوسط، هي تصرفات تأتي على حساب المخططات الاستراتيجية لباريس. مما قد يدفع روما لأن تعيد النظر في مسألة ما يجمعها من توافقات مع أنقرة، وهذا الأمر سوف يسمح بحدوث تقارب فرنسي إيطالي شامل. 

كما سردت الصحيفة كيف أنه وقع في عام 2015 حدثان أديا الى تناقض حاد في موارد الطاقة الإيطالية في البحر المتوسط. أولهم اكتشاف شركة إيني لحقل ظهر الضخم في المياه الإقليمية المصرية. وهو البئر الأكبر في المنطقة، مما يعني أن شرق البحر المتوسط يضم كميات كبيرة من الغاز الطبيعي قابلة للتسويق الخارجي. 

كما تلى ذلك، أن بدأت شركة إيني العمل في مصنعي لتسييل الغاز في مصر، وعملت كذلك على الترويج لخطة تجميع الغاز القبرصي والمصري والإسرائيلي واستخدام مرافق التسييل المصرية لأجل تسويق غاز المنطقة في أوروبا كغاز مسال وبطريقة فعالة. 

ولفتت الصحيفة إلى أن مخطط شركة إيني لم يترك أي مساحة أمام دور تركي فعال في البنية التحتية لخطوط الأنابيب إلى أوروبا. وعليه، حطمت الشركة المخططات التي طورتها أنقرة مسبقًا بشأن تحولها إلى مركز إقليمي للطاقة، وساهم تطوير شركة إيني للطاقة في وضع مصر وقبرص وإيطاليا وتركيا على مسار تصادم جيوسياسي جديد. 

في الوقت نفسه، تسيطر شركة إيني على قرابة 45% من انتاج النفط والغاز الليبي. وفي عام 2015، وهو نفس العام الذي تم به اكتشاف حقل ظهر. تشكلت حكومة الوفاق الوطني في ليبيا برئاسة رئيس الوزراء فايز السراج، وهو نفس الشخص الذي مكن الشركة من الحفاظ على مستوى انتاج مستقر للطاقة في المناطق الواقعة تحت حماية ميلشيات الحكومة وأنقرة في ليبيا. وفي عام 2019، شكلت صادرات الطاقة التي تم انتاجها من الأراضي الخاضعة لحكومة الوفاق الوطني نسبة 8% من إجمالي طلب إيطاليا على الغاز الطبيعي. وبهذه الطريقة، وبالتزامن مع احتفاظ شركة إيني بمصالحها في شرق البحر الأبيض المتوسط من جهة، واحتفاظها بمصالح للطاقة الليبية مع حكومة الوفاق من جهة أخرى، حافظت إيطاليا على نمط غير متوازن وغير مستقر من السياسة في منطقة حوض شرق المتوسط. إلا أن إقدام تركيا على اتخاذ تدخل عسكري في ليبيا عام 2020، ساهم في دفع شركة إيني لإعادة ضبط سياساتها. 

كما طرحت الصحيفة تساؤلا آخر، حول كيف أدرت تركيا تعديلات على سياسات الطاقة الإيطالية؟!

ترى الصحيفة أن تركيا اعتمدت على استراتيجية اختراق ليبيا لأجل دحض شكاوى اليونان وقبرص المتكررة بحقها فيما يتعلق بمسألة الحدود البحرية. فقد قدمت تركيا المساعدات إلى قوات حكومة الوفاق الليبية بهدف إعادة خصومهم مسافة 280 ميلا شرق ليبيا. 

وبهذه الطريقة من الممكن أن نقول إن تركيا قلبت مسار الحرب الأهلية الليبية. إذ أن التواجد الكبير للقوات الجوية التركية في قاعدة الوطية الجوية، والتي تقع على بعد 17 ميلاً من الحدود التونسية. بالإضافة الى وجودها المتنامي في مدينة مصراتة الساحلية معقل حكومة الوفاق الوطني تسبب في رفع مستوى نفوذ أنقرة في تونس والجزائر المجاورة. 

لكن الشكل الجديد للوجود العسكري التركي في ليبيا وتضخم حجمه، بالإضافة الى نفوذها الإقليمي المتنامي قد تسبب في إثارة القلق لدى إيطاليا. بحيث أن إيطاليا لم يكن بمقدورها التسامح في فكرة أن تعتمد حكومة الوفاق الوطني على تركيا فقط باعتبارها مزود رئيسي للأمن، إلى الحد الذي يجعل مصالح إيني في مجال الطاقة تخضع لإملاءات من أنقرة. 

كما أن شركة إيني الإيطالية لا تملك نفوذ في ليبيا فحسب. بل أنها توجد هناك ايضًا في الجزائر- الدولة صاحبة الإنتاج الأكبر من الغاز الطبيعي في افريقيا- بحيث تحتل إيني مكانتها باعتبارها واحدة من الشركاء الأجانب الرئيسيين لشركة النفط الحكومية الجزائرية سوناتراك. وتمتلك إيني وسوناطراك بشكل مشترك خطي أنابيب عبر البحر الأبيض المتوسط، والذي يبلغ طوله 1500 ميل وينقل الغاز الطبيعي الجزائري عبر تونس إلى إيطاليا. ويشكل الغاز الطبيعي من الجزائر وليبيا مجتمعين نسبة 28% من واردات إيطاليا من الغاز. 

تشرح الصحيفة، كيف تغيرت الأمور في عام 2018. تحديدًا عندما اتجهت تركيا للاعتماد على دبلوماسية الزوارق الحربية قبالة الشواطئ القبرصية. وعندها فقط بدأت إيطاليا في اللجوء الى فرنسا بغرض التخفيف من المخاطر في كلاً من شرق البحر المتوسط ووسط المغرب. وفي فبراير 2018، منعت قوات البحرية التركية سفينة “إيني” من الوصول الى موقع الحفر الذي كانت تتجه إليه في المياه القبرصية، مما تسبب في إجبار الشركة على سحب السفينة. وردًا على ذلك، اضطرت “إيني” إلى توقيع شراكة مع عملاق الطاقة الفرنسي توتال بشأن جميع عملياتها في قبرص. كما انضمت كلاً من إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية في نفس العام، إلى الجزائر عندما شكلت الشركتان تحالف كبير مع شركة سوناتراك الجزائرية للحصول على الحقوق الحصرية للتنقيب عن الطاقة قبالة الساحل الجزائري. في نفس التوقيت، الذي تزامن مع استحواذ توتال على منشآت نفطية جديدة وكبيرة في ليبيا من دون أن تُبدي إيني أي اعتراض.  

وترى الصحيفة أنه عندما يتعلق الأمر بليبيا تحديدًا، فإنه من الممكن أن يكون تحالف فرنسي إيطالي قد وقع بالفعل. والدليل على ذلك، أنه في 13 سبتمبر أعلن رئيس مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي والمسؤول في الوقت نفسه عن ليبيا، أن حكومة الوفاق الوطني بصدد توقيع اتفاقية تسمح بمنح شركات الطاقة التركية حصة من انتاج النفط والغاز الطبيعي الليبي. وعقب ذلك بيومين أعلن السراج عن استقالته من الحكومة في أكتوبر المقبل، وهو الأمر الذي على ما يبدو كان بمثابة مفاجأة لأنقرة.

وتشير الصحيفة إلى أن استقالة السرج تمهد لحل حكومة الوفاق الوطني، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تتألف من مسؤولين يضمان كلا الشقان المتناحران في ليبيا، والتي على الأرجح سوف تكون أقل ولاءً لأنقرة. وسوف تتيح في الوقت نفسه الفرصة أمام اعمال أكثر تنسيقًا بين باريس وروما. 

وفي سؤال أخير، حول هل من الممكن أن يكون انفصال تركيا عن أوروبًا أمرً دائم؟! 

تشير الصحيفة إلى أنه من الصعب الحصول على تصويت بالإجماع من 27 عضو داخل الاتحاد الأوروبي، حتى في ظل التحالفات الجديدة داخل الدول المطلة على البحر المتوسط. في مقابل ذلك، قد تختار أوروبا توقيع عدد من العقوبات الخفيفة. وذلك نظرًا لأن دول الاتحاد الأوروبي من الكتلة الشرقية –التي تمثل روسيا- عادة ما تمتنع عن استعداء أنقرة، لأنها تمتلك أكبر قوة عسكرية تابعة لحلف شمال الأطلسي. وفي مثال واضح على مدى الانقسام بين دول الجنوب والشرق من الاتحاد الأوروبي، فإن اليونان وقبرص قد هددتا بتعليق عقوبات الاتحاد الأوروبي المُعلقة على بيلاروسيا، ما لم يفرض المجلس عقوبات شديدة على تركيا. وفي 21 سبتمبر، نفذت قبرص هذا التهديد. 

وختامًا، وسواء ترتب على التصويت وجود قطيعة أم لا. فإن أوروبا وتركيا قد تكونا بالفعل على طريق القطيعة الدائمة. إذ أنه من المرجح أن يحل الثالوث الألماني الفرنسي الإيطالي محل بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد، وأن يلعب دوره باعتباره المحرك الرئيسي للسياسة الأوروبية. وفي ظل وجود شراكة فرنسية إيطالية في البحر المتوسط من المتوقع أن يشهد الموقف الأوروبي المستقبلي مواقف أكثر تشددًا تجاه تركيا. 

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى