تركيا

عسكرياً … ماذا يحدث الآن في “إقليم ناجورنو كاراباخ” بين أرمينيا وأذربيجان

دخلت معارك إقليم “ناجورنو كاراباخ” يومها الثاني، في ظل ضبابية متعلقة بحقيقة الأوضاع الميداني الحالية، وما إذا كانت المعارك هذه المرة واسعة النطاق، وتستهدف سيطرة الجيش الأذري على كامل الإقليم، أم أنها مجرد جولة جديدة مشابهة لجولات سابقة تكررت منذ عام 1994 وحتى وقتنا الحاضر.

تاريخياً، شهد منتصف عام 1992، بدء المعركة الأكبر بين الجيشين الآذري والأرميني، عقب تصويت البرلمان المحلي للإقليم، بالموافقة على الانفصال عن أذربيجان، واستمرت هذه المعركة حتى منتصف عام 1994، وفيها تمكنت القوات الأرمينية من بسط السيطرة على كافة أجزاء الإقليم، بما فيها ممر (لاتشين الاستراتيجي) الذي يفصل بين أرمينيا وأراضي الإقليم. بهذا تم إعلان قيام جمهورية ناجورنو كارباخ، المعروفة أيضاً باسم “جمهورية أرتساخ”، وتوقفت المعارك في مايو 1994، بعد وساطة قادتها روسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

رغم ذلك، ظلت حالة الحرب بين البلدين قائمة بشكل ضمني، في ظل تجدد دوري للاشتباكات الحدودية بين أذربيجان وقوات الإقليم المدعومة من أرمينيا، مثل اشتباكات عامي 2008 و2010 في منطقة “مارداكيرت” شمالي خط وقف إطلاق النار، واشتباكات أبريل 2016، التي فيها بدأت القوات الآذرية هجوماً ليلاً واسع النطاق على كافة نقاط تمركز قوات الإقليم في خط وقف أطلاق النار، لكن في ذلك التوقيت كان واضحاً أن قوات الإقليم والجيش الأرميني كانا مستعدين لهذا الهجوم، وتمكنا من صده بشكل كامل، بعد الدفع بقطع مدرعة من عاصمة الإقليم، وطائرات مقاتلة من أرمينيا، وتمكنا خلال المعارك من إسقاط مروحية قتالية تابعة للقوات الجوية الآذرية من نوع (مي-24)، بجانب تدمير عدد من الدبابات وناقلات الجند المدرعة، ومن ثم تحولت المعركة بعد إحباط الهجوم الأذري إلى التراشق المدفعي والصاروخي بين الجانبين.

الدور الإسرائيلي في تسليح باكو … كشف النقاب في 2016

أهمية اشتباكات أبريل 2016، كانت في أنها كانت سبباً رئيسياً في الكشف عن الدور الإسرائيلي في تسليح الجيش الآذري، وهو دور لم يكن مكشوف المعالم خلال الفترة التي سبقت اندلاع هذه الاشتباكات. فقد استخدم الجيش الأذري خلال الأيام الأولى لبدء هجومه على الوحدات العسكرية التابعة للإقليم، عشرات الذخائر الجوالة الانتحارية إسرائيلية الصنع من نوع “هاروب”، في ظهورها الأول ضمن التسليح الأذري، وأتضح حينها أن باكو قد تسلمت قبل أسابيع من بدء الهجوم، 50 ذخيرة جوالة من هذا النوع، بموجب صفقة تم توقيعها بشكل سري مع إسرائيل عام 2014.

هذه الاشتباكات شهدت أيضاً استخداما مكثفاً من جانب الجيش الآذري، للدرونز الاستطلاعية الإسرائيلية من نوعي “أيرو ستار” و”هيرميس- 450″، حيث استخدمها الجيش الأذري في عمليات الاستطلاع وتصحيح نيران المدفعية، وكانت من أهم العوامل التي أدت إلى تحقيق خسائر في معدات وأفراد وحدات الدفاع عن الإقليم، رغم أن هذا لم يؤدى في النهاية إلى تحقيق سيطرة فعلية على أي منطقة داخل الإقليم من جانب الجيش الأذري.

العلاقات التسليحية بين أذربيجان وإسرائيل، تعود إلى عام 2005، حيث زودت تل أبيب باكو منذ ذلك التاريخ بتشكيلة واسعة من الأنظمة القتالية، تضمنتها صفقة عسكرية ضخمة وقعها الجانبين عام 2011، بقيمة مليار وستمائة مليون دولار، شملت صواريخ الدفاع الجوي “باراك 8″، التي أتمت باكو تسلم 80 صاروخ منها عام 2016، وعشرة درونز استطلاعية وقتالية من نوعي “سيرشر” و”هيرون”، بجانب مجموعة من العربات المدرعة من أنواع “ستورم” و”أبير” و”بلاسان“.

عقب انتهاء هذه المعارك، تصاعد التعاون العسكري بين إسرائيل وأذربيجان بشكل واضح، فتلقت باكو مزيداً من الأسلحة والمنظومات الإسرائيلية، مثل مائة صاروخ مضاد للدبابات من نوع “لاهات”، وثلاثمائة وخمسين صاروخ مضاد للدروع من نوع “سبايك”، بجانب تشكيلة من المنظومات المدفعية والصاروخية التي تعد عماد تسليح الجيش الأذري في الوقت الحالي، مثل مدافع الهاون ذاتية الحركة “كاردوم” و”ساندكات” عيار 120 ملم، مدافع الهاوتزر الثقيلة ذاتية الحركة عيار 155 ملم “أتموس-2000″، راجمات الصواريخ من عيار 160 ملم (لينكس) و300 ملم “إكسترا”.

تعد منظومة الصواريخ الموجهة متوسط المدى (لورا)، أهم منظومة إسرائيلية الصنع يمتلكها الجيش الأذري، نظراً لمداها الكبير الذي يصل إلى 400 كيلو متر، وتمتلك باكو 50 قاذف من هذا النوع، أتمت تسلمهم عام 2018، يضاف إلى هذه المنظومة، استلام الجيش الأذري عدة أنواع جديدة من الطائرات دون طيار إسرائيلية الصنع خلال السنوات الخمس الماضية، منها طائرتين من نوع (هيرميس-900)، ونحو مائتي ذخيرة انتحارية جوالة من نوعي “سكاي سترايكر” و”اوربيتر“.

مجريات معارك الجولة الحالية في الإقليم

بالعودة إلى مجريات العمليات الجارية لليوم الثاني في القطاع الجنوبي الشرقي للإقليم، نجد أن نمطية الهجوم الذي نفذته القوات الآذرية صباح أمس كانت مشابهة إلى حد كبير لهجوم أبريل 2016، لكن الفارق الأساسي هنا أن هذا الأخير كان هجوماً ليلياً في حين أن الهجوم الحالي بدء مع أول ضوء من صباح أمس. القوات الآذرية بدأت هجومها بالتمويه على وجهتها الأساسية، فقامت بقصف كافة المواقع المتاخمة لخط المواجهة، من مرتفعات “ماروف” شمال خط الاشتباك، مروراً بمناطق “تيرتير” و”أغدام”، وصولاً إلى قطاع ” فوزولي” جنوب خط الاشتباك، وهذا الأخير كان فعلياً الهدف الأساسي لمحاولات التقدم البرية التي نفذها الجيش الأذري.

خطة باكو كانت محاولة قطع التواصل بين القطاع الجنوبي للإقليم وبين المناطق الوسطى والشمالية، التي تضم عاصمة الإقليم، ومن ثم التماس بشكل مباشر مع الأراضي الأرمينية غربي الإقليم، ولهذا أطلقت بشكل سريع عقب بدء التمهيد المدفعي سلسلة من التحركات المدرعة، في اتجاه عدد من القرى التي تقع في محيط مناطق “فوزولي” و”حضروت” و”جبرايل” جنوبي شرق الإقليم،

تزامن هذا التحرك المدرع، مع هجمات جوية كشفت النقاب عن بعض ملامح الدور التركي في تسليح الجيش الأذري، حيث ظهرت للمرة الأولى في أجواء الإقليم، الدرونز القتالية تركية الصنع “بيرقدار”، التي نفذت ضربة إجهاضيه استهدفت الدفاعات الجوية التابعة للوحدات المدافعة عن الإقليم، خاصة المنظومات الروسية الصنع ذاتية الحركة “أوسا” و”ستريلا 10″، حيث اتضح من خلال ما توفر من تسجيلات مصورة، أن الطائرات التركية استهدفت بصواريخ (مام-أل) المضادة للدروع، ستة منظومات “أوسا” وثلاثة منظومات “ستريلا 10”.

رغم هذا تمكنت وحدات الدفاع الجوي التابعة للإقليم، من إسقاط مروحية واحدة على الأقل تابعة للجيش الأذري من نوع (مي-8)، وعدة طائرات استطلاعية دون طيار باستخدام صواريخ الدفاع الجوي المحمولة على الكتف.

تعرضت الوحدات المدرعة الآذرية لخسائر معتبرة في الساعات الأولى لبدء هجومها، بعد أن وقعت في كمائن للمدفعية والصواريخ المضادة للدبابات، وخسرت هذه الوحدات ما مجموعه 17 قطعة مدرعة في اليومين الأول والثاني للقتال، بواقع عشر دبابات من نوع (تي 72)، بعضها يحمل أنظمة محدثة إسرائيليا، وست عربات قتال مدرعة من نوع (بي أم بي 2) و(بي تي أر 82)، وعربة إنقاذ مدرعة من نوع (أي أم أر – 2).

في المقابل خسرت الوحدات المدافعة عن الإقليم، نتيجة للنشاط الجوي الأذري، ما مجموعه 12 قطعة مدرعة بواقع سبع دبابات وخمسة ناقلات مدرعة، بجانب ثمانية شاحنات عسكرية.

ركزت القوات الأذرية في اليوم الثاني للمعارك على العمليات المدفعية، حيث استخدمت للمرة الأولى راجمات الصواريخ الروسية الصنع “توس-2″، بجانب مدفعية الميدان الثقيلة من نوع “بايون” من عيار 203 ملم. حتى الآن أعلنت الوحدات المدافعة عن الإقليم، عن مقتل 31 من عناصرها وجرح مائة خلال المعارك الجارية حالياً.

تسليح باكو التركي … تظهره الاشتباكات الحالية

ظهور الدرونز القتالية التركية “بيرقدار” في معارك الجولة الحالية في ناجورنو كارباخ، ألقى الضوء بشكل أكبر على التعاون العسكري بين باكو وأنقرة، وهو تعاون بدء على المستوى التسليحي عام 2000، حين تعاقدت باكو مع أنقرة لشراء 70 عربة مدرعة تركية الصنع، من نوعي (كوبرا) و(أوتوكار)، ضمن صفقة بلغت قيمتها 30 مليون دولار، تلتها صفقة أكبر تم توقيعها عام 2010، بقيمة 244 مليون دولار، تضمنت تزود الجيش الآذري براجمات الصواريخ التركية من عيار 300 ملم (كابلان)، وعيار 122 ملم (ساكاريا)، بجانب مئات الرشاشات الخفيفة والمتوسطة وبنادق القناصة. اخر ما وصل إلى التسليح الآذري قبل درونز (بيرقدار)، كان عشر صواريخ كروز محمولة جواً من نوع (أس أو أم)، حصل عليها سلاح الجو الأذري عام 2019. إذا وضعنا هذا التعاون التسليحي اللافت بين البلدين، جنباً إلى جنب مع المناورات العسكرية المشتركة بين جيشيهما، التي تمت على مدار ثلاثة عشر يومًا في يوليو الماضي، نستطيع أن نستخلص أن مستوى العلاقات العسكرية بينهما، وصل إلى مستوى غير مسبوق، تزود فيها أنقرة باكو بأحدث ما لديها من أنظمة قتالية، بدأت بالفعل في الظهور خلال المعارك الحالية، مثل درونز (بيرقدار).

روسيا وسلاحها مع كل الأطراف في أزمة الإقليم

من نافلة القول أن نذكر أن تسليح كل من الجيش الأرمني والوحدات المدافعة عن إقليم ناجورنو كاراباخ هو تسليح روسي، وتحتفظ موسكو حالياً بقاعدتين عسكريتين في أرمينيا، الأول في العاصمة “يريفان” والثانية في مدينة “غيومري”، ويتواجد لسلاح الجو الروسي فرقة جوية دائمة في يريفان، تتألف من ثمانية عشر مقاتلة من نوع (ميج 29)، وهنا لابد من الإشارة إلى أن أغلب تسليح الجيش الآذري هو أيضاً من الترسانة السوفيتية والروسية، وتحتفظ موسكو بعلاقات عسكرية مقبولة مع باكو رغم دعم الأولى الواضح لأرمينيا.

جدير بالذكر أن إقليم ناجورنو كاراباخ كان مسرحاً لتوتر في العلاقات بين موسكو وأنقرة، على خلفية تصاعد الدعم العسكري الروسي لأرمينيا، ففي أواخر عام 2015، قامت موسكو بتفعيل قيادة الدفاع الجوي المشتركة مع أرمينيا، وأرسل الجيش الروسي قوات تابعة للجيش الثامن والخمسون، المتمركز في شمال القوقاز، تشمل ألوية وأفواج عسكرية خاصة، الى الحدود الأرمينية – التركية، ضمت نحو 7000 جندي، بجانب مواقع دفاع جوي روسية تحتوي على بطاريات صواريخ (إس 400) للدفاع الجوي، جعلت حينها معظم الأراضي التركية تحت تغطية الدفاع الجوي الروسي، إذا ما وضعنا في الاعتبار بطاريات الدفاع الجوي الروسية في سوريا. هذا التوتر الذي كانت مترافقاً مع إسقاط تركيا للقاذفة الروسية في الأجواء السورية، جعل تركيا تهتم أكثر بتقوية تموضعها في هذه المنطقة الحيوية بالنسبة لها.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى