
في إعادة لرسم خريطة التحالفات.. لندن تضاعف مساحة “قاعدتها العسكرية” في سلطنة عمان
“العلاقة بين بريطانيا وعمان يجب أن لا تتزعزع حتى نهاية الزمان” عبارة وردت في اتفاق شراكة بين الدولتين في عام 1800 وبعثت مرة أخرى للحياة في الثاني عشر من سبتمبر الجاري عندما أعلن وزير الدفاع البريطاني بن والاس توسيع البنية التحتية لقاعدة الدعم اللوجستي المشترك للمملكة المتحدة في الساحل الجنوبي الشرقي لسلطنة عمان.
البلدان وقعا في 2019 أيضًا اتفاقية دفاع مشترك وحسب مراقبين فقد تم توظيف الاتفاقية في وقتها كوسيلة استخدمها السلطان الراحل “قابوس ” شديد الميل للندن” باعتبارها ترتيبات لمرحلة ستدوم حتى فيما بعد وفاته. وتماشيًا مع الحفاظ على الروح الأساسية للاتفاق الذي تم توقيعه في 1800.
واليوم تريد بريطانيا التأكيد على علاقاتها الخاصة مع عمان بعد تولي “هيثم بن طارق” الحكم خصوصًا أن هذا الأخير يبدو أقل ميلًا للإنجليز حتى في ظل التفاهمات الاستخباراتية على مستويات عليا بين البلدين.
وإضافة للبعد العسكري الذي ستخدمه القاعدة فسيتم تحقيق نوع من التوازن التجاري أمام قوى الصين الصاعدة في المنطقة، فحوض الدقم البحري سيتم تشغيله لبناء السفن كمشروع عماني مشترك مع مجموعة شركات “بانكوك انترناشونال” التي يقع مقرها في لندن.
ويضم هذا الحوض حوضين جافين قادرين على استقبال حاملات طائرات بريطانية جديدة من فئة الملكة إليزابيث والقيام بعمليات صيانة للسفن.
كما أنه يوفر مهبطا عسكريا للطائرات تبلغ مساحته 4000 متر وحسب دبلوماسيين بريطانيين فإن لندن ستستخدم على الأرجح منشآت التخزين والصيانة لتخزين معدات لواء مدرع.
من ناحية أخرى فستصبح قدرة بريطانيا على نشر قواتها بشكل سريع دعم قوي للحلفاء، فقديمًا كان يجب شحن المعدات الثقيلة قبل بدء العمليات العسكرية بوقت طويل كما كان أفرد القوات يواجهون مشاكل في التكيف مع البيئة المحلية.
واتضح امتياز آخر خلال زيارة ” والاس” لعمان – بدا في حضور سفير عمان السابق في اليمن عبد الله بن حمد البادي للقاء الذي جمع وزير الدفاع البريطاني مع عدد من المسؤولين العمانيين وهو ما أعطى رسالة توضح أن بريطانيا تدعم المساعي العمانية في اليمن.
وشهدت الزيارة اتجاه والاس إلى جزيرة “مسندم” وربما كان الهدف من تلك الزيارة إظهار الدعم لعمان في تمسكها بالجزيرة، حيث يفصل المحافظة الساحلية عن باقي أجزاء السلطنة أراض تابعة للإمارات ولطالما رغبت إمارة رأس الخيمة في ضمها إليها.
بريطانيا تعيد رسم خريطة التحالفات
يتزامن حرص بريطانيا على تطوير وتعميق علاقاتها مع عمان مع خطة خروجها من الاتحاد الأوروبي بحيث لم تسع لندن لتعميق علاقاتها مع عمان فقط وإنما عملت على إيجاد قاعدة لنفسها في البحرين المحسوبة على المعسكر الأمني الأمريكي الذي يمتلك قاعدة عسكرية هناك كما أن الأسطول الخامس الأمريكي موجود في البحرين.

عمومًا، هناك صراع خفي بين واشنطن ولندن على منطقة الخليج حيث ترى بريطانيا أن هذه المنطقة تابعة لها وقد استثمرت فيها منذ القرن السابع عشر ووجهت الكثير من جهودها إلى عمان منذ القرن السادس عشر عندما كانت جزء من التاج البريطاني لكن أفول نجم بريطانيا وتراجعها بعد تصاعد تيار اليسار الثوري في المنطقة العربية جعل الولايات المتحدة تسيطر على هذه المنطقة في انعكاس لنظرية الأواني المستطرقة.
ولطالما كان هناك تواجد عسكري بريطاني في عمان متمثل في 30 ألف جندي ولكن فتح القاعدة جاء كخطوة لإعطاء الطابع الرسمي للتواجد العسكري هناك وتوجيه رسالة للولايات المتحدة وكذلك إيران وحلفائها. خصوصًا مع ظهور قوى أخرى في هذه المنطقة منها الصين وروسيا.
فهذا المحور على وجه التحديد يخيف القوى الأوروبية والولايات المتحدة فهناك حالة من تغير موازين القوى في المنطقة مع الوضع بالاعتبار أنه مهما كانت الظروف فإن وجود قواعد أجنبية في الدول يخل بسيادتها ولكن يبدو أن الحكومات في الخليج العربي لها وجهة نظر مغايرة.
وعلى سبيل المثال فإن عمان التي تمتلك جيش قوي ، يمكنه أن يزيد من كفاءته عن طريق التدريبات والمناورات مع جيوش حليفة أما أن تأتي قاعدة أجنبية لدولة كانت تمثل احتلالًا لكل منطقة الخليج العربي فهو أمر يراه مراقبون يقع في دائرة الاستهجان وينتهك السيادة. إلا إذا كانت الدولتان متكافئتان وفي حالة بريطانيا وعمان فإنه ليس هناك حالة من التكافؤ كما أنه ليس للسلطنة أية مصلحة في أن تكون رأس حربة في مواجهة دول مارقة إلا إذا كانت تقدم مصالحها الاقتصادية وهو الأمر الذي يبدو واضحًا في سياسات السلطان الحالي.
من جانب آخر، فإن الطرح القائل بكون السلطنة ضد سياسة المحاور أمر غير صحيح وذلك لأنها سعت لتقوية علاقتها مع إيران في حين لم تسع للتحالف مع أبناء منطقتها من دول الخليج. ولكن مراقبون يرون أن الشيء الملاحظ مؤخرًا هو أن التهديدات التي تواجه هذه المنطقة ليست من إيران وإنما الخلاف دائر بين دول الخليج وبعضها وعلى تلك الخلفية تسعى السلطنة لعقد تحالفات مع قوى أخرى.
وحسب وزير الدفاع البريطاني السابق فإن لندن يجب أن تعود إلى حضن الخليج خصوصًا بعد أن غدت مجرد تابع للسياسة الأمريكية ،فهي لم تدخل أي حرب إلا حليفًا لأمريكا.
صراع أمريكي – بريطاني ” محتدم”
وقعت الولايات المتحدة اتفاقية مع السلطنة بتاريخ مارس 2019 وهي اتفاقية استراتيجية للموانئ تمنح تسهيلات أكبر لواشنطن وتتيح لها إرسال سفنها عبر هذه المنطقة بدلًا من اللجوء لمضيق هرمز. يأتي ذلك في الوقت الذي تنظر فيه مسقط للاتفاقية باعتبارها تتيح لها المزيد من الامتيازات الاقتصادية مع الحفاظ على حيادها فيما يتعلق بالأمور السياسية على الطريقة السويسرية.
ولكن من جهة أخرى فإن واشنطن تنظر للاتفاقية باعتبارها تعيد أمجادها المتعلقة بإمكانية النفاذ إلى منطقة الخليج بسهولة خصوصًا في ظل تنامي التهديد الإيراني عن طريق الصواريخ بعيدة المدى .

كما تعزز الاتفاقية مع الولايات المتحدة قدرة الأخيرة على التنافس مع الصين التي مولت مشروع ” الدقم” الاقتصادي بمبالغ طائلة وهو ترتيب اقتصادي ليست له أية علاقة بتطوير التعامل العسكري بين بكين ومسقط. التطوير الاقتصادي لمنطقة الدقم مع ربطها بثالث أكبر مطار في البلاد ومنطقة مجهزة لوجستيًا على أعلى مستوى يأتي في إطار تنامي اتجاه تيار في الخليج العربي يعتمد على تنويع مصادر الدخل تحسبًا للفترة التي سينفذ فيها النفط.
وحسب خبراء عمانيين فإن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن تأتي في إطار سعي الأخيرة في محاصرة إيران في عمان بعد أن فشلت في تأمين الملاحة عبر مضيق هرمز كما أن الاتفاقية تعتبر امتدادًا لاتفاقات أمنية قديمة منحت للولايات المتحدة حق استخدام القواعد الجوية في السيب وثبريت ومصيرة. فقد استخدمت الولايات المتحدة قاعدة جزيرة مصيرة الجوية العمانية في المحاولة الفاشلة لإنقاذ رهائن السفارة الأمريكية في إيران، رغم أن المسؤولين العمانيين اشتكوا في ذلك الحين من أنهم لم يبلغوا بهذه العملية مقدمًا.
الاتفاقية الأخيرة تمنح لواشنطن كذلك حق استخدام ميناء الدقم وصلالة وهما أهم الموانئ في البلاد كما أنهما يطلان على بحر العرب.
وعلى النقيض من ذلك يرى مراقبون عمانيون أن السلطنة تتنازل عن مكاسب اقتصادية في سبيل عدم إفساد علاقاتها مع واشنطن حيث أن استخدام القواعد لتوجيه ضربات جوية إلى الدول المارقة التي تسميها واشنطن يصعب معه استغلال هذه الموانئ لتحقيق مكاسب اقتصادية.
ولكن واشنطن تجيب بأن الاتفاقية لم تشر إلى ذلك وإنما أقرت إمكانية استخدام الموانئ في إصلاح القطع البحرية الأمريكية ولكن حتى وإن كان الأمر كذلك فإنه لم يحد كثيرًا عن فكرة الإضرار بالمصالح الاقتصادية لعمان.
براجماتية طهران
في نفس الوقت فإن مسقط ترتبط بعلاقات جيدة جدًا مع طهران من خلال اتفاقية تفاهم عسكري تم توقيعها في عام 2013 أثناء زيارة السلطان قابوس إلى طهران وفي هذا الصدد تبدو إيران متفهمة جدًا للتقارب العماني – الأمريكي من جهة والتقارب العماني – البريطاني من جهة أخرى في إطار المفهوم الأشمل لفكرة توازن القوى مما يشير إلى أن العلاقات بين طهران ومسقط “لن تتراجع” بسبب التفاهمات الأمنية للسلطنة مع لندن وواشنطن. في انعكاس لا يمكن أن يكون أوضح للسياسة البراجماتية التي تنتهجها طهران . ومسقط التي تمتلك اتفاقات شراكة استراتيجية مع قطبي الغرب، لعبت دور الوسيط المنحاز في مفاوضات إيران مع مجموعة 5 + 1 والتي انتهت بتوقيع خطة العمل المشتركة .
علاقات خاصة
من الثابت إذًا أن هناك تنافس غربي على الامتيازات العمانية ولكن هذا لا يلغي خصوصية العلاقات بين مسقط ولندن على أصعدة متعددة. فقد تم إنشاء منطقة تدريب مشتركة لتسهيل وجود دائم لبريطانيا في المنطقة، هذه العلاقات يتم تعزيزها أيضًا من خلال استيراد أسلحة بقيمة 2.4 مليار دولار خلال أربع سنوات في الفترة من 2014- 2018 وقد كانت بريطانيا أكبر مورد لها.
وعلى الجانب الاقتصادي فإن المصالح التجارية البريطانية في عمان آخذة في التنامي خاصة في مجالي النفط والغاز والذي يشكل 30% من الناتج المحلي في البلاد. حيث تمتلك شركة شل 34% من أسهم شركة تنمية النفط في عمان كما تمتلك برتيش بتروليوم 60% في خزان “الضخم” للغاز والذي استثمرت فيه 16 مليار دولار.
كما تمتد العلاقات العمانية البريطانية إلى ما كشفت عنه ميل إيست آي من قيام إيرلندا الشمالية بتدريب قوات الشرطة العمانية على كيفية التعامل مع الإضرابات والاحتجاجات. وفي المقابل تغض بريطانيا الطرف عن أية انتهاكات لحقوق الإنسان في السلطنة وربما كانت هذه هي الطريقة التي استطاعت بها لندن الحفاظ على علاقات متميزة مع مسقط حتى بعد رحيل السلطان قابوس.

في كل الأحوال فإن الوجود العسكري لبريطانيا في عمان يأتي امتدادًا لوجودها العسكري في البحرين في قاعدة ” ميناء بن سلمان” كما أن الاتفاق الموقع بين المنامة ولندن يسمح لبريطانيا بتعزيز التعاون لمواجهة التحديات التي تأتي من دول مارقة في المنطقة.
يعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والذي وصفه وزير الخارجية العماني السابق ” يوسف بن علوي” بالخطوة الشجاعة- نقطة تحول في تاريخ بريطانيا الحديث. وقد التقطت لندن إشارات هذا التحول بالكامل وتعمل الآن بمزيد من السرعة و الإقدام على إعادة تحديد حلفائها بما يتضمن تقوية علاقاتها مع حلفائها الحاليين أو حتى اكتساب حلفاء جدد في تماهي مع خروج الإنجليز من عباءة الأوروبيين.
باحث أول بالمرصد المصري