
أعلنت وزارة الخارجية البريطانية في نهاية يوليو الماضي أن ريتشارد مور السفير السابق لدى تركيا سيتولى رئاسة الاستخبارات الخارجية البريطانية (أم آي 6). ويتولى مور حاليًا منصب المدير العام للشؤون السياسية في وزارة الخارجية ويتحدث التركية بطلاقة، وقد عمل في السابق مديرًا في جهاز الاستخبارات الخارجية ونائبًا لمستشار الأمن القومي. وسبق هذا الإعلان بالشهر ذاته، زيارة وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” إلى لندن، شدد بها على الأهمية الاستراتيجية للعلاقات بين البلدين، وكذا قرب توصل البلدين لاتفاق تجارة حرة بين البلدين.
إن هذين الإعلانين لا يعدّا أكثر من قطعة ظاهرة من جبل جليدي، تعبر عن عمق وأهمية العلاقات الممتدة بين البلدين. ولكن السؤال هنا سيكون، إلى أي مدى تعد تلك العلاقات متجذرة؟ وهل هذا التجذر يُنذر بموقف بريطاني داعم بشكل صريح لتركيا في تحركاتها الإقليمية الحالية؟
الأهمية الاستراتيجية لتركيا
تُعد تركيا دولة مهمة للمملكة المتحدة فهي دولة مركزية نظرًا لموقعها الجغرافي الاستراتيجي المنعكس على بنية النظام التركي المرّكب المتعدد الروابط، فهي دولة وفقًا لرؤية المملكة لها جذور أوروبية ومتوسطية ومدخل على البحر الأسود والبلقان والقوقاز وأوراسيا والشرق الأوسط ولها تاريخ إمبراطوري إسلامي، ومن الدول الإسلامية القليلة التي يتم تصنيفها كدولة ديمقراطية وذات اقتصاد ناشئ كبير ومتنوع. ولطالما اعتبرت المملكة في حقب زمنية مختلفة تركيا كحجر زاوية في وقف النفوذ الروسي.
لذا كانت المملكة المتحدة من الحلفاء الاستراتيجيين لتركيا بالاتحاد، ومن الدول القليلة الداعمة لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. فقد دعمت جميع الأحزاب الثلاثة الرئيسية في بريطانيا – المحافظون والعمال والديمقراطيون الليبراليون – رسميًا انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وفي الفترة من 2013 إلى 2018، تمكّن المحافظون من الانضمام إلى الحزب التركي الحاكم العدالة والتنمية في تجمع دولي للأحزاب ذات التفكير المماثل. بالإضافة، إلى أن المملكة المتحدة كانت من أوائل التي سارعت إلى إدانة محاولة الانقلاب في تركيا في عام 2016، وهو الموقف الذي عدّه الكثيرون أساسًا في تحول العلاقات التركية نحو الأسوأ مع الغرب، بسبب عدم إسراع تلك الدول في إدانة تلك المحاولة. هذا إلى جانب عدم الإدانة الصريحة لتركيا في كثير من القضايا التي ندد الاتحاد بها، أبرزها التراجع الديمقراطي وملف حقوق الإنسان، وكذا تجاوزات تركيا بالشمال السوري، وغيرها من القضايا.
التقارب الأمني والدفاعي
إن كلا البلدين بالرغم من أنهما عضوان أساسيان بالناتو، إلا أن العلاقات التعاونية بينهما لا تقف عند حدود وجودهما بالحلف ذاته، أو استخدام المملكة للقواعد المهمة التابعة للناتو والموجودة بتركيا في عملياتها العسكرية؛ فالعلاقة بينهما تملك أبعادًا أوسع وأكثر عمقًا.
فعقب زيارة قام بها رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون لتركيا في يوليو 2010، تم توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. والتي مهدت لتوقيع الاتفاق الإطاري الخاص بالدفاع بين حكومة البلدين في نوفمبر 2011، والذي دخل حيز التنفيذ في يوليو 2018. وكان الغرض من الاتفاق تنظيم الأنشطة الثنائية العسكرية والمتعلقة بالدفاع التي لا تدخل في نطاق معاهدة شمال الأطلسي لعام 1949، والتي ساهمت في توسيع وتعميق بنود التعاون الأمني والدفاعي بين البلدين.
ووقعت تركيا والمملكة المتحدة كذلك اتفاقية أمنية في 25 فبراير 2016 لمواصلة تطوير الشراكة المتبادلة في صناعة الدفاع. ومع توقيع الاتفاقية الدفاعية السابق ذكرها، تم تشكيل أساس قانوني يتيح تبادل المعلومات السرية المتعلقة بمجال الدفاع بين البلدين.
وكذلك تُعد المملكة من الدول المحورية فيما يخص مجال التصنيع العسكري بتركيا، هذا المجال الذي لم يتأثر بصفقة شراء تركيا لمنظومة صواريخ الدفاع الجوي إس 400 الروسية. وأبرز تلك الصفقات التعاونية، الاتفاق المشترك بين شركتيBAE Systems وTurkish Aerospace Industries (TAI) لإنشاء أول جيل محلي من الطائرات المقاتلة في تركيا وهى طائرات TF-X، والتي يفترض أن تحل محل طائرات F-16 المقاتلة.
حجم التعاون الاقتصادي
لقد انعكس هذا التقارب في المصالح الاستراتيجية والأمنية بين البلدين على علاقاتهما الاقتصادية؛ إذ أشارت جوديث سلاتر القنصل العام البريطاني في إسطنبول في حديث سابق لها هذا العام إلى أن الحكومة البريطانية أعطت أهمية كبيرة للعلاقات التجارية مع تركيا. وأفادت بزيادة حجم التجارة الثنائية، منذ عام 2008 وحتى الآن، بنسبة 65 %. بالإضافة إلى المملكة المتحدة تعد ثاني أكبر سوق لصادرات تركيا، وثالث أكبر شريك استثماري لها.
فالمملكة المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري مع تركيا بعد ألمانيا، فبلغ حجم التجارة بينهم عام 2019، 18.8 مليار دولار، منها 7.9 مليارات صادرات بريطانية، و10.9 مليارات صادرات تركية، بحسب مكتب الإحصاءات الوطني البريطاني.
وتشير تقديرات إلى وجود نحو 350 ألفا إلى 400 ألف تركي بالمملكة المتحدة، معظمهم استفاد من اتفاق أنقرة الذي وقعته مع السوق الأوروبية المشتركة عام 1963، والذي سمح للأتراك بالعمل وتأسيس شركات في بريطانيا. ويبلغ عدد الشركات البريطانية الناشطة في تركيا في الوقت الحالي أكثر من 3 آلاف شركة.
مستقبل العلاقات بين البلدين
تتميز العلاقة بين البلدين بتجذرها على مستويات عدة كما سبق الذكر. لذا فإن تركيا تعد من الدول الأساسية التي سترغب المملكة المتحدة في التوصل لاتفاق تجارى معها بعد خروجها من الاتحاد. إلا إن إتمام خروج المملكة بدون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يهدد تلك العلاقة الاقتصادية القوية بين البلدين، نظرًا لوجود اتفاقية اتحاد جمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي منذ عام 1995 تتطلب منها الامتثال للسياسة التجارية المشتركة للاتحاد الأوروبي والاتفاقيات التي يبرمها الاتحاد الأوروبي، وعليه فلن تتمكن تركيا من توقيع اتفاقية منفصلة مع المملكة المتحدة تنظم علاقاتها التجارية في المجالات التي تم تغطيتها في اتفاق الاتحاد الجمركي بينها وبين الاتحاد، بالإضافة إلا أن مواطني تركيا سيعانون من حقهم في الاستقرار في المملكة المتحدة بموجب اتفاقية أنقرة بحلول 31 ديسمبر 2020.
أما من الناحية السياسية، فبالرغم من أن العلاقات بين البلدين تعيش أزهى عصورها بعد التصويت على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد عام 2016، بسبب سوء علاقات كلا البلدين مع الاتحاد، بما ساهم في تدعيم تقاربهم، إلا إن هذا لن يعنى الجزم بأن المملكة المتحدة ستدعم التحركات التركية في محيطها، وأبرزها فيما يخص ملف شرق المتوسط.
ويرجع ذلك لعدة أسباب، أولها تعقيدات خروجها الحالي مع الاتحاد، لذا فلن ترغب في مزيد من التأزيم بينها وبين الاتحاد، الرافض للتحركات التركية. بالإضافة للموقف الأمريكي غير المبارك بشكل كبير لتلك التحركات، ومن المعروف إن المملكة المتحدة والولايات المتحدة من أهم الحلفاء الاستراتيجيين لبعضهم البعض. وأخيرًا فإن قضية البريكست جلبت للاقتصاد العالمي الكثير من التقلبات، لذا لن ترغب المملكة في إضافة مشكلات أخرى تؤثر على استقرار الاقتصاد العالمي.
ختامًا، بالرغم من تلك العراقيل السابق ذكرها، إلا أن تركيا ستظل بلا جدال حليفًا أساسيًا واستراتيجيًا للمملكة المتحدة، وأحد وكلائها الرئيسيين بالمنطقة. بالرغم من حالة عدم اليقين التي تشوب العلاقات الاقتصادية بينهما، والتحفظات في الدعم على المستوى السياسي الآن.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية