
حمل العقد الحالي مفاجآت عديدة على صعيد الاستراتيجية العسكرية الإقليمية، إثر تحولات أمنية عنيفة اشتملت على انكشاف منظومة الأمن القومي العربي في الجناح الشرقي للمنطقة، وتعاظم الانكشاف الأمني بحذف كل من سوريا والعراق من معادلة القوة العربية. وانهيار وتفكك مؤسسات الدولة في كل من اليمن وليبيا، وتشظى ظاهرة الإرهاب العابر للحدود بما تحدثه من تحديات وتهديدات لبيئة الامن الإقليمية من تغييرات ديموغرافية بطول الأراضي السورية والعراقية على وجه الخصوص، وإزكاء التدخلات الخارجية وتوفير البيئة الجيوسياسية الحاضنة لسياسة المحاور المتضادة. وفرص للقوى الإقليمية غير العربية لمحاولة ملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن انهيار موازين القوي بالمنطقة، وتثبيت دعائم استراتيجيات الدول المتنافسة على موضع “الدولة المركز” في الإقليم المضطرب.
كانت تلك البيئة الأمنية المضطربة هي ذاتها التي أفرزت مفاجآت على صعيد “التكتيكات” العسكرية المتبعة لدى هذه القوى لتحقيق خططها لتعظيم ثقلها الاستراتيجي في المنطقة. فمثلًا، وظفت “تركيا – إيران – إسرائيل” ظاهرة الإرهاب العابر للحدود في تخليق الظروف المواتية لتدخلاتها العسكرية في بؤر الصراع الممتدة من الرمادي العراقية شرقًا إلى طرابلس الليبية غربًا. حيث وظفت تركيا عبر أجهزتها الاستخباراتية شبكة من التنظيمات المسلحة في الشمال السوري تعمل وفق مصالح أنقرة، وقد خاضت تنظيمات هذه الشبكة التي تشتمل على أكثر 25 تنظيمًا مسلحًا؛ خاضت أقسى صنوف حروب العصابات ومعارك المدن. فكانت الأزمة السورية بمثابة مفرخة لتنظيمات مسلحة على قدر احترافي من تكتيكات القتال المتلاحم وإلحاق الهزائم بالجيوش النظامية ثقيلة الحركة حديثة التسليح والتدريب.
إلا أن المفاجأة الكبرى التي حملتها “التكتيكات” العسكرية الجديدة من توظيف علني لمجموعات وعصابات مسلحة بعضها مصنف إرهابيًا تقاتل جنبًا إلى جنب مع الجيوش النظامية، قد انتقلت من حيز “التوظيف” إلى “إعادة التدوير“.
نقلت تركيا قرابة 17 ألفًا من المرتزقة السوريين المنضوين تحت لواء التنظيمات المسلحة التي قامت الاستخبارات التركية بتخليقها وهندسة شبكة علاقاتها ببعضها البعض وكذا بالتنظيمات الإرهابية الأخرى والمكونات المحلية. واستخدمت تركيا في “توظيفها” لورقة المرتزقة هذه وسائل النقل المدنية من سفن شحن وطائرات مدنية لنقل هذا العدد الضخم من الجيل الجديد من “القتلة” المحترفين.
التوظيف النوعي للعناصر المسلحة لم يقتصر في مصدره على جبهة الشمال السوري فحسب، بل جاء كذلك من أقصي جنوب المنطقة العربية، من دولة الصومال، حيث تنشط تركيا سياسيًا وعسكريًا في هذا البلد الذي مزقته الحرب. حيث تحدثت التقارير الإعلامية عن إرسال نحو 2000 مرتزق صومالي للميدان الليبي عبر البوابة القطرية.
إلا أن ثمة “إعادة تدوير” لهذه العناصر المرتزقة قد بدت في الأفق، وفي مسرح عملياتي جديدة كليًا، وإن ابتعد هذا المسرح ضمنيًا عن الأطر الطائفية والعقائدية المحفزة لاستمرار اقتتال هذه التنظيمات، فإنه يجيء ضمن “العُقد” التي رافقت رداء من تبني الفكر العثماني ذي النزعة الكبيرة للهيمنة والتوسع. حيث أكد المرصد السوري لحقوق إرسال تركيا أول دفعة من المرتزقة لدولة أذربيجان للمساهمة في أعمال القتال الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان على خلفية الصراع التاريخي المحتدم على إقليم “قرة باغ”. تأكيدات المرصد السوري المعارض ترافقت أيضًا مع تقارير العديد من الصحفيين الاستقصائيين ذوي العلاقات الوثيقة بقادة التنظيمات المسلحة في شمال سوريا.
لتصل بذلك عملية إعادة التدوير رسميًا لدائرة آسيا الوسطى الأكثر حساسية لعدد من القوى الدولية والإقليمية، فكيف جاءت عملية إعادة التدوير تلك، ولماذا تقدم أنقرة الدعم السخي لأذربيجان، وما قصة الخلاف بين أرمينيا وأذربيجان، وكيف تبدو مخاطر عملية “إعادة التدوير”؟
إقليم “قرة باغ”.. قصة أزمة عمرها قرن
تُعرف المنطقة الممتدة بمحاذاة الساحل الغربي لبحر قزوين بتشابك امتدادات شعوبها داخل أكثر من دولة. ومن هذه الأمثلة كان إقليم ” قرة باغ”، أو ناغورنو كارباخ، وتعني بالروسية الأرض المرتفعة.
كان إقليم قرة باغ ضمن أراضي الاتحاد السوفيتي، وقبلها كان ضمن أراضي روسيا القيصرية. أملًا في تحول مصطفي كمال أتاتورك للشيوعية، ومحاولة لاحتوائه، ضم الاتحاد السوفيتي إقليم “قرة باغ” لـ أذربيجان عام 1921.
ونتيجة لاحتفاظ الإقليم بمكونه “الأرمني”، فإن النزاعات اندلعت فور تفكك الاتحاد السوفيتي بين أرمينيا وأذربيجان على هذا الإقليم، ودخل البلدان في حالة حرب ممتدة منذ العام 1988 حتى العام 1994، وانتهت الحرب بانتصار أرمينيا عسكريًا ونجاحها في تثبيت قوات لها داخل الإقليم الجبلي.
لكن حتى هذه اللحظة ورغم انتصار أرمينيا، فإن قرة باغ ماتزال جزءًا من أراضي أذربيجان حسب الأعراف الدولية. وتنتشر القوات من الجانبين على طول منطقة منزوعة السلاح تفصل المنطقة عن بقية أذربيجان. وكذلك لم يتم التوصل لاتفاقية سلام شاملة بين الطرفين، فآخر ما توصل له الطرفان هو اتفاق لوقف إطلاق النار تم عام 1994، ويتم فض الاشتباك بينهما بموجبه.
لماذا تدعم أنقرة أذربيجان؟
“أمة واحدة داخل دولتين” هكذا يردد المسؤولون الأتراك كلما جاء سياق الحديث عن أذربيجان. حيث تظل النظرة العثمانية للامتداد العرقي للشعب التركي كما هي مع تركيا المعاصرة الآن. فبعيدًا عن تفصيل أنقرة لثوب التفوق الحضاري على سائر شعوب المنطقة، فإن النخبة الحاكمة في تركيا تتبنى نظريات بيولوجية تقوم على أساس تفرد العرق التركي وتشعب صلاته بالشعوب الأخرى بالمنطقة. إلا أن تلك الادعاءات قد سقطت أخلاقيًا مرارًا وكان أوضح مثال لذلك، الإبادة الجماعية التي نفذتها الدولة العثمانية بحق الأرمن 1915-1917. ومن ذلك الوقت التصق بذهنية المسؤولين الأتراك قوميين كانوا أم إسلاميين عقدة تاريخية من الأرمن ودولتهم. واستكمالًا لهذا السياق، فإن تعقيدات الجغرافيا السياسية الحالية وتبني أنقرة لمشروع توسعي أممي قد دفعها لعدة أسباب إلى تقديم دعمًا سخيًا لأذربيجان منها:
- الحفاظ على حالة التعبئة المعنوية لدي قطاعات من الشعب التركي بالإبقاء على حالات مرتفعة من الانخراط العسكري التركي بالخارج. إذ يرى الرئيس التركي في الحرب سبيلًا لتوحيد الصف التركي الذي بات يعاني من الاستقطابات تحت وقع تداعي النظام الاقتصادي واستمرار انهيار العملة المحلية.
- العقدة التاريخية من أرمينيا، حيث لا تعترف تركيا بمذابح الأرمن ولا تنوي الاعتراف مستقبلًا.
- البحث عن دور إقليمي أوسع شرقًا، نظرًا للعزلة التي باتت تعاني منها أنقرة جراء سياساتها في شرق المتوسط وليبيا.
- تأمين الحصول على الامدادات من النفط والغاز، حيث تعد أذربيجان ضمن أول ثلاثة دول تورد الطاقة الهيدروكربونية لأنقرة، كما تعتمد عليها الأخيرة في تقليل الاعتماد على مورد الطاقة الروسي.
- الضغط على روسيا، تسعي أنقرة لامتلاك أوراق ضغط متعددة على الجانب الروسي الذي باتت تشتبك معه في أكثر من ميدان “شمال غرب سوريا – غرب ليبيا – أوكرانيا”.
ومن هذه الأسباب الأربعة اتخذ الدعم التركي لأذربيجان أشكاله السياسية والعسكرية، حيث صرح إسماعيل دمير، رئيس هيئة الصناعات الدفاعية التركية بأن: “صناعتنا الدفاعية، بكل خبراتها وتقنياتها وقدراتها، من طائراتنا المسيرة إلى ذخائرنا وصواريخنا وأنظمتنا الحربية الإلكترونية، تحت تصرف أذربيجان دائما”.
وهو ما ظهر خلال تولي الجيش التركي مهام تحديث بعض قطاعات الجيش الأذري، واهتمام وزير الدفاع التركي بزيارة باكو، والعمل على الاتفاق بتنفيذ عدة مناورات عسكرية كبرى بين الجيشين.
حيث زار وزير الدفاع التركي خلوصي أكار “باكو” في أغسطس الماضي، وانطلقت مناورات عسكرية جديدة بين البلدين في الشهر التالي. وبصورة عامة وصل عدد المناورات بين البلدين في الفترة ما بين “يوليو – سبتمبر الجاري” إلى ثلاث مناورات، شهدت تدريبات مكثفة لسلاح الجو والقوات البرية، حاكت فيها القوات الأذرية تنفيذ عمليات هجومية موسعة. وبخلاف التدريب والمناورات المشتركة، فإن الجيش الأذري بات يستخدم بعض القطع المدرعة والمدفعية الثابتة والمقطورة، حيث ارتفع حجم واردات أذربيجان الدفاعية من تركيا بنسبة 39.85 في المائة السنة الماضية. فضلًا عن ظهور مؤشرات تدعم استخدام أذربيجان للطائرات المسيرة التركية في قصف أهداف للقوات الأرمينية. كما يظهر الشريط المسجل التالي:
لكن سرعان ما ردت روسيا على هذه المناورات، حيث أطلق الجيش الروسي نهاية يوليو الماضي تدريبات عسكرية تمتد لتضم ثلاثة محاور ومناطق “أرمينيا – فولفوجراد – روستوف” وبلغ عدد المشاركين في المناورات قرابة 4 آلاف عنصر بين جندي وضابط من التشكيلات العسكرية للمنطقة العسكرية الجنوبية، وبدأت روسيا في تنفيذ المناورات الثنائية كلِ على حدة واشتملت على تنفيذ رمايات القوة المدرعة بالذخيرة الحية لإصابة أهداف تتمركز بداخل تضاريس جبلية صعبة تقترب من الطبيعة الطبوغرافية لإقليم قرة باغ.
وعليه؛ فإن ثمة مخاطر تبرز نتيجة زيادة التعاون الدفاعي التركي مع أذربيجان وكذا اتجاه تركيا لـ “إعادة تدوير” المرتزقة وإرسالهم لمناطق الصراع هناك:
- تهديد روسيا على نحو كبير، وخاصة أن مصدر الدفعة الأولي من المرتزقة كان شمال غرب سوريا “إدلب”، التي أصبحت بؤرة للعناصر الإرهابية القوقازية شديدة الخطورة، والتي تجاهر علنًا بعدائها لروسيا. قوام هذه العناصر القوقازية من ضباط سابقين في الجيش الروسي وقواته الخاصة، وقد كونت هذه العناصر واحدة من صيحات الجيل الجديد من الإرهاب وهي شركة “ملحمة تاكتيكال” المتخصصة في تدريب عناصر النخبة للتنظيمات المسلحة والارهابية العاملة بطول شمال سوريا. وتتميز هذه الشركة بنقلها لتكتيكات ومهارات القتال لعناصر القوات الخاصة بالجيوش النظامية للتنظيمات المسلحة فضلا عن تجهيزها القتالي العالي.
- صبغ الصراع الدائر الآن بين أرمينيا وأذربيجان بصبغة دينية وعرقية ما قد يحفز دخول منطقة القوقاز بثقلها التاريخي وذاكرتها من الحرب الشيشانية لمرحلة جديدة من عدم الاستقرار.
- تهديد إمدادات الطاقة لأوروبا، حيث باتت السمة الرئيسية لتركيا في محاولاتها فرض وقائع ميدانية هي التحكم أو التعطيل، في مسارات الطاقة المتدفقة لأوروبا. حيث يمر خطا أنابيب لنقل الغاز إلى أوروبا عبر القوقاز، قرب المنطقة محل النزاع.