
مجلة “ذا ديبلومات” اليابانية :هل أصبحت حاجة العالم لنظام تجارة عالمي جديد ضرورة مُلحة؟
عرض- أحمد السيد
كتب “أميتاي عتزيوني” (ِAmitai Etizoni)، مقالًا في مجلة “ذا ديبلومات” اليابانية، بتاريخ 22 سبتمبر 2020 تناول فيه مآلات النظام التجاري العالمي، في ظل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وما تزامن معها من تفشي وباء “كوفيد-19″، وهي التداعيات التي دفعت الأكاديميين ومحللي السياسات للتفكير في الشكل الذي سيبدو عليه نظام التجارة العالمي، خاصةً بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، المٌقرَّر عقدها في 3 نوفمبر 2020.
يوضح الكاتب أن الاضطرابات التي أحدثتها الحرب التجارية تسببت في خسائر اقتصادية فادحة للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أدت إلى تباطؤ اقتصادي، وتجميد للاستثمار التجاري، وارتفاع في معدلات البطالة؛ علاوةً على إفلاس المزارعين، والركود الكبير الذي لحق بقطاع التصنيع.
كما أظهرت دراسة، أجراها “معهد بروكينجز” (the Brookings Institution)، أن الحرب التجارية كانت “اَلامها أكثر من مكاسبها” (more pain than gain)؛ وهو ما أكدته دراسة أخرى أجرتها وكالة “موديز للتصنيف الائتماني” (Moody’s Analytics) في سبتمبر 2019؛ حيث أكدت أن الحرب التجارية كلفت الاقتصاد الأمريكي بالفعل ما يقرب من خسارة 300 ألف وظيفة، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بـ 0.3%، أو بنحو 0.7%، وفقًا لدراسات أخرى.
في السياق ذاته، كشف تقرير لـ “بلومبيرج” (Bloomberg)، صدر عام 2019، أن الحرب التجارية ستكلف الاقتصاد الأمريكي 316 مليار دولار أمريكي بحلول نهاية عام 2020؛ وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض رسوم جمركية على الصين، بلغت 46 مليار دولار أمريكي، كما ذكر التقرير أن الرسوم الجمركية أحادية الجانب التي فرضها “ترامب” على الصين، رغم نجاحها في تحويل التدفقات التجارية بعيدًا عن الصين، فإنها تسببت في زيادة العجز التجاري الأمريكي مع أوروبا والمكسيك واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. وفي المقابل، على الرغم من أن التقرير لم يُقدم النوع نفسه من البيانات حول الخسائر التي ألحقتها الحرب التجارية بالصين، فإنه أشار إلى حجم الخسائر المشابه الذي تكبدته الصين.
كذلك، يتوقع المقال أنه خلال السنوات المقبلة، ستمارس الشركات الأمريكية ضغطًا متزايدًا على البيت الأبيض؛ للتوصل إلى اتفاق مع الصين، بسبب الخلل الذي لحق بقدراتها التنافسية في السوق العالمية جراء الحرب التجارية مع الصين.
هذا، وتُظهر تقارير أمريكية أخرى أنه لا يمكن لأي شركة تريد النمو والازدهار والمنافسة أن تتخلي عن سوق تضم أكثر من مليار مستهلك صيني، ناهيك عن فقدان ميزة الاتصال بسلاسل التوريد الصينية، التي تمتاز بخبرة كبيرة في مجال التصنيع، يصعب توافرها في أماكن أخرى، وهو الاعتقاد الذي ترسخ مع تفشي جائحة “كوفيد-19”.
انتقال الحرب إلى مجالات أخرى
لم تقتصر الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على مجالات التجارة فحسب، بل امتدت لتشمل مجالات أخرى؛ حيث سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى حظر وسائل التواصل الاجتماعي الصينية مثل تطبيقات “تيك توك” ((TikTok، و”وي تشات” WeChat))، للحد من وصول الشركات والمواطنين الأمريكيين إليها، وهي التحركات التي من شأنها تقويض وسائل الاتصال الدولي والتدفق الحر للمعلومات والأفكار.
ماذا بعد الانتخابات الأمريكية؟
يوضح الكاتب أنه ووفقًا للحقائق الاقتصادية، يبدو أن المسار الأسوأ هو أن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية في اتباع السياسات نفسها التي روجت لها واتبعتها إدارة “ترامب، ومنها أن تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من انخراطها المتزايد في الشؤون العالمية، والتركيز فقط على شؤونها الداخلية.
كان الرئيس “ترامب” قد وعد باستعادة القاعدة الصناعية الأمريكية إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث ضغط على الشركات الأمريكية لنقل مقارها إلى الولايات المتحدة وإعادة استثماراتها إلى الوطن؛ كما دعا الأمريكيين إلى شراء المنتجات الأمريكية، وتجلت هذه الضغوط في سعي الرئيس “ترامب” إلى إلزام الشركات الأمريكية بعدم بيع الرقائق للشركات الصينية أو استخدام المعدات التي تنتجها. ويُذكَر أن جائحة “كوفيد-19” قد عززت رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في تعزيز قدرات الاكتفاء الذاتي.
لكن يظل هناك اتفاق واسع على أن تكاليف سياسات الاكتفاء الذاتي هذه “باهظة” بالنسبة لجميع الدول، وإن كان هذا لا يعني تبني مفاهيم عولمية مبسطة عن تجارة حرة غير متوازنة، بل يجب أن نتخلى عن التفكير الثنائي وسياسة “إما – أو” (either-or and)، وأنه على الجميع أن يدرك أننا بحاجة إلى نظام جديد يراعي المستجدات العالمية.
وفي الواقع، بُذلت جهود كبيرة في هذا الصدد، لطالما عملت الولايات المتحدة ودول أخرى على حماية مزارعيها من المنافسة الدولية لضمان الأمن الغذائي، كما حددت بعض المنتجات التي رأت في تصديرها للخارج إضرار بالأمن القومي. وحتى عندما يتم القضاء على جائحة “كوفيد-19” فيجب على الولايات المتحدة الاستمرار في ضمان استعدادها بشكل أفضل لمواجهة أي جائحة في المستقبل.
وبشكل عام، وعلى الرغم من أن التجارة القائمة على حرية السوق والعولمة ستفيد بشكل كبير جميع المستهلكين في جميع الدول، لكن استخدام القيود التجارية للأغراض الجيوسياسية نادرًا ما يكون له التأثيرات المرجوة، خاصة عند التعامل مع دول بحجم الصين.
وهناك دعوات بأن تتبنى الولايات المتحدة الأمريكية الجهود لتشكيل نظام تجارة عالمي أكثر حرية، استكمالًا للخطوات التي اتخذتها إدارتا كلٍّ من “بوش” و “أوباما” في هذا الاتجاه، بالعمل على تشكيل ما يُعرف بالـ “شراكة عبر المحيط الهادئ” (Trans-Pacific Partnership (TPP))، والتي ضمت إحدى عشرة دولة ليس من بينها الصين وهي الدول (أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام).
وفي ظل إدارة الرئيس الحالي “دونالد ترامب”، انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من هذه الشراكة، في الوقت الذي زاد اهتمام وحاجة الدول المشاركة بها تطبيقها؛ نتيجة التدخل الصيني الأخير في الشئون الداخلية لأستراليا، والنزاعات الحدودية بين الهند والصين، وفي المقابل، فإن الجاذبية القوية للسوق الصينية وقدرتها على القيام باستثمارات كبيرة في الخارج قد أقنعت هذه الدول وغيرها – بما في ذلك الاتحاد الأوروبي – بمحاولة الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الصين.
الاعتبارات الاقتصادية تتفوق على الاعتبارات الجيوسياسية
قد تتفوق الاعتبارات الاقتصادية التي تفضل التجارة الحرة بين جميع الدول، بما في ذلك الصين، على الاعتبارات الجيوسياسية؛ فإذا كان هناك اعتراف متزايد بأن الصين تسعى فقط إلى زيادة دورها في مجال نفوذها وتأمين تدفق المواد الخام والطاقة التي يعتمد عليها بقاؤها، فسيكون هناك المزيد من الفُرص لتجارة عالمية أكثر حرية.
وفي المقابل، إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها ينظرون إلى الصين باعتبارها قوة مهيمنة عالمية، لتحل محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة، وتفرض قواعدها الخاصة على النظام العالمي، فمن المرجح أن يستمر التشرذم الاقتصادي العالمي.
في الماضي، كانت انتهاكات الصين لحقوق الملكية الفكرية عقبة رئيسة أمام تحرير التجارة؛ ومع ذلك، ينبغي النظر في ثلاثة عوامل في هذا السياق؛ الأول هو أنه في الماضي، عندما تضمنت المفاوضات التجارية التزامًا من جانب الصين بحماية الملكية الفكرية، تحركت حكومتها لإجراء بعض التعديلات المطلوبة، وثانيًا، أنه في الوقت الذي تحقق فيه الصين اختراقات تكنولوجية خاصة بها بشكل متزايد، فقد تصبح أكثر اهتمامًا بحماية هذه الأنواع من حقوق الملكية، وثالثًا، قد تنضم الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدول الصناعية الكبرى الأخرى، بقيادة فرنسا، في استخدام خدماتها الاستخباراتية للمساعدة في حماية حقوق ملكية أعمالها، وتسوية أي خلافات قد تنشأ في المستقبل.
تضافر الجهود العالمية لإيجاد علاج لوباء “كوفيد-19”
هناك حاجة ماسة إلى تعاون دولي بين العلماء الذين يعملون على إيجاد الأدوية لعلاج مرضى “كوفيد -19” وإيجاد اللقاحات المناسبة؛ فالنظام الدولي المأمول يجب أن يكون أكثر تضامنًا؛ ومن ثَمَّ، فمن المنطقي على جميع الدول أن تسعى إلى تضافر جهودها وتجميع مواردها لتطوير لقاح.
في أعقاب الازمات.. تتضافر الجهود
في أعقاب أي أزمة، تميل الدول إلى الاستعداد للمستقبل بشكل أفضل، تجنبًا للوقوع في الأزمة نفسها أو أزمات مُشابهة للأزمة الراهنة، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية عقب هجمات 11 سبتمبر 2001؛ حيث أمضت عشر سنوات تعطي أولوية قصوى لتجنب أي هجوم إرهابي كبير آخر على البلاد، ولا يزال الأشخاص من جميع دول العالم يخضعون لإجراءات أمنية صارمة، قبيل سفرهم للولايات المتحدة الأمريكية.
وبالتالي، قد تميل الولايات المتحدة والصين إلى الاستعداد لأي تحديات قادمة، خاصةً أن الأزمة الرئيسة الحالية، والتي تُعدُّ في متناول اليد تتعلق بـ “المناخ”، إذ يُعد التعاون هنا ضروريًّا؛ نظرًا لاتساع نطاق الضرر المتوقع على جميع بلدان العالم.
وفي ظل التكاليف السياسية الباهظة للسياسات التي يفضلها دعاة حماية البيئة، إلا أن الجزء الأكبر يجب أن يأتي من خلال سعي الدول إلى تقليل انبعاثات غاز “ثاني أكسيد الكربون”، وهو ما يجب أن تتضافر الجهود العالمية من أجله عن طريق الدعم الكبير للحلول التكنولوجية، والاعتماد على الطاقة الشمسية النظيفة، التي من شأنها أن تلعب دورًا مهمًّا في التعامل مع قضية تغير المناخ.
متطلبات النظام الاقتصادي العالمي الجديد
قد يتطلب النظام الاقتصادي العالمي الجديد عدة حلول، من ضمنها الآتي:
- اعتماد الدول على سياسات تصنيعية خصوصًا على دول خارجية في أوقات الأزمات.
- التعاون بين الشرق والغرب في مجالات علمية مُحددة، لا سيما فيما يتعلق بجائحة “كوفيد-19″، وقضايا البيئة مثل “التغير المناخي”.
- سعي العالم إلى بناء نظام تجاري حُر، إما من خلال تحالف يجمع بين دول المحيطين الهندي والهادئ، أو الأفضل، أن ينخرط العالم في نظام تجاري حُر ومفتوح يضم جميع الدول بما في ذلك الصين.
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية