الصحافة الإسرائيلية

مفارقة الأمن الإسرائيلي-الفلسطيني.. تصورات التهديد والأمن القومي مقابل الآخر من وجهة النظر الإسرائيلية

عرض – ماري ماهر

نشر المركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي دراسة بحثية بعنوان “مفارقة الأمن الإسرائيلي-الفلسطيني: تصورات التهديد والأمن القومي مقابل الآخر في منطق الأمن الإسرائيلي”، حيث تتبع الدراسة تطور تصورات الجمهور والنخبة الإسرائيلية للتهديد، والمقاربات الأمنية للصراع العربي الإسرائيلي، كعملية تطورية، من منظور متعدد الأطراف (تصور الصراع على أنه صراع مع العرب)، إلى التصور الثنائي (الاعتراف بمشكلة وطنية فلسطينية مميزة)، والعودة إلى المشكلة المتعددة الأطراف (من خلال تلخيص القضية الفلسطينية في ضوء الاضطرابات العربية خلال العقد الماضي). فضلًا عن التطور الذي طرأ على النهج الأمني الفلسطيني تجاه إسرائيل، وخصائص جهاز الأمن الفلسطيني الحالي والتعاون مع إسرائيل، وتقدير نظرة الجمهور الفلسطيني تجاه هذا التعاون.

وفيما يلي عرض لهذه الدراسة:

التطور في تصور مهددات الأمن الإسرائيلي

كان للأوضاع المحلية في إسرائيل والظروف الإقليمية انعكاس على رؤية إسرائيل، على المستويات السياسية والأمنية وكذلك الشعبية، لطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي.

1. النظرة الإقليمية للصراع (باعتباره صراعًا مع العرب):

ساهم البعد الإقليمي للتصور الإسرائيلي للصراع على أنه صراع مع العالم العربي في بناء وعي جمعي إسرائيلي لا يعترف حتى بوجود هوية وطنية فلسطينية مميزة، إلى درجة ان إسرائيل كانت تفهم العالم العربي على أنه لاعب واحد موحد تم تقسيمه بشكل مصطنع من قبل القوى الاستعمارية إلى دول منفصلة لكنها لا تمثل حركات وطنية أصيلة ومنفصلة، بل مجموعة عرقية رئيسية واحدة. وعليه، فإن إسرائيل لم تقبل مفهوم القومية أو الهوية الفلسطينية في العقود الأولى من وجودها، واعتبرت أن ترسيخ القيادة الفلسطينية هو مجرد مناورة من القادة العرب الرافضين للوجود اليهودي في المنطقة، وعلى رأسهم الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر

ترسخت تلك الرواية بشكل أكبر على المستويين السياسي والأمن في إسرائيل، وبالتالي سعت إلى دحض هذا التهديد عبر الدخول في حروب تقليدية مع الدول العربية، وهي السمة التي ميزت العقود الأولى من وجود إسرائيل. في هذا الإطار كان التركيز على الجبهة الشرقية، حيث كانت الضفة الغربية بالنسبة للجيوش التقليدية العربية الشرقية (أي العراق وسوريا والأردن) بمثابة جبهة استراتيجية لمهاجمة العمق الإسرائيلي وإحداث انقسام داخل الأراضي الإسرائيلية وتركها دولة ممزقة.

ونظرًا لعدم امتلاك إسرائيل حدودًا ممتدة تمكنها من الدفاع عن نفسها قبل وصول الجيوش العربية إلى العمق، اعتمدت على مبدأ “الهجوم الوقائي”، أي امتلاك قوة جوية متفوقة يمكنها السيطرة الجوية في حالة الحرب، وتمكين القوات البرية من التقدم بأمان وإعادة الانتشار على طول الحواجز الطبيعية التي يمكن الدفاع عنها.

ومن هذا المنطلق، دخلت إسرائيل حرب عام 1967 التي احتلت خلالها الضفة الغربية من الأردن، وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة من مصر. حيث اعتبرت إن تلك المساحة الجغرافية الممتدة التي يدخل فيها قناة السويس المصرية ووادي الأردن يُمكن أن تشكل مانعًا طبيعي يقي العمق الإسرائيلي من الهجمات المباشرة.

أيضًا، لعب بناء المستوطنات دورًا مهمًا في عقيدة الأمن الإسرائيلي خلال المراحل الأولى من نشأة الدولة، حيث كانت “الكيبوتس” (المستوطنات الزراعة والعسكرية) والمستوطنات الأخرى بمثابة معاقل دفاعية قوامها السكان والتي يمكن أن تساعد البلاد على مقاومة أي هجمات عسكرية تقليدية. 

* خطتا “إيغال ألون” و”حاييم بارليف”: كان لهذا التصور الإسرائيلي لطبيعة التهديد الاستراتيجي للدولة الوليدة انعكاس واضح على الخطط الاستراتيجية التي وضعتها العقول الإسرائيلية في تلك الفترة، والمتمثلة في خطة الاستيطان التي وضعها وزير الشؤون الخارجية الإسرائيلي الأسبق “إيغال ألون”، وخطة رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي آنذاك “حاييم بارليف”.

– خطة “ألون”: وهي تتعلق بالأساس بتأمين الجبهة الشرقية المتمثلة في وادي الأردن، وقد كانت تلك الخطة جزءًا من العقيدة الأمنية الإسرائيلية لتقوية موقف الدولة إما في الجولة التالية من الحرب التقليدية، أو في عملية حل النزاع مع الدول العربية.

وتجدر الإشارة إلى أن القيادة الإسرائيلية لم تتصور سيطرة دائمة على كامل أراضي الضفة الغربية، ولكنها سعت إلى حل من شأنه أن يحيّد -من وجهة نظرها- خطرين أساسيين يهددان بقاء الدولة الإسرائيلية؛ الأول جغرافي، عبر إيجاد حدود ممتدة قابلة للدفاع عنها في وادي الأردن. لذلك، كان الجانب الرئيسي لخطة “ألون” هو ملء المناطق التي نادرًا ما يسكنها العرب الفلسطينيون، وتعزيز السيطرة الإسرائيلية على وادي الأردن من خلال بناء المستوطنات الزراعية. والثاني ديموغرافي، عبر إيجاد حل للسكان العرب الفلسطينيين في هذه المنطقة. وضعت خطة “ألون” خيارين أمام الحكومة الإسرائيلية هما؛ “الخيار الفلسطيني” المتمثل في إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين أو في نهاية المطاف دولة عربية مستقلة في الضفة الغربية على أن تكون محاطًا جغرافيًا بإسرائيل، وإما “الخيار الأردني” المتمثل في تسليم أراضي الضفة الغربية المأهولة بالسكان إلى الأردن، إذ تتصل بها عبر ممر بالقرب من أريحا، وبهذا تشكل اتفاقية سلام بين البلدين. 

في كلتا الحالتين، كان من المقرر أن تظل الضفة الغربية الفلسطينية منزوعة السلاح، وكان من المقرر أن يظل وادي الأردن حدود إسرائيل القابلة للدفاع عنها، مما يهدئ مخاوف إسرائيل من محيطها الضيق والتهديد من الجبهة الشرقية.

– خطة “بارليف”: تقوم هذه الخطة على تحصين الجبهة الجنوبية لإسرائيل، والمتمثلة في قناة السويس، عبر تشكيل خط دفاعي قوى على طول الضفة الشرقية للقناة، لمنع قدرة مصرية مستقبلية على المناورة داخل إسرائيل، وهو ما يُعرف بـ “عقيده الدفاع الخطي”.

خلال الفترة بين تشكيل هذا الخط الحصين وصدمة حرب 1973، كان هناك بوادر لتطور العقيدة الأمنية الإسرائيلية، تجلت في “مفهوم العمق”، الذي قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرييل شارون، حيث كان الجنرال الوحيد الذي يتحدى عقيدة خط بارليف، أكد أن الجيش لا يمكنه كسب معركة دفاعية على خط دفاع خطي، وكان منطقه في ذلك هو أنه بمجرد حدوث خرق، يصبح الخط بأكمله عديم الفائدة. 

ويقوم “مفهوم العمق”، على بناء نظام ديناميكي للدفاع قائم على “النقاط في العمق” المكون من سلسلة من النقاط القوية، منتشرة على أرض مرتفعة داخل التضاريس على سلسلة من قمم الجبال التي سادت سهل القناة. سيكون هذا البناء بمثابة مصفوفة من نقاط القوة المتشابكة والمتصلة التي يمكن أن تتواصل وتغطي بعضها البعض، وتكون مرنة وتتكيف بشكل أفضل مع المواقف الجديدة في ساحة المعركة. لكن شارون أقيل دون تنفيذ خطته على الحدود الجنوبية وكان خط بارليف هو المبدأ الذي أقيم على القناة. 

هكذا، وقد انتهى خط بارليف على يد الجيش المصري، في أول أيام حرب السادس من أكتوبر 1973، التي كانت بمثابة هجوم مفاجئ من قبل تحالف الجيوش العربية، دق أجراس التهديد الوجودي الإسرائيلي، وأعقبه فوضى سياسية في إسرائيل، أدت إلى زوال هيمنة حزب مباي، وحالة من السخط الشعبي على فشل الحكومة الإسرائيلية في توقع الأحداث والتعامل معها. لكن آرييل شارون – أحد قادة جيش الدفاع خلال الحرب – الذي تمكن من إحداث ثغرة الدفرسوار – كان ينظر إليه علنًا في إسرائيل على أنه الرجل الذي أنقذ الأمة.

بداية التحولات الأيديولوجية وزوال التهديدات التقليدية

لم يتحقق “الخيار الأردني” بإعادة مناطق الضفة الغربية المأهولة إلى الأردن، لكن التحولات الأيديولوجية في إسرائيل كانت موجودة بالفعل وتم تحفيزها، إلى حد كبير، بحربي 1967 و1973. وقد أخذت تلك التحولات المظاهر الآتية:

  • ترسيخ قيادة وطنية فلسطينية، تجسدت في منظمة التحرير الفلسطينية، دعمها جمال عبد الناصر نفسه، وقبلها العالم العربي وتدريجيًا المجتمع الدولي.
  • تطور الصهيونية الدينية، وتمثل ذلك في تشكيل حركة “غوش إيمونيم”، وهي حركة جماهيرية دينية متطرفة، تستمد تعاليمها من المفكر الصهيوني راف كوك، وتسعى الحركة للاستيطان في الضفة وقطاع غزة، وتدعو إلى هدم الأقصى لإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، وتؤمن بالعنف لتحقيق ذلك.
  • الغضب الشعبي الذي جسده أرييل شارون في اتهاماته ضد القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، وهو ما بلغ ذروته في قيام شارون بتأسيس حزب الليكود، الذي يلخص الأيديولوجية الصهيونية التصحيحية و”مدرسة الفكر التي نظرت إلى إقامة دولة فلسطينية على أنها تهديد وجودي لإسرائيل”. 

وقد تفاقمت هذه الفكرة بسبب برنامج النقاط العشر في يونيو 1974، الذي قبلته منظمة التحرير الفلسطينية ردًا على الظروف الجديدة لحرب أكتوبر. ويقوم هذا البرنامج على رفض قرار الأمم المتحدة رقم 242، ودعا إلى إنشاء هيئة فلسطينية ذات سلطة ونضال مرحلي ضد إسرائيل لتحرير “كل الأرضي الفلسطينية”، وأوضحت الوثيقة أن السلطة الوطنية الفلسطينية ستعمل، بمجرد إنشائها، على تحقيق اتحاد دول المواجهة بهدف استكمال تحرير جميع الأراضي الفلسطينية كخطوة على طريق الوحدة العربية الشاملة.

شهد عام 1977 تحولًا في السياسة الإسرائيلية، حيث فاز حزب الليكود بالانتخابات للمرة الأولى، ما يعني قيادة جديدة لليمين. كما تغير بشكل كبير الجو الأمني العام المحيط بإسرائيل الذي كان أساس تصورات التهديد الإسرائيلي؛ فقد باتت الدول العربية تتطلع إلى شؤونها الداخلية بشكل أكبر، وتراجعت أيديولوجية العروبة، وانخفضت فرص تحالف عسكري عربي ضد إسرائيل، وتحقق اتفاق سلام تاريخي بين إسرائيل ومصر وُقع في سبتمبر 1978. ومن المفارقات أن هذا كان أول اعتراف إسرائيلي بالمشكلة الفلسطينية بحد ذاتها، حيث نص الاتفاق على أن “مصر وإسرائيل والأردن وممثلي الشعب الفلسطيني يجب أن يشاركوا في المفاوضات بشأن حل المشكلة الفلسطينية من جميع جوانبها”. 

في هذا الوقت، بدأ شارون العمل على تنفيذ خطته المعاكسة لخطة “ألون”، من خلال ترسيخ الفكرة القائلة بأن خطًا رفيعًا من المستوطنات على طول غور الأردن لن يكون كافيًا من ناحية الدفاع، فقد تصور وحفز إنشاء المستوطنات على التضاريس المرتفعة للضفة الغربية وعبر الطرق الشرقية – الغربية على طول الخطوط الاستراتيجية، وهو ما يعد انتهاكًا لقانون المستوطنات البشرية. 

2. التصور الثنائي للنزاع (باعتباره صراع مع الفلسطينيين):

كان ذلك بشكل رئيسي خلال الانتفاضة الأولى التي تميزت في الغالب باحتجاجات جماهيرية غير مسلحة، عندما بدأ التصور العام الإسرائيلي، في المجال العام وفي المجتمع الأمني، يتحول تدريجيًا نحو الاعتراف بالهوية الوطنية الفلسطينية، وبفكرة أن المشكلة الفلسطينية قائمة بذاتها، وأن هذه مشكلة تتعلق بحل سياسي وليس عسكري. وكان هذا التحول مصحوبًا بتحولات جيوسياسية أوسع على الساحة الإقليمية، تمثل في؛ زوال القومية العربية، والانخفاض التدريجي في قدرة الاتحاد السوفياتي على دعم الدول العربية الحليفة عسكريًا، وتوقيع اتفاقية السلام مع مصر، وعملية عاصفة الصحراء، التي أعاقت بشكل كبير القوة العسكرية العراقية وتقليص ركيزة أساسية لما أشارت إليه إسرائيل بالخطر القادم من “الحدود الشرقية”. 

ساهمت كل هذه التطورات الاستراتيجية في تحقيق قفزة إسرائيلية أكبر في ميزان القوى الإقليمي وفي تحول في العقلية الأمنية الإسرائيلية. لقد اكتسبت إسرائيل الآن ما يكفي من الثقة بالنفس لتقديم تنازلات إقليمية واتخاذ مبادرات سياسية أكثر خطورة، حيث تبدد تهديد القوات التقليدية العربية. وبرزت مجموعة جديدة من التهديدات الأمنية الأكثر أهمية مثل؛ أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب، وحرب العصابات، و”أسلمة” النضال الوطني الفلسطيني وتأسيس القدرة على صنع القنابل. 

رفض حزب الليكود برئاسة، إسحاق شامير، قبول القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية كحركة وطنية مميزة حتى بعد إعلان منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، بناءً على الحجة القائلة بأن هذا التطور كان جزءًا من استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية للقضاء على إسرائيل. لكن في بداية التسعينيات، اختار الجمهور الإسرائيلي البديل الذي جسده إسحاق رابين وحزب العمل الدخول في عملية أوسلو، ومع ذلك كانت هذه القيادة الجديدة مدركة لتطور العناصر الإسلامية داخل النضال الوطني الفلسطيني، المتمثلة في حركة حماس والجهاد الإسلامي، اللتان ولدتا في بداية الانتفاضة لمحاربة إسرائيل وتحدي منظمة التحرير الفلسطينية بزعم قبولها بإسرائيل. وقد شكلت حماس والجهاد الجبهة المفسدة لما كان من المقرر أن يتطور إلى عملية أوسلو، حيث بدأت حقبة التفجيرات الانتحارية في بداية التسعينيات. 

ومع اعتراف ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية بقرار الأمم المتحدة رقم 242 ودولة إسرائيل، كان المبدأ الذي يقود الحكومة الإسرائيلية الجديدة هو “السلام قبل الأمن”، وهذا يعني التفرقة بين القيادة الفلسطينية الرسمية الممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل المفسدة؛ حماس والجهاد الإسلامي، والاعتقاد بأن الاتفاق التفاوضي مع هذه القيادة يمكن أن يحقق السلام ويضع حدًا للعنف، إذ يُنهي أسباب الإرهاب ويسهل للسلطة الفلسطينية السيطرة على هذه الفصائل المفسدة. وقد أدى ذلك إلى عملية أوسلو وإنشاء سلطة فلسطينية مؤقتة تتمتع بالحكم الذاتي وتتولى سيطرة سياسية وأمنية واسعة النطاق على أجزاء من أراضيها لفترة انتقالية لمدة خمس سنوات تنتهي باتفاق الوضع النهائي.

الفصائل الإسلامية المتشددة في النضال الوطني الفلسطيني

رأت حكومة رابين في عملية أوسلو أنها ستكون بمثابة فترة انتقالية لبناء الثقة وتهيئة الطريق أمام الدخول في عملية تفاوضية كاملة لحل النزاع، حيث سينتح عن أوسلو سلطة فلسطينية متمتعة بالحكم الذاتي وقادرة على الحفاظ بشكل أفضل على القانون والنظام في الأراضي الفلسطينية، وإخماد صعود الأصوليين الإسلاميين.  وقد اتضحت تلك الرؤية في تصريحات لرابيين خلال لقاء تليفزيوني، إذ قال إن “الشرطة الفلسطينية ستكون قادرة على محاربة حماس بشكل أكثر فاعلية وبدون القيود المفروضة على إسرائيل من قبل المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان”. 

على الجانب الفلسطيني، قدمت حماس نفسها كمعارض لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأعلنت هذا صراحة في ميثاقها عام 1988. وفي عام 1991 أسست حماس رسميًا جناحها العسكري “كتائب عز الدين القسام”، واكتسبت احترامًا كبيرًا في الشارع الفلسطيني منذ ظهورها الأول في الانتفاضة الأولى. 

ينظر البعض إلى ظهور حماس على أنه “أسلمة للصراع”، لكنها في الواقع ظهرت بعد فترة طويلة من الانتعاش الديني السياسي في الأراضي الفلسطينية وخاصة في قطاع غزة، حيث نشطت جماعة الإخوان المسلمون، بقيادة الشيخ أحمد ياسين، والمجموعات الإسلامية الأخرى، الذين كانوا، منذ أوائل السبعينيات، يركزون على البرامج الاجتماعية والتعليمية والترفيهية، بدعم نسبي من إسرائيل، ثم بدعم إيران التي سعت منذ أوائل الثمانينيات إلى تصدير ثورتها الإسلامية، وكذلك بدعم مانحين آخرين من منطقة الخليج. وقد ساعد ذلك الدعم تلك الفصائل الإسلامية في إنشاء مؤسسات تشمل المستشفيات ودور الأيتام والمساجد والمدارس والبنوك والعيادات والمكتبات وشبكة مؤسسات الرعاية الاجتماعية ما ساهم كثيرًا في الرفاهية الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني. 

وبحلول عام 1990، بعد أن تم عسكرة حماس، تم حظرها من قبل السلطات الإسرائيلية، وكانت السياسة الإسرائيلية هي قمع الحركة والفصائل الإسلامية الأخرى. لكن بعد أن شهد ياسر عرفات قوة حماس وشرعيتها المتزايدة، دعاهم للانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية، لكنهم ظلوا مختلفين بشأن رغبة المنظمة في التفاوض مع إسرائيل. 

ويرى البعض أن تحدي الشرعية الداخلية الذي فرضته حماس هو الذي جعل عرفات يسعى لشرعية دولية قوية باعتباره الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، مما دفعه لحضور مؤتمر مدريد، وبالتالي الانطلاق في عملية أوسلو. وعندما عاد عرفات إلى فلسطين في الأول من يوليو 1994، كان قد وُعد بالفعل بهذا الاعتراف الدولي، لكنه كان يعلم أنه سيواجه تحديًا كبيرًا في وطنه، حيث كانت التحولات الأيديولوجية داخل المجتمع الفلسطيني موجودة بالفعل. 

كانت الاشتباكات المباشرة قد وقعت بالفعل في صيف عام 1992، وازداد التوتر مع عودة عرفات عام 1994، وتأسيس السلطة الفلسطينية وقواتها الأمنية في مايو 1994. هذه التوترات جعلته يسمح لقواته الأمنية المنشأة حديثًا بالعمل بحرية أكبر ضد نشطاء المعارضة، بما في ذلك حملة اعتقالات واسعة النطاق وإجراءات وقائية، وبلغت ذروتها في الجمعة السوداء في نوفمبر 1994، حيث أطلقت الشرطة المدنية الفلسطينية النار على متظاهري حماس خارج مسجد في غزة، مما أسفر عن مقتل ثلاثة عشر متظاهرًا وإصابة حوالي مائتين، وبالتالي خلق ضجة في المجتمع الفلسطيني. وفي هذا السياق، كانت القيادة الإسرائيلية على استعداد “لمواصلة المفاوضات وكأنه لم تكن هناك هجمات إرهابية، ومحاربة الإرهاب كما لو لم تكن هناك مفاوضات”. 

وفي فبراير 1995، بعد موجة أخرى من الهجمات الانتحارية التي شنتها حماس في إسرائيل، أنشأ عرفات محكمة أمن الدولة التي كانت ستوسع السلطة القضائية للتعامل مع المعارضة العنيفة لعملية أوسلو. ويُزعم أن هذا وحده هو الذي أقنع رئيس الوزراء الإسرائيلي رابين بالمتابعة والتوقيع على اتفاقية أوسلو الثانية. كان هذا هو السياق الذي كانت فيه القيادة السياسية الإسرائيلية تغض الطرف عن انتهاكات عرفات المستمرة لاتفاقيات أوسلو، طالما أنه يعمل على احتواء الجماعات الإسلامية الرافضة.

لكن تلك الفترة أصبحت واحدة من أعظم فترات انعدام الأمن في الشوارع الإسرائيلية، والتي تميزت بتزايد قدرة حماس والجهاد الإسلامي على تنفيذ عمليات انتحارية داخل إسرائيل. كانت هذه الحقبة أكبر صراع سياسي أيديولوجي بين اليسار واليمين في إسرائيل، وبلغ ذروته باغتيال رابيين الذي اتهم بتعريض حياة الإسرائيليين للخطر. 

خلف رابين شمعون بيريز، ولكن بحلول عام 1996، أدى التناقض الحاد بين سياسة أوسلو وتزايد العنف الإرهابي إلى اختيار غالبية الإسرائيليين لمفهوم “الأمن قبل السلام”، الذي هتف به بنيامين نتنياهو وحزب الليكود، ووعد على أساسه بعرقلة أهداف اتفاقية أوسلو 2. كان هذا علامة على عدم رغبة الإسرائيليين في “المخاطرة بأمنهم قصير المدى من أجل ما بدا أنه وعد مشكوك فيه بأمن أفضل في المستقبل”.

تطور النهج الأمني الفلسطيني تجاه إسرائيل

يناقش هذا الجزء تطور بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بالتعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة وعقيدتها، وما أحدثته انتفاضة الأقصى من تغير في وجهة النظر الإسرائيلية تجاه الجهاز الأمني الفلسطيني وتصاعد المطالبات بإصلاحه.

1. مرحلة بناء قوات الأمن الوطني الفلسطيني (1994- 2000):

كانت المرحلة الأولى لتأسيس السلطة الفلسطينية وقوات الأمن الوطني الفلسطيني، هي عودة ياسر عرفات مع أعضاء من جيش التحرير الفلسطيني إلى قطاع غزة وأريحا ليحلوا محل القوات الإسرائيلية، حيث استقبل هو ورفاقه بابتهاج من قبل الجماهير، معتبرين أن تلك هي الخطوة الأولى لتقرير المصير الفلسطيني، والتي ستسفر في نهاية المطاف عن إقامة الدولة الفلسطينية. 

وبعد ذلك بوقت قصير، كان من المقرر أن تحكم إسرائيل على هذه القوة بناءً على قدرتها على مواجهة أعمال الإرهاب في خضم عملية السلام، ومن قبل المجتمع الفلسطيني، بناءً على قدرتها على الارتقاء إلى مستوى كونها رمزًا للكرامة الوطنية والحكم الذاتي.

التعاون الأمني مع إسرائيل بموجب أوسلو

أسست اتفاقات أوسلو إطار التعاون الأمني ​​بين السلطة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي. تمثلت آليه التعاون الأولى في لجان التنسيق، حيث كانت اللجنة المشتركة للتنسيق والتعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل “JSC” والتي تشرف على لجنتي الأمن الإقليميتين الإسرائيليتين الفلسطينيتين “RSC” في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت هذه اللجان مسؤولة عن مكاتب التنسيق الإقليمية العشرة “DCOs” التي كانت المستوى الأدنى من آلية التنسيق، وكانوا يتألفون من ضباط فلسطينيين وناطقين بالعربية في جيش الدفاع الإسرائيلي وكانوا مسؤولين عن تبادل المعلومات وحل المشاكل الأمنية. 

وتمثلت الآلية الثانية في الدوريات المشتركة التي يقوم فيها رجال شرطة إسرائيليون وفلسطينيون بدوريات في “مناطق التماس” بين السيطرة الإسرائيلية والفلسطينية. وعلى الرغم من أن هذه الآلية لم تخدم هدفًا أمنيًا استراتيجيًا، فقد كان يُنظر إليها على أنها آلية بناء ثقة لما يمكن أن يكون عليه التعاون الأمني الإسرائيلي الفلسطيني.

سياسة عرفات الأمنية وتصاعد الشكوك الإسرائيلية

أثار سلوك عرفات الشكوك داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، حيث كانت المعلومات الاستخباراتية بشأن الانتهاكات العميقة لقيود أوسلو المتعلقة بقوات الأمن تتدفق بأعداد أكبر منذ منتصف التسعينيات فصاعدًا. شملت الانتهاكات: عدد عناصر الأمن العاملين في القوة، وعدد الفروع المسموح بها، والتحول في برامج تدريب قوات الأمن إلى ممارسات ذات توجه عسكري، وعدد وأنواع الأسلحة التي حصلت عليها السلطة الفلسطينية. كما اتبع عرفات، الذي كان القائد العام لقوات الأمن، سياسة “فرق تسد” بغرض ضمان الحفاظ على ولاء كافة الأجهزة الأمنية له، لذلك، لم يكن لديهم أبدًا استراتيجية أمنية واضحة أو تسلسل قيادي رسمي أو أي وظيفة متماسكة. على العكس من ذلك، فإن استراتيجية عرفات أبقت على مختلف الأفرع وقادتها متنافسين، وبلغت ذروتها في كثير من الأحيان بصدامات مسلحة. كما استخدم هؤلاء القادة المحسوبية والولاءات الشخصية، مما أثر على تماسك القوات وشموليتها. 

عززت ديناميكيات المحسوبية والفساد التي تعمقت بسبب الانتهاكات المذكورة أعلاه لاتفاقيات أوسلو “ثقافة السلاح”، حيث كان من الشائع رؤية رجال يرتدون ملابس مدنية يسيرون في الشوارع حاملين السلاح، وعلى استعداد لاستخدامه لحل أي مشكلة صغيرة. وكان هناك عدد من الميليشيات المسلحة في صراع مباشر مع بعضها البعض، وكانوا جميعًا تابعين لعرفات باعتباره مركز القوة البيروقراطية والكاريزمية. 

وبحلول عام 2001، كانت الأراضي الفلسطينية واحدة من أكثر المناطق حراسة وتسليحًا في العالم، بنسبة ضابط أمن واحد لكل خمسين مواطنًا.

وفيما يتعلق بحماس، فشل عرفات في تحقيق تطلعات إسرائيل في قمعها. خوفًا من الصراع الأهلي الداخلي، خاصة بعد أحداث مثل الجمعة السوداء، والخوف من وصفه بأنه متعاون مع إسرائيل. لذلك حافظ عرفات على علاقة متوازنة إلى حد ما مع حماس تتميز بمقاربة الجزرة والعصا التي كانت تهدف إلى استيعاب حماس في قضيته الكبرى. 

التحول في العلاقات الأمنية مع إسرائيل

حدثت تعقيدات جديدة في العلاقات الأمنية بين الجانبين في سبتمبر 1996، مع قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بفتح نفق الحشمونائيم أمام السائحين، الذي يمتد تحت باب المطهرة بالمسجد الأقصى، مما أدى إلى اندلاع أعمال شغب عنيفة امتدت من القدس والخليل إلى باقي المناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يجد فيها الجيش الإسرائيلي نفسه في مواجهة ضباط أمن فلسطينيين كانوا ينضمون إلى الحشود ويستخدمون الذخيرة الحية بدلًا من الرصاص المطاطي، كانت بمثابة حرب مسلحة، بلغ عدد القتلى فيها 69 فلسطينيا و14 إسرائيليًا، 

بدأ الجيش الإسرائيلي مرحلة تعديل في خططه العسكرية للتعامل مع العنف المسلح في الأراضي الفلسطينية في المستقبل. تبع ذلك خلال النصف الثاني من التسعينيات المزيد من الروايات التي تتناول انتهاكات السلطة الفلسطينية لكل جوانب اتفاقيات أوسلو المتعلقة بالأمن، وبدأ الحديث عن أن السلطة الفلسطينية لا يمكن الوثوق بها وأن الأسلحة التي قدمتها إسرائيل انقلبت ضدها. 

وعندما اندلع عنف الانتفاضة الثانية، تأكدت النخبة العسكرية، وبالتالي السياسية الإسرائيلية، أن عرفات كان يخطط لحرب طوال الوقت، حتى عندما كان يحصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1994، وأن انتفاضة الأقصى كان مخططا لها مسبقًا.

2. مرحلة الصراع المسلح بين الفلسطينيين والإسرائيليين (2000-2007):

من وجهة نظر عرفات، فإن الكفاح المسلح الذي نفذته قواته الأمنية، خاصة خلال أعمال الشغب في نفق الحشمونائيم في عام 1996، حقق مكاسب دبلوماسية، تُجسدها اتفاق الخليل 1997 ومذكرة واي ريفر 1998. أما في إسرائيل، كان جيش الدفاع الإسرائيلي، يعد نفسه للحظة الأخيرة من فترة الخمس سنوات المؤقتة المحددة بموجب عملية أوسلو، وأعاد بناء خططه العسكرية وتدريبه على أساس أنه يتعامل مع قوات مسلحة.

انتفاضة الأقصى

مع اندلاع انتفاضة الأقصى، سعت الحكومة الإسرائيلية إلى سياسة ضبط النفس العسكري في رد فعلها على الأحداث، كما اعتبرت أن العنف جزء من دبلوماسية الأحزاب الفلسطينية. لذلك استمرت المفاوضات وسط اندلاع أعمال العنف. وهذا يعني أن إسرائيل ما زالت تعتقد أن الدبلوماسية يمكن أن تؤدي إلى اتفاق من شأنه أن يضع حدًا للعنف. وبناءً عليه، أمرت الجيش الإسرائيلي باتباع سياسة الاحتواء وخفض التصعيد، أي استخدام درجة من القوة تمكن من حماية أرواح الإسرائيليين ولا تعيق الجهود الدبلوماسية.

في المرحلة الأولى، كان تدخل قوات الأمن الفلسطينية في الأحداث ذا طبيعة شخصية ومتفرقة، لكن مع ذلك كان له تداعيات أخرى على نهج إسرائيل تجاه السلطة الفلسطينية. حيث وقعت الحادثة الأولى في 29 سبتمبر عندما قتل ضابط شرطة فلسطيني نظيره الإسرائيلي خلال دورية مشتركة في قلقيلية، مما أدى إلى إنهاء آلية الدوريات المشتركة. وكانت الثانية عندما شارك ضابطا شرطة فلسطينيان في رام الله في قتل اثنين من جنود الاحتياط في جيش الدفاع الإسرائيلي. 

كان الحادثان بداية لاندلاع نزاع مسلح بين الطرفين، حيث قصفت الطائرات الإسرائيلية مباني الشرطة الفلسطينية ومؤسسات أخرى تابعة للسلطة، فيما حصل عرفات على دعم مالي وخطابي كامل للهجمات ضد إسرائيل. 

أعقب ذلك اندلاع عملية “الدرع الواقي” في 2002، نتيجة لهجوم على فندق بارك في نتانيا مساء عيد الفصح، بعد عام ونصف لم تتمكن خلاله المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من إحباط حملات التفجير الفدائية التي اندلعت في كل المناطق وداخل إسرائيل. سعت العملية إلى استعادة السيطرة على جميع المدن الفلسطينية في المنطقة أ، وشن حملة واسعة بدعوى “مكافحة الإرهاب”، وقد أسفرت العملية عن خسائر كبيرة في البنية التحتية للسلطة الفلسطينية وتعرض قوات الأمن الفلسطينية للدمار من حيث الموارد المادية والبنية التحتية، على الرغم من بقاء هيكلها التنظيمي.

وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية كانت لا تزال مسيطرة على مناطق وجودها في بيت لحم ورام الله وأريحا، لكن كان هناك فراغ سرعان ما تم ملؤه من قبل القوات غير النظامية، المتمثلة في الأجنحة المسلحة للفصائل السياسية التي أصبحت الآن القوة الحقيقية في الضفة الغربية، ولكنها شملت أيضًا هيئات غير رسمية أخرى.

انتخاب عباس والتغير في التفكير الأمني

جاء انتخاب محمود عباس خلفًا لعرفات، ليحدث نقله في التفكير الأمني للسلطة الفلسطينية، حيث تضمنت عقيدة عباس عنصرين اعتُبِرا تغييرًا في النظرة الأمنية؛ الأول هو نهج “صفر عنف” باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق مكاسب سياسية. والثاني هو سياسة “سلطة واحدة، قاعدة واحدة، بندقية واحدة” التي تقوم على احتكار السلطة الفلسطينية لاستخدام القوة والحاجة إلى تعزيز القانون والنظام العام. 

وقد تم تحديد هذا النهج الجديد في السابق كشرط أساسي من قبل مجتمع المانحين الدوليين المتعاطفين، فقد كان تقرير ميتشل، الذي نُشر في خضم أعمال العنف في أبريل 2001، أول صوت دولي يحث السلطة الفلسطينية على إنشاء تسلسل قيادي واضح لقوات الأمن الواقعة تحت سيطرتها، فضلًا عن ضغوط من إدارة بوش واللجنة الرباعية، في سياق حقبة ما بعد 11 سبتمبر، والتي قدمت خارطة طريق قائمة على فكرة أن البناء المؤسسي الفلسطيني والإصلاح وإثبات القدرة شرطًا مسبقًا لحل الوضع النهائي. 

تم إنشاء فريق العمل المعني بالإصلاح الفلسطيني “TFPR” في عام 2002 من أجل مراقبة ومساعدة السلطة الفلسطينية في هذا التوجيه الجديد. وفي هذا المناخ، وقع عباس وقف إطلاق النار مع أرييل شارون في 8 فبراير 2005 وأصبح الطريق ممهدًا لإصلاح الجهاز الأمني. وفي مارس 2005، أنشأت الولايات المتحدة مكتب المنسق الأمني ​​الأمريكي “USSC”، وفي يناير 2006، أنشأ الاتحاد الأوروبي مكتبه التنسيقي لدعم الشرطة الفلسطينية “EUPOL COPPS”.

كان عباس قد بادر بعملية الإصلاح، لكن عدم الاستقرار السياسي لم يتوقف عند هذه المرحلة، حيث شهد عام 2005 والسنوات اللاحقة فك الارتباط الإسرائيلي من قطاع غزة، وفوز حماس في الانتخابات العامة 2006، والتوترات اللاحقة التي افضت إلى استيلاء حماس على قطاع غزة في 2007، ما أدى إلى تقسيم الهيكل السياسي الفلسطيني.

3. الوضع الأمني الحالي:

تركت التطورات الإقليمية وعدم الاستقرار الناتج عن أحداث ما عُرف بالربيع العربي، بصماتها على التصورات الإسرائيلية لطبيعة التهديدات ومصادرها؛ ففي عام 2011، أعرب صناع السياسة الإسرائيليون عن قلقهم بشأن المسار غير المعروف للأحداث، خاصة في مصر، حيث خشي الإسرائيليون من أن تؤدي هذه الثورات إلى وضع من شأنه أن يجبر إسرائيل على خوض حرب متعددة الجبهات، بالنظر إلى أن غزة بقيادة حماس وحزب الله شكلا بالفعل جبهتين محتملتين. وقد زاد من هذه المخاوف التدخل الإيراني في سوريا.

شكلت تلك الأحداث أيضًا التصورات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، فمنذ فشل اتفاقيات أوسلو، وضعت إسرائيل سيناريوهان أحلاهما مر بالنسبة لها؛ الأول أن أي اتفاقية سلام مع فلسطين لن تعني نهاية العداء، ولكن إقامة دولة فلسطينية معادية ومسلحة ومصممة على تدمير إسرائيل. والثاني، أن هذا البلد المستقبلي سيكون دولة مختلة وظيفيًا، وليست مجدية اقتصاديًا أو سياسيًا، ولن تكون قادرة على احتواء مشاكلها داخل حدودها. 

وفي ظل الوضع عام 2011 حيث تستعد إسرائيل لحرب متعددة الجبهات، فإن أي من هذه الاحتمالات من شأنه أن يولد بيئة أمنية استراتيجية جديدة ومخيفة تجاه فلسطين، وهي:

  • بناء قوة عسكرية فلسطينية غير خاضعة للرقابة من شأنها أن تنقلب ضد إسرائيل أو تسليح الجماعات الإرهابية لهذا الغرض.
  • بناء منشآت عسكرية تمنع القوات الإسرائيلية من التحرك عبر الضفة الغربية في حالة طوارئ تتطلب انتشارًا إسرائيليًا على الجبهة الشرقية.
  • استيلاء حماس أو جماعة إسلامية مسلحة أخرى على الضفة الغربية الأمر الذي سيحول الضفة إلى منصة إطلاق صواريخ على بقية إسرائيل. 

كان للبيئة العربية المضطربة تلك انعكاسًا على العقيدة الأمنية الإسرائيلية، اتضح ذلك في الخوف المتجدد من مصير الأردن التي يشكل الفلسطينيون 70٪ من سكانها، وإعادة اعتبار إيران تهديد من الجبهة الشرقية، وأخيرًا، التصور العام الذي يربط المستوطنات بالأمن، فعلى عكس المؤسسة الأمنية، لا يفرق الجمهور الإسرائيلي عادة بين الوجود المدني والوجود العسكر، وينظر العديد من الإسرائيليين إلى المستوطنات الواقعة خلف الخط الأخضر، وخاصة الكتل الاستيطانية، على أنها سد واقي لأي هجمات يمكن أن تطال قلب إسرائيل، في حين يوجد إجماع متزايد في المؤسسة الأمنية على أن تلك المستوطنات الموجودة خارج الكتل هي عبء على قوات الأمن.

يتضح مما سبق، أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يحيط به الآن بيئة إقليمية جديدة من عدم اليقين وفشل الدولة وظهور الإسلام المتشدد. هنا تكمن الحجة الرئيسية في تلك الورقة، ومفادها أنه بينما أصبح الأمن ركيزة في الهوية الجمعية الإسرائيلية، فشل الإسرائيليون في التفكير بدقة في تطور الأمن الفلسطيني في العقد الماضي. 

تقييم دور الأجهزة الأمنية الفلسطينية

سعت الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى تحجيم سيطرة حركة حماس والفصائل المسلحة على الأراضي الفلسطينية، أملًا في تهدئة الوضع مع إسرائيل، بغية الوصول في نهاية المطاف إلى تحقيق سلام شامل يفضي إلى إقامة الدولة.

1. المواجهة الأمنية مع حماس (2007- 2018):

كان استيلاء حماس على قطاع غزة بمثابة جرس إنذار للسلطة الفلسطينية. أقال محمود عباس على الفور أعضاء في حكومة حماس وأعلن حكومة طوارئ برئاسة سلام فياض. ومنذ ذلك الحين، رأت السلطة الفلسطينية في حماس تهديدًا، وبهذا تقاربت بشكل أكبر مع وجهة النظر الإسرائيلية. 

اعتبارًا من هذا العام فصاعدًا، تم بلورة أهداف السلطة الفلسطينية بشكل أفضل والتي تمثلت في تحجيم حركة حماس، والقضاء على أشكال التنظيمات المسلحة غير النظامية، وإعادة تأكيد السيطرة المركزية للسلطة الفلسطينية من خلال قوة أمنية موحدة. كان الهدف هو إنهاء الفوضى الأمنية، لضمان الحفاظ على النظام وبناء مؤسسات دولة حديثة وبهذا تستعيد ثقة المجتمع الدولي وإسرائيل، وتحيّد الحجة الإسرائيلية الرئيسية ضد إقامة الدولة، وهو ما يمهد الطريق للاستقلال.

تبنى فياض نهج “الأمن أولًا”، بالتأكيد على إعادة بناء الأجهزة الأمنية بطريقة مهنية، لإثبات أن الفلسطينيين شركاء موثوقون للسلام وقادرون على حكم أنفسهم على الرغم من وجود الاحتلال. وشرعت السلطة الفلسطينية في عملية إصلاح قطاع الأمن بهدف إعادة إنشاء قوة وطنية محترفة ومنفصلة عن الفصائل. وقد تم إنشاء البنية التحتية لقوة الأمن ورفع مستوى القدرات الهيكلية والتنظيمية، بالتعاون مع مجلس الأمن القومي الأمريكي، الذي ساعد في توفير الدعم المالي والفني لتدريب وتجهيز قوات الأمن.

ابتداء من أواخر عام 2007، كانت هناك حملات كبرى في نابلس وجنين والخليل لفرض سيطرة السلطة الفلسطينية، ومصادرة الأسلحة غير المشروعة، وإثبات وجود قوات الأمن، واعتقال عناصر حماس، وتطهير المناصب الأمنية والحكومية من المشتبه بانتمائهم للتيارات الإسلامية، وإغلاق منظمات المجتمع المدني التابعة لحماس. وفي المقابل، شنت حركة حماس هجوم مضاد بالتعاون مع كتائب شهداء الأقصى. 

وفيما يتعلق بكتائب شهداء الأقصى، تم إدخال برنامج عفو بالتعاون مع إسرائيل بهدف التشجيع على نزع سلاحهم. والذين وافقوا على التخلي عن أسلحتهم والامتناع عن العنف تم شطبهم من قوائم المطلوبين الإسرائيليين وتم دمج بعضهم في الأجهزة الأمنية. وبحسب روايات مجموعة الأزمات الدولية في عام 2010، أظهر البرنامج، وفقًا لأرقام إسرائيلية وفلسطينية، نتائج مهمة في تسريح القوة. لكن الروايات الأخيرة أشارت إلى أن الألوية لم يتم تعطيلها، وتنشط في العديد من المناطق خاصة في مخيمات اللاجئين.

2. الوضع الأمني ​​الحالي في الضفة الغربية:

تتشكل الأجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية من 30 ألف رجل. وتتوزع القوة على ثمانية فروع هي: الأمن الوطني، والشرطة المدنية، والحرس الرئاسي، ومكتب التنسيق المحلي، والمخابرات العسكرية، والأمن الوقائي، والمخابرات العامة، والدفاع المدني. وتقوم الأجهزة الأمنية بثلاث مهام أساسية: حملة مستمرة ضد حماس، الحفاظ على القانون والنظام، والحفاظ على التعاون الأمني ​​مع إسرائيل.

ضعف حركة حماس

أصبح تواجد حركة حماس حاليًا في الضفة ضعيفًا مقارنة بما كانت عليه قبل سنوات قليلة. فبحلول عام 2010، زُعم أنه ليس لها وجود واضح وقدرة على العمل كحزب سياسي. وتكمن قوة حماس المنظمة هذه الأيام، في معاقلها التقليدية في الضفة الغربية ونابلس والخليل وسلواد، وبدرجة أقل جنين. وفي حين أن الخطر الذي تشكله حماس على السلطة الفلسطينية ليس ذا طبيعة عسكرية، فإن الخطر الأيديولوجي لا يزال قائمًا. 

ومع ذلك، تشير مصادر أمنية إسرائيلية إلى محاولات حركة حماس المستمرة لتأسيس وجود قوي ومستقر في الضفة الغربية، حيث أشارت العديد من الروايات الصادرة عن وكالات الأنباء الإسرائيلية إلى أنه وفقًا لما ذكره نداف أرغمان، الرئيس الحالي لجهاز الأمن العام الإسرائيلي “شاباك”، فقد تم إحباط حوالي 148 خلية لحركة حماس في الضفة الغربية في عام 2016. وهذا بحسب أرغمان، يوضح جهود حماس في ترسيخ وجودها، بل ومحاولة احتلال الضفة الغربية. 

كذلك قدم أوهاد حمو، المراسل الإسرائيلي الذي زار مخيم جنين للاجئين في أواخر عام 2015، تغطية مفيدة للوجود الكبير لحركة حماس والجهاد الإسلامي في الضفة، حيث سجل نزاعًا مسلحًا بين القوات التباعة للسلطة الفلسطينية ومسلحين في مخيم جنين للاجئين، وأشار السكان إلى السلطة الفلسطينية بـ “المتعاونين مع الاحتلال” و”الخونة”. 

تؤكد هذه الواقعة إرادة السلطة الفلسطينية في بسط سيطرتها على كامل أراضي الضفة بما في ذلك مخيمات اللاجئين، لكنها تكشف أن السلطة الفلسطينية مازالت بعيدة عن أن تكون قادرة على القضاء على جميع التنظيمات المسلحة في الأراضي الخاضعة لسيطرتها. تمامًا كما يتجلى في مخيم جنين، حيث لا تزال السلطة الفلسطينية مترددة، لأسباب تشغيلية وسياسية، في إرساء النظام بالكامل في العديد من مخيمات اللاجئين والمدن الداخلية في الضفة الغربية، والتي غالبًا ما توصف بأنها “مناطق محظورة” و”نقاط ضعيفة” خارج حدود السلطة الفلسطينية. 

وتنشر مراكز الأبحاث الإسرائيلية، وجهات نظر متشائمة بشأن مدى قدرة السلطة الفلسطينية على السيطرة على كافة الأراضي الخاضعة لسيطرتها، ومن ذلك يقول بنحاس عنباري، في مركز القدس للشؤون العامة، إن “عدم قدرة السلطة الفلسطينية على إعادة فرض سيطرتها الكاملة على الأراضي، هو جزء من عملية تفكيك أكبر للسلطة نفسها، وهي سائدة في العديد من المناطق الأخرى، مثل الخليل، حيث نزعة إسلامية متنامية (حزب التحرير على وجه الخصوص)”.

سلط هذا الوضع الضوء مرة أخرى على درجة الثقة والتعاون بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل؛ حيث يؤكد بعض المسؤولين الأجانب والفلسطينيين أن عدم قدرة السلطة على فرض حكمها ينبع من نقص القدرات بسبب القيود الإسرائيلية الصارمة، لا سيما المتعلقة بدخول المركبات المدرعة والدروع الواقية من الرصاص والأسلحة المتطورة. وردًا على ذلك، يقول المسؤولون الإسرائيليون إن الأمر يتعلق بالإرادة السياسية، إذ لا تزال حركة فتح تنظر إلى كتائب شهداء الأقصى، على أنها “احتياطي استراتيجي” في أي نضال مسلح أو شعبي، سواء ضد الفصائل الفلسطينية الأخرى أو ضد إسرائيل. 

الفراغ الأمني في المناطق الخاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية

تخضع هذه المناطق للمصالح الإسرائيلية المتشددة والإجراءات الصارمة المتعلقة بـ “مكافحة الإرهاب”، مما يترك فراغًا من حيث النظام المدني الذي يتم استغلاله من قبل الشبكات الإجرامية التي تنشر المخدرات والأسلحة غير المشروعة، وتسهل انتشار انعدام الأمن المجتمعي بين السكان الفلسطينيين في هذه المناطق. 

وفقًا لاستطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (PCPSR)، كان من الواضح أن سكان المنطقة (أ) يشعرون بالأمان بشكل ملحوظ أكثر من سكان المناطق (ب) و(ج)، بما في ذلك الخليل والقدس الشرقية. وأوضحوا الحاجة إلى إنفاذ القانون من جانب السلطة الفلسطينية. وخير مثال على ذلك إنشاء ثلاثة مراكز للشرطة الفلسطينية في أبريل 2015 في الرام وأبو ديس وبدّو، وجميعها مدن في ضواحي القدس، تخضع رسميًا للسيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة. 

هذه المناطق، إلى جانب قرى أخرى شمال وجنوب القدس، أُهملت من قبل إسرائيل لفترة طويلة فيما يتعلق بالشرطة وإنفاذ القانون، وأصبحت هذه الأراضي المحايدة بين سيطرة إسرائيل والسلطة الفلسطينية ملاذات للنشاط الإجرامي، مليئة بتجار المخدرات وتجار الأسلحة ولصوص السيارات وشبكات الدعارة. 

وقد أشارت التقارير والاستطلاعات إلى أن تواجد قوات الأمن الفلسطينية في هذه المناطق كان له أثر إيجابي على السكان المحليين. وعلى الرغم من ان هذا التواجد يخضع لموافقة إسرائيل فيما يتعلق بحجم القوات وطبيعة التسليح، إلا انه يحدث فرقًا كبيرًا في فرض القانون والنظام. 

من الأمثلة الواضحة على قدرة السلطة الفلسطينية على توفير القانون والنظام والحفاظ على سياسة اللاعنف هي عمليات إنقاذ الإسرائيليين، الذين دخلوا عن طريق الخطأ إلى المناطق الفلسطينية. فخلال عام 2016 وحده، أنقذت قوات الأمن الفلسطينية أكثر من 400 إسرائيلي. في عام 2017، كان العدد 500. 

يوجه هذا الأمر الانتباه إلى العلاقات الأمنية بين السلطة وإسرائيل. وبهذه المناسبة تجدر الإشارة إلى أن ياسر عرفات لم يتخلى عن استخدام القوة كخيار حتى أثناء تفاوضه مع إسرائيل، في حين تجنب محمود عباس استخدام القوة كأداة سياسية. وهناك حوار أمني مستمر بين الجانبين وتبادل للمعلومات الاستخباراتية؛ ويشمل هذا التعاون الاتصال المستمر والاجتماعات وجهًا لوجه على المستويين الإقليمي والمحلي بين ضباط جيش الدفاع الإسرائيلي وقوات الأمن الوطني الفلسطيني، لمناقشة المخاطر والمصالح الأمنية المشتركة. كما يشمل أيضًا، تدفق المعلومات المتعلقة بحماس والجهاد الإسلامي في كلا الاتجاهين، والتنسيق الأمني أثناء العمليات الإسرائيلية في الضفة الغربية، مما يسمح للجيش الإسرائيلي باستخدام قوات أقل بكثير مما كان يحتاجه في السابق.

الجمهور الفلسطيني والتطور الأمني ​​للسلطة الفلسطينية

انعكست الاضطرابات السياسية والأمنية التي ميزت المنطقة منذ التسعينيات، وخيبة الأمل من إمكانية الدخول في سلام دائم، والميل لإدارة الصراع بدلًا من حله، سلبًا على الجانب الفلسطيني؛ فقد أدى تدهور الوضع السياسي والأمني ​​الذي أعقب الانتفاضة الأولى إلى ظهور تداعيات مادية واجتماعية واقتصادية جديدة.

كان أول تداعيات حاسمة للانتفاضة الأولى هو تغيير سياسة موشيه ديان السابقة “الحدود المفتوحة” بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. فبحلول عام 1991، كان جميع العمال والزوار الفلسطينيين بحاجة إلى تصاريح شخصية لدخول إسرائيل، وكانت هذه التصاريح تصدر حصريًا عن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ما حول دخول العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل إلى عملية بيروقراطية معقدة.

كما أوجدت اتفاقيات أوسلو التقسيم الحالي للضفة الغربية إلى مناطق أ، ب، ج. ويوجد حاليًا 169 جيبًا فلسطينيًا يشكل مناطق أ وب، ويتطلب التنقل بينهما عادة المرور بمنطقة ج، التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية وحدها. كذلك، يلعب النمو المستمر في البناء الاستيطاني (طوال فترة أوسلو أيضًا)، على الرغم من خطة فك الارتباط التي قامت بتفكيك جميع مستوطنات قطاع غزة بالإضافة إلى أربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، دورًا في إعاقة التنقل في الضفة الغربية. علاوة على ذلك، فإن المنطقة ج، التي تضم في كثير من الحالات أراض مملوكة ملكية خاصة للفلسطينيين، هي المكان الذي توجد فيه معظم المزارع الفلسطينية، وهي التي يحظر فيها التوسع في بناء المدن الفلسطينية.

وتشير منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية إلى أحداث عنف يومية تجاه الفلسطينيين وممتلكاتهم، تشمل أعمال عنف، وإلحاق أضرار بالممتلكات، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، ومخالفات أخرى، تتم عادة في المزارع الفلسطينية وضواحي القرى الفلسطينية. وتُظهر سلطات إنفاذ القانون الإسرائيلية، عجزًا شديدًا عن مواجهة هذا العنف، حيث قامت بالتحقيق في 1.9٪ فقط من الشكاوى التي قدمها فلسطينيون.

لهذه الأسباب، لا يزال الواقع السياسي السائد هو الحكم العسكري الإسرائيلي، ولا يزال هذا العامل يشكل تصورات الفلسطينيين عن التهديد، حيث يعتقد غالبية الفلسطينيين أن طموح إسرائيل على المدى الطويل هو ضم الأراضي المحتلة عام 1967 وطرد سكانها. 

ولم تُترجم إجراءات البناء الإصلاحي، التي تبناها محمود عباس، إلى ظروف أفضل فيما يتعلق بآفاق التأسيس الفعلي لدولة فلسطينية، ولم تتجسد في الحكم الرشيد والديمقراطية، بل ينظر إليها الجمهور الفلسطيني والعديد من الأكاديميين على أنها ترسيخ للسلطوية، كما ينظرون إلى سياسات قمع الاحتجاجات ضد إسرائيل، والمراقبة العالية للمجتمع، على أنها تجريم للمقاومة، وتكريس للاحتلال.

تسلط هذه الاتجاهات الضوء على المفارقة الأمنية فيما يتعلق بالسلطة الفلسطينية وتتلخص في أنه في الوقت الذي بات فيه التعاون الأمني ​​مع إسرائيل عميق، بات الحصول على دولة فلسطينية أكثر ضبابية. 

التناقضات الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية

لطالما كان الأمن جزءًا لا يتجزأ من الهوية الإسرائيلية منذ قيام الدولة. واستجابة للتحولات والضرورات السياسية الإقليمية والمحلية، انتقلت إسرائيل من رفض النضال الوطني الفلسطيني في عقوده الأولى، إلى قبوله خلال التسعينيات، وكان ثمرته إنشاء السلطة الفلسطينية وقواتها الأمنية. لكن على الرغم من ذلك، فقد أدت الأحداث التاريخية والتغييرات في المفاهيم إلى إحباط حل الصراع. 

لقد تركت العلاقات التاريخية الثنائية بين إسرائيل وفلسطين واقعًا مؤقتًا، حيث يرى جزء كبير من الرأي العام الإسرائيلي في إقامة دولة فلسطينية تهديدًا. وقد أدت التطورات الإقليمية والاضطرابات العربية إلى تنشيط بعض المذاهب الأمنية التاريخية، وأصبح يُنظر إلى النضال الوطني الفلسطيني كجزء من الاضطرابات الإقليمية. وهذا يتناقض بشكل حاد مع التطورات الأمنية الفلسطينية، التي قدمت درجة عالية من التعاون الأمني ​​ونهجًا غير عنيف، وأنقذت أرواح الإسرائيليين. 

وهنا تكمن المفارقة الأمنية الإسرائيلية، أنه في حين أن الأمن يمثل جزءًا قويًا من الهوية الإسرائيلية، فإن الجماعة الإسرائيلية تفشل في تقدير التصورات الفلسطينية الحالية للتهديد والمنطق الأمني، ولا تقدر التعاون الأمني الذي يميز حقبة الفلسطينيين الحاليين. 

لقد جسدت السلطة الفلسطينية تحولًا في نهجها الأمني ​​تجاه إسرائيل، والسعي إلى سياسة اللاعنف في طريقها إلى إقامة الدولة، والمرور بعملية إصلاح عميقة، وإنشاء قوة أمنية بنشر القانون والنظام داخل فلسطين. لكن هذا التطور برمته يقوم على مسألة الكرامة الوطنية وآفاق تحقيق الدولة. وبالمقارنة، في حين أن المنطق الأمني ​​لإسرائيل يتمحور حول الدولة، أي الأمن من حيث الحفاظ على الدولة، فإن المنطق الأمني ​​الفلسطيني يتركز على عدم الدولة، بمعنى أن قابليته الوحيدة للبقاء هي أنه يؤدي إلى تحسين الأمن والرفاهية للشعب، وفي النهاية إنشاء الدولة.

يختتم التقرير بتقديم بعض التوصيات منها؛ أنه يتعين على إسرائيل أن توضح علنًا، بالقول والفعل، أنه على الرغم من ارتباطها التاريخي الديني بهذه الأرض، فإنها تعتبر الضفة الغربية جزءًا من الأراضي الوطنية للشعب الفلسطيني، مع عدم وجود نية لضم وتشتيت شعبها. وعلى نفس المنوال، يتعين على إسرائيل أن تعالج بشكل مناسب الأنشطة الخارجة عن القانون من قبل الفصائل الأيديولوجية المتطرفة في الضفة الغربية، لا سيما في المناطق التي تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، ويجب تنفيذ سياسة لتمكين قوات الأمن الفلسطينية من العمل في المزيد من المناطق المعرضة للنشاط الخارج عن القانون التي أهملت بالفعل من قبل السلطات الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه، يؤدي ذلك إلى تعزيز شرعية السلطة الفلسطينية وقدرتها على توفير الأمن لشعبها. 

كذلك، فإن توسيع السيادة الفلسطينية إلى أجزاء من المنطقة (ج) لتمكين النمو الاقتصادي والسكاني أمر حاسم أيضًا من منظور الكرامة والحكم الذاتي. لقد استنفد النمو الطبيعي الفلسطيني جميع المساحات المتاحة التي ليست في المنطقة (ج) ومن الضروري أن تمكن إسرائيل من تحقيق هذا النمو. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى