تركيا

وحدة “مكافحة الدعاية المضللة”.. أحدث حلقات السيطرة التركية على الفضاء المعلوماتي

في خطوة جديدة لإحكام قبضتها على الفضاء المعلوماتي، وضمن مسلسل التضييق على الحقوق والحريات الذي تتواصل حلقاته منذ العام 2016، أعلنت الرئاسة التركية يوم الجمعة 18 سبتمبر الجاري، إنشاء وحدة جديدة تحمل اسم “الاتصال الاستراتيجي وإدارة الأزمات”، ضمن مديرية الاتصالات التابعة للرئاسة، بدعوى مكافحة كل أنواع التلاعب والتضليل من خلال تحديد أنشطة العمليات النفسية والدعاية والإدراك ضد تركيا. ووفقًا لما أعلنته أنقرة تشمل مهام الإدارة الجديدة الاتصالات الاستراتيجية وإدارة الأزمات في أوقات الكوارث الطبيعية وحالات الطوارئ والحروب وفترات التعبئة والأزمات الأخرى.

ومؤخرًا ردد المسؤولون الأتراك مصطلح “الدعاية السوداء” لوصف التغطية الإعلامية العربية والدولية الكاشفة لحقيقة المشروع التركي العثماني التوسعي الاستعماري الذي كان الدافع وراء سلسلة من الانتهاكات ارتكبتها أنقرة بحق العديد من الدول العربية، مستغلة حالة الفوضى والسيولة الأمنية وضعف الحكومات وانتشار الجماعات الإرهابية المصاحبة لما يُسمى بأحداث “الربيع العربي”، للتمدد في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط، واستباحة أراضيهم وثرواتهم والتدخل في شؤونهم الداخلية ومحاولة تشكيل أنظمة سياسية حليفة لها، ومستخدمة في ذلك جماعة الإخوان المسلمين كأداة لها.

وعندما وجد النظام التركي نفسه غير قادر على تبرير أخطائه على المستويين الداخلي والخارجي، لم يكن أمامه سوى الإشارة بأصابع الاتهام إلى دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وفرنسا واليونان وروسيا بتنظيم حملات “دعاية سوداء” ضد أنقرة، مع أن الإعلام العربي لم يخترع قصة “العثمانية الجديدة”، فأردوغان هو الذي يروج لها في كل تصريحاته، ودائمًا ما يشيد بالسلاطين والقراصنة العثمانيين، ويبدي رغبته في الاحتفال بأحداث في التاريخ العثماني على الرغم من استفزازها لشعوب المنطقة سواء كانوا عربًا أو أرمنًا أو مسيحيين. كما أن تركيا هي التي تأوي قادة الإخوان من مختلف الدول العربية وتزودهم بالمنصات الإعلامية التي يهاجمون منها بلدانهم، وليس مجرد ادعاء مرسل من وسائل الإعلام العربية والإقليمية.

السيطرة على وسائل الإعلام

عملت أنقرة على إسكات الأصوات المعارضة من خلال نظام رقابة صارم مبني على العديد من القوانين واللوائح التي تسمح للسلطات بتجريم الصحافة، وإغلاق المواقع الإلكترونية، ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي. وغالبًا ما يتم استخدام مصطلحات غامضة وغير محددة مثل “تهديد الأمن القومي” و”إهانة الأمة التركية”، كذريعة لتبرير الهجمات على وسائل الإعلام المستقلة، على الرغم من عدم تقديم دليل يدعم هذه الادعاءات، ودون تحديد معايير واضحة تفسر ماهية تهديد الأمن القومي أو إهانة الأمة التركية. 

ويُمكن استعراض أوجه السيطرة الحكومية على وسائل الإعلام على النحو التالي:

الإعلام التقليدي: يعتمد قطاع كبير من الجمهور التركي وبخاصة من فئة كبار السن على المصادر التقليدية في الحصول على المعلومات، حيث تتلقى الغالبية العظمى من الشعب الأخبار السياسية من التلفزيون. وبحسب بحث عن اتجاهات مشاهدة التليفزيون نُشر عام 2018، يشاهد المواطن العادي التليفزيون بمتوسط 3.5 ساعة يوميًا، ومعظمهم يتابعون البرامج الإخبارية التي تصل إلى حوالي 20 مليون مشاهد في وقت الذروة. ثم تأتي الصحف في المرتبة الثانية ضمن المصادر الأكثر شيوعًا للمعلومات، على الرغم من أن جمهورها أقل، إذ تصل الصحف التركية الثلاثون إلى حوالي 1.7 مليون قارئ أسبوعيًا، تحصل منهم الصحف الثلاث الأكثر متابعة على أقل من 200 ألف قارئ أسبوعيًا لكل منها.

ونظرًا للتأثير الواسع الذي تحدثه وسائل الإعلام التقليدية منها والحديثة في تشكيل وبناء اتجاهات الرأي العام، وفي ظل تصاعد الانتقادات الموجهة ضد سياسات الحكومة والرئيس التركي داخليًا وخارجيًا، قاد أردوغان مهمة للسيطرة على كافة المنافذ الإعلامية للدولة، وتحريكها في الاتجاه الذي يخدم مصالحة. فعلى مدار العقد الماضي، سيطر أفراد من عائلة أردوغان وحلفائه على أكثر من 90 في المئة من القنوات الإخبارية والصحف، خاصة بعد بيع شركة دوغان ميديا (أكبر مجموعة إعلامية في تركيا والتي تضم صحيفة حريت اليومية، وقناة CNN Türk الإخبارية، ووكالة الأنباء DHA، وحريت ديلي نيوز الناطقة بالإنجليزية، والقناة التلفزيونية Kanal D، وصحيفة التابلويد Posta)، إلى مجموعة Demirören Holding، التي يمتلك صاحبها صلات قوية بأردوغان، بعدما كانت هي المجموعة الإعلامية الوحيدة المتبقية التي لم يتم إخضاعها لسيطرة الحكومة التركية.

ويظهر حجم السيطرة في تنافس البرامج الإخبارية المسائية التي تقدمها القنوات الموالية لأردوغان، مثل ATV، على أكبر نسب المشاهدة مع القناة المستقلة مثل FOX TV، كما أن الصحيفتين الأكثر مبيعًا؛ صباح وحريت، مملوكتان الآن لأباطرة موالين للحكومة، كذلك فإن المواقع الإخبارية الأكثر زيارة مثل NTV وCNN Turk هي أيضًا موالية للحكومة. فضلًا عن أن الكثير من صحف تصدر حاملة نفس المانشيت.  

وتمنح هذه السيطرة لأردوغان ميزة أساسية في تشكيل الخطاب العام لصالحه، وإظهاره في صورة الزعيم المحاصر الذي يسعى للنهوض بتركيا وسط ممانعة عالمية شرسة. بالإضافة إلى أنها تحقق الرقابة الذاتية للإعلاميين، فأي كاتب عمود أو مراسل أو مقدم أو محرر أو منتج يفكر مرتين قبل نشر أي محتوى مناهض، وفي كثير من الأحيان، يتدخل المحررون أو المنتجون في عمل المراسلين إذا اعتبروه حساسًا من الناحية السياسية.

ولعل من أبرز مظاهر التوجيه المباشر الحكومي للسياسة الإعلامية، إرسال مسؤولي الاتصال في قصر الرئاسة ورقة من 24 نقطة لكل الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون، تتضمن تعليمات عن كيفية ممارسة مهنة الصحافة من وجهة نظر النظام، بالتزامن مع الهجوم الذي شنه الجيش التركي على شمال سوريا في أوائل أكتوبر 2019. كذلك، تم تسريب محادثة هاتفية بين أردوغان وديميرورين عام 2014، وبخ خلالها أردوغان رئيس المجموعة بسبب كشف صحيفة ميليت محادثات السلام بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني “PKK”.

الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي: لم تقتصر القبضة الحكومية على وسائط المعلومات التقليدية، بل امتدت إلى التحكم في الوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت.

ففي فبراير 2014، أقر البرلمان التركي مشروع القانون الأول الذي زاد من صلاحيات الهيئة الوطنية للاتصالات “TIB” ووسع من سلطاتها الرقابية، والسماح لها بإصدار قرارات حظر الوصول إلى المواقع دون قرار محكمة مسبق، وبعد تقديم شكوى بشأن انتهاك خصوصية الأشخاص. وأدى هذا القانون إلى إنشاء مسؤوليات والتزامات جديدة لمزودي خدمة الإنترنت إذ يشترط القانون عليهم جمع وحفظ جميع بيانات أنشطة المستخدمين لمدة عامين ومشاركة هذه البيانات مع السلطات إذا طلب ذلك. 

وفي أوائل عام 2015، تم إعداد مشروع قانون جديد يتضمن المزيد من القيود على حرية الإنترنت، منها منح رئاسة الوزراء والوزارات الأخرى ذات الصلة سلطة مطالبة TIB بإغلاق المواقع الإلكترونية في غضون أربع ساعات لقضايا تتعلق بالأمن القومي وحماية النظام العام ومنع الجريمة وحماية الصحة العامة. 

وفي 21 مارس 2018، أقر البرلمان التركي قانونًا يضع خدمات الفيديو عبر الإنترنت تحت سيطرة هيئة تنظيم الإعلام والإنترنت “RTÜK”، وبموجبه تحتاج خدمات الفيديو عبر الإنترنت إلى الحصول على ترخيص من أجل مواصلة العمل، وقبل إصدار الترخيص، سيتم إجراء تحقيق قد يشمل الشرطة وجهاز المخابرات التركي.

وفي 1 أغسطس 2019، تم نشر لائحة تطالب جميع مزودي المحتوى عبر الإنترنت، بما في ذلك خدمات البث مثل يوتيوب ونت-فليكس، والمواقع الإخبارية عبر الإنترنت، بالحصول على ترخيص من الهيئة الحكومية المسؤولة عن تنظيم الإعلام والإنترنت “RTÜK”، وهو ما يجعلها مسؤولة عن مراقبة المحتوى عبر الإنترنت، ويتطلب من موفري المحتوى الالتزام بمعايير “RTÜK” غير المحددة أو مواجهة إلغاء ترخيصهم وحظر منصاتهم. 

وقد واجهت نت-فليكس، وهي خدمة البث الأبرز في تركيا، صعوبات فعلية مع الرقابة التركية واضطرت إلى تعديل محتوى برامجها المنتجة في تركيا، كما ألغت إنتاج أحد المسلسلات قبل يوم من الموعد المقرر لبدء التصوير، بعد أن رفضت هيئة تنظيم وسائل الإعلام منحها إذن بالتصوير.

وفي 29 يوليو الماضي، أقر البرلمان التركي مشروع قانون يفرض مزيدًا من الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يلزم مشروع القانون منصات التواصل الاجتماعي التي تضم أكثر من مليون مستخدم يوميًا، مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب، بفتح مكاتب لها في تركيا ويفرض عقوبات صارمة إذا رفضت الشركات الدولية هذا، بما في ذلك إبطاء النطاق الترددي لتلك المنصات بنسبة 90% وجعلها غير قابلة للوصول إلى حد كبير. وستكون هذه المكاتب مسؤولة عن الاستجابة لمطالب الحكومة والأفراد بحظر أو إزالة المحتوى الذي تعتبره مسيئًا على منصاتها، وسيكون أمامها 48 ساعة للامتثال وإلا يتم تغريمها بأكثر من 700 ألف دولار إذا رفضت الاستجابة. ويطلب أيضًا القانون من شركات التواصل الاجتماعي تخزين بيانات المستخدم داخل تركيا، مما يثير مخاوف بشأن الخصوصية.

وفي الواقع تلجأ الحكومة إلى تقليل النطاق الترددي لمواقع التواصل الاجتماعي خلال الأحداث السياسية الكبيرة، حينما تتوقع الحكومة موجه من الانتقادات. لكن القانون الجديد سوف يقنن الممارسات الحالية من خلال إضافتها إلى مجموعة العقوبات التي يمكن تطبيقها على الشركات الاجتماعية عندما لا تمتثل لمطالب الحكومة.

وتدعي الحكومة أن القانون ضروري لحماية المواطنين من الجرائم الإلكترونية، لكنه في واقع الأمر جزء من جهد أوسع للسيطرة على تدفق المعلومات في البلاد وقمع المعارضة، بعدما باتت وسائل التواصل الاجتماعي الملاذ الأخير لكثير من الصحفيين لإيصال صوتهم.

وقد اتخذت قضية محتوى وسائل التواصل الاجتماعي منعطفًا شخصيًا مؤخرًا، عندما تعرض حفيد أردوغان المولود حديثًا، وهو الطفل الرابع لابنته إسراء البيرق زوجة بيرات البيرق وزير المالية، للإهانة على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. إذ قال أردوغان لمسؤولي حزب العدالة والتنمية في خطاب متلفز في 1 يوليو إن “تلك المساحات التي تتفشى فيها الأكاذيب والتشهير والهجوم على الحقوق الشخصية واغتيالات الشخصيات، يجب ترتيبها. نريد إزالة مساحات التواصل الاجتماعي هذه بالكامل والسيطرة عليها”.

وتقود نظام الرقابة على المحتوى الرقمي وكالتان هما؛ هيئة تنظيم الإعلام والإنترنت “RTUK”، وقسم مكافحة جرائم الإنترنت في الشرطة الوطنية، حيث تعملان معًا على مراقبة وإزالة والتحقيق في جميع المحتويات غير المطبوعة بناءً على طلب الحكومة. وقد حجبت “RTUK” بعض المواقع الإلكترونية في وقت سابق، بما في ذلك ويكيبيديا (حجبت 3 سنوات) وفيسبوك ويوتيوب؛ ففي أغسطس 2019، حجبت الهيئة 136 موقعًا، بما في ذلك الصحيفة اليومية المستقلة “Bianet.org”. وفي فبراير الماضي، وبعد هجوم تسبب في مقتل 33 جنديًا تركيًا في سوريا، حظرت الهيئة تويتر وفيسبوك وانستجرام وواتساب بالإضافة إلى مواقع الويب الأخرى لعدة ساعات. فيما يتفاخر قسم مكافحة جرائم الإنترنت بأنه يراقب 45 مليون حساب على وسائل التواصل الاجتماعي. 

المفارقة هنا أن وسائل التواصل الاجتماعي تلك التي تشهد حملة شديدة الضراوة، هي ذاتها التي لجأ لها أردوغان خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة المزعومة في 2016، حيث خرج في مقطع فيديو قصير على تطبيق Face Time عرضته مقدمة الأخبار في محطة CNN Turk، هاند فرات، على جهاز الـ iPhone الخاص بها، يطالب فيه الناس بالنزول إلى الشوارع وإحباط الانقلاب، كما أطلق أردوغان نداءات إلى أكثر من 8 ملايين متابع عبر منصات مختلفة، مثل فيسبوك وواتساب وتويتر، يطالبهم فيها بالخروج إلى المطارات والساحات العامة لمقاومة الانقلاب. وقد دفع ذلك الكثير من الناس إلى الشوارع بالفعل.

ولا شك أن الوحدة المنشأة حديثًا ضمن هيئة الاتصالات الرئاسية، ستمثل حلقة جديدة في سلسلة خنق حرية الصحافة والتعبير في البلد، إذ إن أحد اختصاصاتها إجراء وتنسيق العمليات المتعلقة بإجراءات اعتماد وسائل الإعلام المحلية وأعضائها، واتخاذ الإجراءات التيسيرية لعمل الصحفيين المحليين، وإنشاء مراكز صحفية دائمة أو مؤقتة عند الضرورة وتنظيم فعاليات من أجل تقوية الصحافة الوطنية والإقليمية والمحلية. فضلًا عن التحكم في وسائل الإعلام الأجنبية العاملة في البلاد إذ تجري وتنسق العمليات المتعلقة بإجراءات اعتماد وسائل الإعلام الأجنبية وأعضائها، وتتخذ وتنفذ الإجراءات التيسيرية لعمل وسائل الإعلام الأجنبية، وإنشاء مراكز صحفية دائمة أو مؤقتة عند الضرورة. بحسب ما ورد على الموقع الرسمي لمديرية الاتصالات.

أرقام كاشفة

من المعروف أن لغة الأرقام لا تكذب؛ فهي كاشفة لحجم التحكم الحكومي التركي في المحتوى الرقمي، فبحلول يوليو 2020، كان قد تم حجب 415 ألف موقع إلكتروني، و140 ألف رابط منهم حوالي 6 آلاف رابط لمواقع إخبارية، و42 ألف تغريدة على تويتر، و12 ألف مقطع فيديو من يوتيوب، و7 آلاف حساب على تويتر، و6500 حساب على فيسبوك، لتحتل تركيا المرتبة الأولى في طلبات الحجب المقدمة من الحكومة لموقع تويتر بواقع 5099 طلبًا في الفترة من 2006 حتى 2019، فضلًا عن 7396 أمرًا قضائيًا تم إرسالها إلى تويتر بين عامي 2012 و2019. ولتكون من ضمن أكبر الدول المقدمة طلبات حجب إلى موقع فيسبوك، بحسب إحصائية لجمعية حرية التعبير في إسطنبول.

ويحتل الموقع الإخباري لصحيفة حريت المرتبة الأولى في عدد الموضوعات التي تم حجبها، بواقع 1858موضوعًا، يليه في المرتبة الثانية موقع جريدة صباح بـ 1118موضوعًا، وجمهوريت بـ 853 موضوعًا، وسوزكو بـ 809 مواضيع، وT24 بـ 777 موضوعًا، وذلك في الفترة الممتدة من 2014 وحتى 2019. 

وعند النظر إلى أحدث بيانات تخص العام 2019، نجد أنه تم حجب 42145 رابطًا إلكترونيًا بواسطة هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات “BTK” وفقًا للمادة 8 من القانون رقم 5651 المنظم للإنترنت، و16.797 بناءً على أوامر من القضاة أو المحاكم أو المدعين العامين، و1334 من قبل وزارة الصحة والطب ومؤسسة المعدات الطبية، و292 من قبل مجلس أسواق رأس المال “SPK”. وسجل موقع صحيفة حريت أعلى عدد من الروابط المحجوبة بـ 336 رابط، أزالت 318 منهم، وتلاها موقع haberler بـ 226 تقريرًا أزالت منهم 210، ثم صحيفة الصباح بـ 222 تقريرًا أزالت منهم 34. فيما احتفظت OdaTV وsoL وmemurlar.net وEvrensel بأكثر من 90% من التقارير المحجوبة على مواقعهم. ولم تقم Diken وbianet وSendika.Org بإزالة أي محتوى بسبب الحظر. 

مع ضرورة الإشارة إلى أن العام 2019 هو الأعلى الذي شهد إيقاف بث أكبر عدد من القصص الإخبارية بواقع حظر 5599 تقريرًا إخباريًا وحذف 3528 تقريرًا منها.

وشنت الحكومة التركية حملة واسعة لاعتقال الصحفيين، بعد انقلاب 15 يوليو 2016، حيث بلغ عدد الصحفيين المعتقلين بنهاية هذا العام فقط 234 صحفيًا، ويصل عدد الصحفيين المعتقلين حاليًا إلى نحو 319 صحافيًا، بتهم متعددة كالتجسس وإهانة الرئيس وتعريض الأمن القومي للخطر والاتصال بجماعة إرهابية (مقصود جماعة فتح الله جولن التي تتهمها أنقرة بالتورط في انقلاب 2016)، وبذلك تحتل تركيا المرتبة الثانية عالميًا في قائمة الدول الأكثر اعتقالًا للصحافيين، حيث وصفتها منظمة العفو الدولية بـ “زنزانة الصحفيين”، فضلًا عن فقدان العديد من الصحفيين لوظائفهم بسبب إغلاق الصحف.

وتشتد حملات الاعتقالات بحق الصحفيين خلال فترات الأزمات الوطنية؛ فبعد توغل القوات التركية في سوريا في فبراير 2018 اعتُقل 845 شخصًا لمعارضتهم الحرب على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالمثل، اعتقلت الشرطة المئات من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أثناء جائحة كورونا ووضعت آلاف آخرين تحت المراقبة. 

البروباجندا والمعلومات المضللة

في واقع الأمر، إن الاتهام الذي توجهه الحكومة التركية ورئيسها لوسائل الإعلام العربية والدولية بشن دعاية سوداء لمجرد نقلها وقائع حقيقية نفذتها تركيا على الأراضي العربية، ولكن كشفها ليس على هوى أردوغان، هو ما تمارسه حكومة أنقرة بعينه، حيث أسست تحت إشراف هيئة الاتصالات التابعة للرئاسة جيشًا من الكتائب الإلكترونية التي تعمل ليل نهار على الترويج لسياسات أردوغان وإنزال السباب بكل من يعارضها.

هذا بالضبط ما كشفته شركة تويتر في يونيو الماضي، حيث فضحت واحدة من أكبر عمليات التلاعب الحكومية المرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي، بعدما أعلنت العثور على7340 حسابًا مزيفًا مرتبطًا بعمليات الدعاية الموالية للحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية الحاكم، تم إنشاؤها جميعًا في نفس اليوم بأسماء مستخدمين مزيفين متشابهة، تم بواسطتها إجراء 36.9 مليون تغريدة معظمها باللغة التركية فضلًا عن عمليات إعادة تغريد تقوم بها الشخصيات المزيفة لبعضها البعض لتحقيق انتشار أوسع.

ونظمت تلك الشبكة حملات لتضخيم الروايات السياسية المؤيدة لحزب العدالة والتنمية ومهاجمة أي أصوات تنتقده، وإظهار دعمًا قويًا لأردوغان، وتوجيه الانتقادات لحزب الشعوب الديمقراطي المعارض حيث وصفوه بـ “الإرهاب”، ولحزب الشعب الجمهوري المعارض، والترويج للاستفتاء على دستور 2017 الذي منح أردوغان مزيدًا من السلطات، ودعم الحملات العسكرية مثل الغزو التركي لسوريا في أكتوبر 2019، وتشويه سمعة الجماعات في المنطقة التي تعارضها تركيا باعتبارها “إرهابية”.

كما يمتلك حزب العدالة والتنمية الحاكم آلة دعائية تعمل على ثلاثة مستويات؛ الأول، يقوم على التعامل المباشر مع الجماهير بواسطة أُناس عاديون، والغرض من ذلك إيصال رسالة للمواطنين بأن من يحكمهم منهم وليسوا نُخبًا بعيدة عنهم. أما المستوى الثاني، يختص بشن حملات تشهير ضد المنتقدين، بهدف إحداث تأثير مخيف على المعارضة، وتوجد فئة ضمن هذا المستوى مهمتها التماهي مع السياسة الخارجية التركية، فعلى سبيل المثال، إذا كانت تركيا على خلاف مع روسيا، فإنها تشوه سمعة روسيا، وإذا قررت الحكومة إصلاح العلاقات مع روسيا، فإنهم يفسرون أهمية العلاقات الطيبة مع موسكو. أما المستوى الثالث، الذي يقبع على رأس الهرم، فيتعلق بالعقل المسيطر على استراتيجيات الاتصال، وهم اُناس غير معروفين للعامة يستخدمون جميع الأدوات العلمية الممكنة لقياس نبض المجتمع، ويراقبون جميع الأخبار الدولية والمحلية، باستخدام أحدث التقنيات، لقياس الأخبار والبيانات التي لها تأثير أو تلك لا يلاحظها أحد في الجمهور.

ولا تكتفي أنقرة بشبكات الدعاية الداخلية والخارجية القائمة، لكنها تسعى إلى بناء شبكة دولية بالشراكة مع بعض الدول الحليفة، لتكون بمثابة آلة إعلامية لتحسين صورة أنقرة ورئيسها على الساحة الدولية. وفي هذا، أطلقت قناة TRT التركية الحكومية منصة رقمية روسية جديدة “TRT الروسية”، في مايو الماضي، ستكون مهمتها بالتأكيد الترويج للرواية التركية بشأن القضايا المختلفة المثارة على الساحتين الإقليمية والدولية، لدى الجمهور المتحدث باللغة الروسية، تحت ستار “تقديم أخبار متوازنة ومكافحة التضليل الإعلامي”، وهي أيضًا وسيلة للتواصل مع الأقليات التركمانية في روسيا وآسيا الوسطى.

كما اتفقت أنقرة وأذربيجان خلال اجتماع جمع رئيس هيئة الاتصالات في الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون، ونائب الرئيس الأذري، حكمت حاجييف، في سبتمبر الجاري، على تشكيل منصة إعلامية مشتركة، قالوا إن هدفها “نشر الأخبار الدقيقة بسرعة للجمهور الوطني والدولي، ومحاربة الأخبار المفبركة والتضليل، وتشكيل استراتيجيات مشتركة ضد الأخبار المزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي”.

وخلال استقباله وفدًا برئاسة نائب وزير إدارة الإذاعة والتلفزيون الوطنية الصينية، في نوفمبر 2019، دعا ألتون إلى التعاون في مواجهة ما أسماه الدعاية السوداء ضد الدولتين، من خلال أنشطة الدبلوماسية العامة المشتركة ووسائل الإعلام.

وتأتي المهمة الدعائية على رأس أولويات الوحدة المنشأة حديثًا، وهو ما اتضح في مهامها المحددة على الموقع الإلكتروني التابع لها، بترجمة المطبوعات المعدة للترويج لتركيا إلى اللغات المطلوبة، ووضع سياسة اتصال استراتيجي مع المؤسسات والمنظمات الدولية بما يخدم ما يعتبره “المصالح التركية”.

ختامًا، يتضح مما سبق أن العداء التركي لكل ما يتعلق بالصحافة والإعلام على كافة أشكاله وأنماطه وصورة، يرجع إلى فترة سابقة على محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، ومع ذلك مثل هذا التاريخ نقطة فاصلة فيما يتعلق بالحقوق والحريات، ومنها حرية التعبير عن الرأي وحرية تداول المعلومات وحرية الصحافة والإعلام، التي شهدت حملات شرسة لقمعها وتحجيمها وبسط السيطرة الحكومية عليها بكافة الطرق المشروعة وغير المشروعة، بما يضمن توجيهها لصالح وجهة نظر النظام التركي، وخلق رأي عام محلي ودولي مؤيد للمشروع التركي أو على الأقل غير ناقم عليه، وإسكات كافة الأصوات المناوئة. ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة مزيدًا من السيطرة والتوجيه في ظل إنشاء وحدة “مكافحة الدعاية المضللة” التي سيكون لها دور واسع في مراقبة المحتوى الرقمي والورقي والمرئي، وتنظيم حملات دعائية محلية ودولية لتحسين صورة أردوغان بعد سلسلة من الهزائم تلقاها على الساحة العربية مؤخرًا، فضلًا عن أزمات اقتصادية محلية عززتها جائحة فيروس كورونا. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى